موقف المسلمين العرب من الحضارة الغربية حسين أحمد أمين

علاقة معقدة هي علاقة المسلمين بالحضارة الغربية، بدأت بالتحدي ثم اهتزاز الثقة بالنفس ومحاولة تقليدها وانتهت بمحاولة الثورة عليها والبحث عن طريق جديد. فهل يمكن أن يجد المسلمون صيغة صحيحة كي يأخذوا أفضل ما في الحضارة الغربية وأن يستطيعوا النجاة من أزمتها الروحية؟.

كانت الانتصارات الحربية والسياسية التي حققها الإسلام في حقبه التاريخية الأولى، قد غرست في نفوس الشعوب الإسلامية شعوراً من الاطمئنان والرضا عن النفس، لم تر معهما حاجة إلى تقليد ما ابتدعه الغرب منذ بداية عصر نهضته من أسلحة وأدوات ونظم وأفكار، كوسيلة للتصدّي لهذا الغرب ذاته. وقد كانت ذكرى هذه الانتصارات الإسلامية هي أيضاً مما جعل الغرب يتردّد طويلا في شأن الانتقال من طور الدفاع إلى طور الهجوم، خشية أن تتكرر هزائمه في الحروب الصليبية المتتالية غير أنه ما أن أحرز الغرب انتصاره الحاسم عام 1683 م على الأتراك العثمانين المهاجمين عند " فيينا"، حتى بدأ يدرك حقيقة ضعف خصمه، ويتطلع إلى الهجوم المضاد. غير أن هذا الهجوم المضاد تأخر قرابة قرن من الزمان لعدة أسباب منها انشغال الدول الأوربية بتأسيس مستعمرات لها في كل من آسيا والعالم الجديد. فما حلّ عام 1768 م حتى اشتعلت نيران الحرب الروسية التركية التي توالت خلال سنواتها الست الهزائم الساحقة على العثمانين، وبحلول عام 1798 م كانت الحملة الفرنسية على مصر، ثم توالت بعد ذلك هجمات الأوربيين على العالم الإسلامي التي أسفرت عن وقوع جل أقطاره في براثن الاستعمار الغربي.

اهتزاز ثقة المسلمين بأنفسهم

وقد أزعج المسلمين ما منوا به من هزائم على يد مخالفيهم في الدين. وكان أن بدأت ثقتهم بأنفسهم تهتز. بل إن الاعتزاز بالدين نفسه سرعان ما تأثر هو أيضًا لدى الكثيرين. وكان منهم من لم يفهم الهزيمة الحربية على معناها الدنيوي، وإنما عجب لما أصابه من مذلة والقرآن يقول: ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين، ولما حلّ به من هزيمة والقرآن يقول: وكان حقا علينا نصر المؤمنين. ومع ذلك فإنه مما يسرّ لغالبية المسلمين بعد ذلك الإذعان لمختلف مظاهر الحضارة الغربية أمران، الأول: اتخاذ الحضارة الغربية لنفسها إطاراً دنيوياً بحتاً، وإغفال المستعمرين اعتبار الدين بحيث لم يبدُ الأمر في صورة استعباد أهل ملة معينة لأهل ملّة أخرى؟ والثاني: تصديق الغالبية في الأقطار المفتوحة لادعاء الغرب أن حضارته إنما هي حضارة كاملة دائمة، وأن الصورة الدنيوية لها بعد تحررها من ربقة الدين هي الصورة النهائية الناضجة للحضارة بوجه عام، وهي صورة لا يمكن أن يعتورها تدهور أو يصيبها فساد، بل ومن المحتم أن تقود الإنسانية إلى الطريق نحو الوحدة الاجتماعية.

وقد أحدث اتصال العرب الوثيق بالمدنية الغربية، وغزو هذه المدنية لبلادهم، أثراً عميقا في طبقة المسلمين المستنيرين، وفي علاقة أفرادها بما توارثته من نظريات وتقاليد دينية، إذ شعروا بحاجة شديدة ملحة إلى التقريب والملاءمة بين هذه النظريات والتقاليد وبين الأحوال الجديدة التي وجدوا أنفسهم فجأة في ظلها. وقد كان من المؤسف حقًا أن تجيء جهود هؤلاء الساعية إلى التوفيق بين الحياة والفكر الإسلاميين وبين مطالب الحضارة الغربية في الوقت الذي تزعزعت فيه ثقتهم بتراثهم بل وبدينهم، ونظروا إلى المستعمرين نظرتهم إلى أنصاف الآلهة. فلم يكن من الغريب إذن أن تغلب على محاولتهم نزعة عقلية هي نزعة أوربية محضة، وأن يتبنّوا قيما كلها أو جلها من قيم الغربيين المستعمرين. فإن كان هؤلاء المفكرون قد انبروا للدفاع عن الإسلام والإشادة به لصدّ الحملات التي شنّها المسيحيون للطعن فيه حتى لا يقف حائلا دون غزو مدنيتهم (وبضائعهم)، فإنما تركز دفاعهم على إزالة وصمة مناقضة تعاليمه للحضارة، وإثبات مرونة الأحكام والأوضاع الإسلامية، وسهولة تشكّلها حتى تطابق حاجات الجنس البشري في كل زمان ومكان.. وقد اكتشف هؤلاء شبها قوياً بين الإسلام " الحق " وقيم السلف الصالح، وبين القيم الغربية الحديثة. وكان أذكاهم من دعا إلى التفرقة بين معالم الإسلام الأصلية وبين الزيادات التاريخية التي أضيفت إليه عن طريق الإجماع، والتي يسهل التضحية بها في سبيل حاجات المدنية، ومقتضيات العمران، وذهب إلى أنه لا يقف بين المسلمين وبين النهضة غير حوائل زائفة في إمكانهم إزالتها بإصلاح نظام التعليم، وتطهير الإسلام مما علق به من شوائب عبر القرون، وإعادة صياغة العقيدة الدينية على ضوء الفكر الحديث، والعناية بدراسة العلوم الحديثة وتاريخ أوربا للتوصل إلى معرفة سرّ تقدمها.

المصلحون والدعوة إلى التغريب

وهكذا أخذ من سمّوا بالمصلحين في كل البلاد الإسلامية يدعون دعوات متشابهة، عمادها أن تأخذ شعوبها من المدنية الغربية ما يناسب، وأن يأخذوا من المدنية الإسلامية ما يناسب.. وكانت خلاصة رأيهم "أن عقدة العقد في موقف المسلمين اليوم هي التوفيق بين المدنية الغربية والمبادئ الإسلامية. غير أن المسلمين لحسن الحظ ليسوا مخيرين بين التمسك بدينهم وبين اعتناق الحضارة الغربية. فخير للعالم الإسلامي اليوم أن يأخذ من المدنية الغربية كل علمها وتجاربها في الصناعة والزراعة والتجارة والطب والهندسة وسائر العلوم، من غير قيد ولا شرط، ثم يحتفظ مع ذلك بروحانيته التي يلوّن بها هذا العلم، فتجعله موجها في البشرية لا لغلو ّفي كسب مال، ولا لإفراط في نعيم، ولا للقوة والغلبة، ولكن للخير العام. وهذا هو المبدأ الذي يضيء للمسلمين الطريق، ويبدّد حيرتهم، ويحل الكثير من مشاكلهم. فدينهم الإسلامي لا يمنعهم أيّ منع من ذلك، بل إن الإسلام حث على طلب العلم ولو في الصين، ولا شيء يمنعهم من ذلك إلا تمسكهم بالتقاليد الموروثة، وتقديسهم للعادات المألوفة، ودينهم براء من ذلك... وإنما بزّت أوربا الشرق المسلم في مضمار الحضارة لا لأنها مسيحية، وإنما لعنايتها بتطوير العلوم وإهمال المسلمين لها. وليس في الإقبال على التعليم من الغرب من بأس، ولا هو مدعاة للخجل، فإنما كان الفضل في نهضة العلوم في أوربا راجعًا إلى استفادتها من النقل عن المسلمين الذين عنوا بالحفاظ على تراث الإغريق وتطويره وتنميته ".

هكذا كانت دعوة هؤلاء "المصلحين ". وهي دعوة أيدها المستعمرون وأبهجتهم، خاصة إن صدرت عن رجال الدين البارزين من أمثال الشيخ محمد عبده، إذ رأوها في مجملها دعوة مقنعة إلى التغريب. والذي نتج عن هذه الدعوة هو ما كان متوقعاً منها ؛ فتحت الباب على مصراعيه أمام الاقتباس من مدنية الغرب دون حرج، في حين أغفل الشطر الثاني وكأنما لم يورده الدعاة إلا من قبيل التمويه والنفاق وتسهيل الأمر. وإنه لمن الشائق حقًا أن نقرأ في العدد الأول من مجلة "العروة الوثقى " تحديدًا لأهداف المجلة، ومن بينها " 0000 3- الدعوة إلى التمسك بمبادئ السلف المماثلة في واقع الحال لمبادئ الدول الأجنبية القوية المتقدمة!".

فهنا إذن إحساس بتفوق الغرب، وإدراك لضرورة الدفاع، واعتراف بصحة الأسس التي تقوم عليها حضارة الدول الأوربية تضمّنته الإشارة إلى الشبه بينها وبين مبادئ الإسلام، وهو أكثر صنوف الإطراء والمديح إخلاصًا. وقد شكا المبشرون المسيحيون من أن هؤلاء المصلحين الإسلامين إنما يتبنّون الأفكار والقيم المسيحية، ويسعون إلى تشييد صرح إسلام جديد "مسيحي ". غير أن الواقع أنهم لم يتبنوا القيم المسيحية، وانما نسبوا إلى الإسلام القيم الليبرالية الإنسانية البورجوازية التي عمّت أوربا خلال القرن التاسع عشر، وهي قيم غير مشتقة عن المسيحية.

نحن وأزمة الغرب الروحية

فإن كان الطابع الدنيوي للحضارة الغربية ردّ فعل لأهوال الخلافات الدينية في العصور الوسطى، فقد كان من المحتم أن تحدث في الغرب، إن عاجلاً أو آجلاً، حركة مضادة لهذا الطابع. وقد بدأت هذه الحركة المضادة في التبلور في الخفاء في الوقت الذي كان سائر العالم- ومنه الأقطار العربية- ينهل فيه من الحضارة الغربية نهلاً، ويتخلى عن تراثه الثقافي وعن تقاليده ودينه. وكانت المأساة المضحكة أنه في اللحظة التي تم فيها تبني الشعوب غير الغربية لحضارة الغرب الدنيوية، وجدت هذه الشعوب نفسها قد وقعت في شباك أزمة الغرب الروحية التي انتابته فجأة في القرن العشرين، والتي كان لها صداها في مختلف بقاع العالم. فمنذ نشوب الحرب العالمية الأولى، بدأ الغربيون أنفسهم يدركون أن حضارتهم الدنيوية الحديثة ليست بالكاملة على الإطلاق كما خالوها في البداية، وأنها أبعد ما تكون عن الحصانة ضد الانهيار وضد عنيف الأزمات. وقد كان الأمر في الواقع مؤسفا بالنسبة للشعوب غير الغربية أكثر منه بالنسبة لشعوب الغرب. فقد وجدت الأولى نفسها معلّقة بين تراث ودين وتقاليد قد هجرتها وفقدت ثقتها فيها، وحضارة غربية لم تملك بعد ناصيتها، ولم تكد تبلغ يدها الثمرة حتى بدت تلك الثمرة معيبة فاسدة.

وكان أن نتج عن هذا شعور حاد بالمرارة تجاه الغرب، وحدوث انفصام في المجتمع وفي نفوس الأفراد لّما يلتئم..

وقد علمنا التاريخ أنه في المجتمعات التي تمر بهرّات عنيفة، أو تطورات ضخمة متلاحقة، كثيراً ما تظهر جماعات دينية انعزالية تميل إلى أن تغلق الأبواب على نفسها في عالم خاص بها، وتقلل إلى أقصى حد ممكن من صلاتها وعلاقتها ببقية العالم. وقد ظهرت مثل هذه الجماعات بين كل من اليهود والمسيحين والمسلمين. وربما بين غيرهم من أتباع الديانات الأخرى. فمن بين أبرز الأمثلة التاريخية على رفض التكيف وفق الأحوال الجديدة، موقف الفريسيين اليهود من غير اليهود، إذ وضعوا القواعد المفصّلة الصارمة التي تكفل تجنب كل صلة بمن هوليس يهوديا وذلك حين كانت الهيلينية تهدد بابتلاع الديانة اليهودية واستئصالها من الوجود. كذلك ظهرت في بقاع كثيرة من العالم المسيحي، خاصة منذ منتصف القرن التاسع عشر، جماعات (أشهرها جماعة شهود يهوه)، أفرادها من المسيحيين الأتقياء الذين وجدوا من الصعب أن يوفّقوا بين الاكتشافات الحديثة في علوم الفلك والطبيعة والكيمياء والنظريات المتعلقة بتاريخ الأرض وظهور الحياة فيها، وبين مفهومهم التقليدي عن الكتاب المقدس. وكان أن وجهوا همهم الاكبر إلى تجنب الاتصال بالتيارات العلمية والفكرية التي سادت مجتمعهم، ورأوا أنه لابدّ من أجل حماية عقيدتهم من عزلة صارمة وسط مجتمع لابد أن تؤدي به ثقافته وأنماط عيشه إلى الكفر. وكانت النتيجة أن قبلت هذه الجماعات وضع الأقليات في مجتمع أفراده على دينها نفسه في الظاهر على الأقل.

وقد كان هذا هو ما حدث أيضاً في العالم الإسلامي مع بداية الثلاثينيات من هذا القرن، حين بدأت تظهر جماعات إسلامية دعوتها شديدة الاختلاف عن دعوة المصلحين الإسلاميين من أتباع محمد عبده، بل ورأت في هؤلاء "المصلحين" شبها قويا بدعاة التغريب إذ هم لم يطعنوا في قيم الغرب وإنما انتحلوها للإسلام، فلم يقدموا بفعلهم هذا بديلا حقيقيا لأمتهم. وقد ذهبت هذه الجماعات الجديدة، بدءا بجماعة الإخوان المسلمين، إلى أن الإسلام بمفرده قادر على التصدي لكل تفاصيل مظاهر حياة الفرد والمجتمع دون حاجة إلى اقتباس من حضارات وأنظمة أجنبية. ومع ذلك، ورغم هذا الإصرار منهم على شمولية الإسلام وتفرّده، وتميز كل نظمه ومفاهيمه عن كل النظم والمفاهيم الغربية، لم يفلحوا إلا في إبراز حفنة من النقاط والقضايا، ركزوا عليها وألحفوا في تكرارها إلى حد الإملال، دون أن يتجاوزوها إلى غيرها إلا في النادر. وأعني بهذه النقاط: موضوع الربا وفائدة البنوك، وسفور المرأة وتحديد النسل، والحدود، وكراهة العلمانية والعقلانية، والنفور من استخدام سبل البحث العلمي والمنهج التاريخي في مجال الإسلاميات.

الجماعات الانعزالية والمعرفة

ثم عيب خطير آخر يتمثل في مفهوم أفراد هذه الجماعات عن المعرفة. فهي عند المجتمعات المّتسمة بالحيوية والتحضر تعني استخدام المعروف في إماطة اللثام عن المجهول. أما عند هؤلاء فهي لا تعني أكثر من تجميع المعلومات. والمعلومات في رأيهم ليست بالمتطورة، النسبية، القابلة للاتساع، بل هي ثابتة خالدة. وقد نجم عن هذا المفهوم ثلاث عواقب:
الأولى: أن المعرفة عندهم لم تعد عنصراً ديناميكيا في الفكر، بل كتلة جامدة، مما أسهم في قهر كل نشاط فكري حرّ بدعوى مخالفته لأحكام السلف.

والثانية: أن اعتبار المعرفة دائرة مغلقة ثابتة يجعل من المحال اطراح شيء من المعارف المقبولة متى ثبت خطؤها أو عدم مسايرتها لأحوال العصر، ويجعل من الصعب تقبّل المعارف الجديدة ما لم تجد لها سنداً في فكر الأقدمين.

والثالثة: أن صار سبيل اكتساب المعرفة هو تجميعها من كتب الأسلاف، أو الكتب الحديثة القائمة على كتب الأسلاف، لا التحليل والاستنباط والتجربة والفكر الحر. وكلها عواقب خلقت عند غير المسلمين اقتناعًا بأنه لا يمكن للإسلام أن يكون له مستقبل ما دام عاجزاً عن مسايرة التطور.

قصور الرد الإسلامي

لقد أصاب الأفغاني ومحمد عبده وأتباعهما في بيانهم لضرورة إعادة تفسير الإسلام تفسيراً يوائم احتياجات العمر الحديث والمجتمع المتغير. غير أن موقفهم الدفاعي والاعتذاري تجاه الحضارة الغربية حال دون تقديمهم لمثل هذا التفسير الشمولي، ومال بهم إلى الاقتصار في فكرهم على التصدي لقضية هنا وقضية هناك من القضايا التي تشغل الأذهان في الغرب، مثل الديموقراطية ووضع المرأة، وذلك من قبيل الرغبة في الرد على خصوم الإسلام في الغرب، أو الأخذ بمشورة الأصدقاء الناصحين في الغرب أيضًا. وقد كان أنصار التيارات الإسلامية الجديدة على حق في انتقاداتهم للموقف "التغريبي " لدى هؤلاء المصلحين التوفيقيين. غير أن أنصار هذه التيارات، باندفاعهم في الاتجاه المضاد، وقعوا في خطأ مماثل. إذ بينما ركز الأولون على نفي أن تكون فائدة البنوك من الربا المحرم، ونفي أن يكون الإسلام قد انتقص من حقوق المرأة، وحدّ من دورها الاجتماعي، والإصرار على أن الشورى الإسلامية هي بعينها ديموقراطية الغرب السياسية، وعلى اهتمام الإسلام بالدعوة إلى تنمية العلوم وتحصيلها؛ أو بعبارة أخرى: بينما ركز الأولون علي بيان اتفاق الإسلام مع المقومات الإيجابية للحضارة الغربية، اتجهت الجماعات الإسلامية الجديدة إلى انتقاء قضايا محدودة للغاية لإثبات تميز الإسلام واختلافه عن المفاهيم والقيم الغربية، كضرورة عودة النساء إلى الحجاب، وضرورة تأسيس بنوك إسلامية لا فائدة فيها، وضرورة إقامة الحدود الشرعية كقطع يد السارق وجلد الزاني وشارب الخمر، والتفرقة في المعاملة بين المسلمين وأهل الذمة. أما فيما عدا هذا من مسائل اقتصادية واجتماعية وسياسية بالغة الحيوية والأهمية، فلا يكاد يكون ثمة علاج أو برنامج أو فكر. وهو ما يقودنا إلى نتيجة مهمة: هي أن فكر الجماعات الإسلامية الجديدة ليس أقل انشغالا بالغرب من فكر المصلحين التوفيقين. ولكن الأفغاني ومحمد عبده وتلامذتهما انشغلوا به على نحو إيجابي، في حين انشغلت به الجماعات الجديدة على نحو سلبي.

من أجل استجابة صحيحة

قلة قليلة فحسب من المفكرين الإسلامين المحدثين رأت الحل الأمثل في الإقدام على دراسة موضوعية هادئة للأفكار والنظم الغربية من أجل تحديد طبيعة الاستجابة الصحية الواجب على المسلمين أن يتبنّوها إزاء الضغوط الغربية المختلفة على مجتمعهم. فإن كان في الحضارة الغربية من العناصر ما هو فاسد مفسد، فالكثير من الأفكار والنظريات التي ورثناها عن أسلافنا المسلمين هو أيضاً فاسد مفسد. وما لم نتصدّ بالدراسة لتراثنا وتقاليدنا هي الأخرى بالموضوعية نفسها والهدوء والمعايير العلمية والحرص على تجنّب الآراء التحكمية، فما من أمل يبقى في قدرتنا على مواجهة التحديات المعاصرة. كما أنه ما لم نول اهتمامًا بما يمكن للدين أن يحققه لخير الإنسان الاجتماعي والاقتصادي مماثلاً لاهتمامنا بما يمكن للإنسان أن يفعله من أجل تمجيد الخالق، فما من أمل يبقى في قدرة الإنسان على حل المعضلات.

غير أنه حتى هذه القلة القليلة المتعقلة نراها اليوم في انحسار. فتفاقم مشكلات المجتمع العربي، وتعاظم المد الفكري والحضاري الغربي، يميلان بالبعض إلى هجر الاعتدال وفقد الثقة بجدواه، والتعاطف مع التطرف باعتباره السبيل العلمي الأوحد إلى مواجهة الأخطار التي تهدّد بابتلاع هوّيتنا، واستفظاع بهاظة الثمن الاجتماعي والنفسي الذي لابدّ من دفعه إن نحن أردنا اللحاق بركب الغرب في مضمار التقدم. أضف إلى ذلك أن انتشار تأثير الجماعات الإسلامية المتطرفة في صفوف الجماهير العريضة، وازدياد فرص استيلائها على الحكم، على نحو ما حدث في إيران، خلال سنوات قلائل، دفعا بعض الانتهازين من المفكرين إلى التضحية باستنارته، والتعبير عن تعاطفه واتفاقه في الرأى مع فكر تلك الجماعات، من أجل ضمان الرضا والشعبية، أو الاستفادة المالية من حكومات دول عربية غنية تنفق بسخاء على وسائل نشر ذلك الفكر. هذا إلى أن ميل السلفيين إلى الدخول في تنظيمات تجمع شتاتهم، وتنسق خطاهم، وميل المجددين المستنيرين، شأن المصلحين التوفيقين قبلهم، إلى العمل فرادى، لا يصبرون على تنظيم، يزيد من فرص نيل الأولين دون الآخرين لأغراضهم.

مامن شك في أن مستقبل الأمة يتوقف بصفة أساسية على قدراتها على التوصل إلى مفهوم إيجابي يساعدها على مواجهة التوترات الناجمة عن تغييرات هائلة طرأت على المجتمع العربي في القرنين الماضيين، والتغلب على القوى المخربة التي تدفع المجتمع دفعا إلى المزيد من التفكك والتحلل.

كذلك فإنه ما من شك عندي في أن جميع الحلول التي طرحت في مجتمعنا خلال المائة سنة الأخيرة، معيبة قاصرة:

فالمحافظون الرافضون لكل تجديد ولكل مساس بالأفكار والمعتقدات الموروثة، قد فقدوا صلتهم بالعصر واحتياجاته، ولم تعد حججهم بالقادرة على إقناع المثقفين، وهي التي يصوغونها دوما في قوالب فكرية شكلية تستند استنادًا كاملاً إلى أقوال السلف، مما لا يمكن أن يتجاوب المحدثون معه. بل إنه حتى اللغة التي يستخدمونها توحي على الفور بخلو جعبتهم من رسالة لعصرنا الذي نعيش فيه. ففكرهم تستغرقه التكاليف الشرعية. وما من أحد منهم حاول أن يوجه الإسلام في قنوات خلاقة، ولكنهم قيدوه بنظرة رومانسية درامية لتاريخه، أساسها انتقاء تحكمي للمادة واستبعاد لكل ما ينقض الصورة التي يفضّلون أن تكون الأحداث في الماضي قد تمت عليها. وهم بهذا أغلقوا الباب في وجه أهم عامل كان بوسعه أن يحفظ على الفكر الإسلامي مرونته، ويحول دون تعفّن العقائد ألا وهو المنهج التاريخي العلمي الذي ابتدعه الغرب، والنظرة التاريخية إلى الأمور.

وأما المصلحون الإسلاميون التوفيقيون فموقفهم في جوهره مشابه كما قلنا لموقف دعاة التغريب العلمانيين، وبالتالي فإنهم لم يطرحوا بديلاً حقيقاً للقيم الغربية. فإن كان دعاة التغريب قد أعلنوا أن "القيم الغربية هي القيم المثلى فلنتبّناها"، فإن المصلحين التوفيقيين قد أعلنوا أن " القيم الغربية شبيهة بالقيم الإسلامية فلنتبنّاها" ! وقد ظل هؤلاء دوما يلهثون في عدوهم وراء التغريبيين كي يبرروا كل جديد، ولكي يوجدوا الأسس الدينية لتبني المفاهيم الغربية. فإن كان العلمانيون قد نادوا بأن العلم والعقل هما مفتاحا التقدم والحضارة، فقد تركوا للمصلحين الإسلاميين مهمة إثبات أن الإسلام يقر هذا الموقف.

وأما عن دعاة التغريب والعلمانية، فإنهم مع كل تحمسهم للديموقراطية والمساواة وغيرهما من المفاهيم الغربية، لم يكن بوسعهم قط الادعاء بأنهم يعبرون عن إرادة الشعب، وإنا أفصح لسان حالهم عن أنهم إنما يسعون للصالح العام باعتبارهم الصفوة، وأنهم أدرى من الشعب باحتياجات الشعب ومصلحته. فهم صفوة حسنة النية. غير أنهم دائماً صفوة، مباينة للجماهير في عقائدها وطريقة تفكيرها. صحيح أن المفهوم العلماني والاتجاه إلى محاكاة الغربيين كانا قد انتشرا في صفوف الجماهير من جراء التعليم المدني، ووسائل الاتصال والإعلام المتزايدة، والتصنيع والحياة في المدن، وأنماط الاقتصاد وغيره، وأن تأثير الفرنجة إنما كان ضخما بقدر ما كان الفراغ في الساحة الفكرية العربية ضخما. غير أن الثابت الواضح الآن أن الولاء الأول لدى الجانب الأعظم من الجماهير في العالم العربي هو للإسلام دون غيره، وأن الفكر الإسلامي لا يزال له بعد أربعة عشر قرنا سلطان عليها تصعب زعزعته. وقد كان المسلمون الأوائل إبان ازدهار حضارتهم ينهلون نهلاً من منابع الحضارات والثقافات غير الإسلامية، دون تحرّج أو تحفظ أو حيرة أو قلق. فقد كانت الثقة بالنفس تعمر صدور هؤلاء وهم الفاتحون السادة. أما وقد وقع المسلمون في براثن استعمار الفرنجة وباتوا يعانون من الهيمنة الاقتصادية والسياسية للغرب على أقطارهم، فقد فقدوا هذه الثقة، وصاروا يرون في كل اقتباس من نظم الفرنجة مكيدة للإسلام وفخًا، واقتباسًا معاديًا للدين.

والواقع أنه لولا هذا الخلل النفسي، وهذا الارتياب المرضي، وفقدان الثقة، لكان للإسلام المعاصر، في زعمنا، شأن آخر.