شلل الأطفال... المحاصر الطليق

 شلل الأطفال... المحاصر الطليق
        

          يعد مرض البوليوميليتيس, أو الذي يطلق عليه شلل الأطفال, أحد أوخم الأمراض على مدى الأزمنة, ولا يصيب سوى الإنسان. وينجم عن عدوى تصيب الجهاز العصبي للأطفال حتى سن العاشرة, ويصيب الكبار أحيانًا.

          بحلول القرن العشرين, أعلنت تقارير في السويد عن وجود نحو 1000 طفل مصاب في العام 1905, وفي الولايات المتحدة وجد ما يزيد على 27 ألف طفل مصاب في العام 1916, ونصف مليون مصاب في العالم كل سنة, مما جعل كل البلاد تسعى للتخلص من هذا المرض.

          ويتسبب الداء عن فيروس معوي شديد العدوى, له أنماط ثلاثة, أخطرها (النمط 1) الذي يتسبب عادة في ظهور حالات وبائية, ويصل ذلك الفيروس إلى الإنسان بطريق التنفس والفم, حيث يعيش في الأنف والبلعوم في بادئ الأمر, وقد ينتشر في حالات قليلة, إلى الجهازين الهضمي والعصبي, حيث يهاجم الخلايا ويسري مع الدم إلى الدماغ عن طريق الألياف العصبية, أو ينقله الدم إلى الجهاز العصبي المركزي, ثم يدخل في الخلية العصبية, ويتكاثر بسرعة حتى تتهتك الخلية أو تموت. وينشأ الشلل فقط عند تهتك خلايا عدة وتلفها, حيث تتعطل وظائفها التي تتحكم بالعضلات, مما يقود إلى عدم القدرة على الحركة. وإذا نتج عن الفيروس مجرد انتفاخ في الخلايا العصبية الحركية, والأنسجة المحيطة بها, فإن الشلل لا يحدث حيث يستعيد المصاب عافيته بعد فترة.

          ويتشابه المرض في أعراضه مع كثير غيره, فهو يحاكي نزلات البرد العادية, وقد يتمثل في ألم الحلق والحمى والصداع والقيء, مصحوبًا بفقدان الشهية والتهاب البلعوم وأوجاع في مفاصل الأطراف وفي الأطراف نفسها. وقد تكون الأعراض خفيفة لدرجة يصعب فيها على الطبيب تشخيص المرض. أما الإصابات الشديدة, فلها الأعراض السابقة ذاتها, ولكنها لا تختفي, ويبدأ تدريجيًا تصلب وتقلص في عضلات الظهر والرقبة, وتصبح العضلات ضعيفة والحركة عسيرة, وقد تتطور تلك الأعراض بعد أيام حيث تشتد آلام الرأس والعنق, والظهر والساقين, وبخاصة إذا أصبحت هذه الأعضاء مشدودة أو ممددة, وقد يعجز الإنسان عن الوقوف أو المشي إذا تمكن منه الداء.

          ففي حالات قليلة, يحدث شلل للعضلات بعد سنوات عدة من الإصابة شديدة الحدة. وتشير أحدث الدراسات الطبية إلى أن نسبة الوفاة بسبب المرض, كنتيجة لتوقف العضلات المساعدة على التنفس, لا تتجاوز خمسة في المائة من حالات الأطفال المصابين, وتزداد هذه النسبة كلما زاد عمر الطفل, وهناك بعض من حالات الإصابة قد لا تُظهر الأعراض السابقة الذكر بصورة مميزة, غير أن تحليلات مرضية لعينات من البراز أو إفرازات البلعوم أو سائل النخاع الشوكي, يمكن أن تؤكد تشخيص الإصابة بالمرض.

          ويمثل البلعوم والأمعاء بيئة مثالية لتكاثر فيروس الداء. ولوجود الفيروس عادة بكميات كبيرة في الإفرازات الأنفية والفمية للمريض, تنتقل العدوى بالسعال والتنفس. ويعد الإنسان المصاب المصدر الوحيد لنقل العدوى للآخرين غير المحصنين بطريقتين: الأولى براز المصاب, الذي يلوّث غذاء أو ماء أو أدوات خاصة تصل إلى فم شخص آخر أو جهازه الهضمي, وتلك هي الطريقة الأساسية للنقل. وقد ثبت انتشار المرض عبر مياه الصرف الصحي الملوثة. الثانية انتقال الإصابة للآخرين عن طريق الإفرازات البلعومية للمصاب. وفي الظروف البيئية الصحية الجيدة, يعتقد أن العدوى عن طريق تلك الإفرازات من المصابين إلى الأصحاء هي الأكثر أهمية وانتشارًا.

          وبالرغم من فترة حضانة المرض, التي قد تمتد إلى أسبوعين, يمكن مختبريًا تمييز الفيروس في إفرازات الحلق والبلعوم بعد 36 ساعة من بدء الإصابة, بينما يظهر في براز الطفل المصاب بعد 72 ساعة, ويبقى في محتويات براز المريض لمدة تتراوح بين ثلاثة إلى ستة أسابيع. وللفيروس القدرة على العيش في المياه والفضلات الرطبة لمدة قد تصل إلى ثلاثة أشهر. وإذا دخل الفيروس إلى الجسم, فإن له القدرة على مقاومة حامضية العصارات المعدية والعصارة الصفراوية, وبعد تكاثره العظيم داخل الأمعاء, يخرج بأعداد هائلة مع براز المصاب, ناقلاً العدوى للأفراد غير المحصنين وخاصة الأطفال منهم.

          ويمكن للمرض أن يصيب الإنسان في أي مرحلة من حياته, بالرغم من أن نصف حالات الإصابة تهاجم الأطفال قبل الثالثة من العمر. وتمثل الإصابة خطورة بالغة على المصابين, فقد تؤدي إلى الإصابة بالشلل الدائم أو الإعاقة, التي يستحيل علاجها طبيًا, أو الوفاة.

          وهناك حقيقة مؤكدة, أن كل حالة إصابة ظاهرة مصحوبة بشلل الأطفال, تقابلها نحو مائة إصابة خفيفة  أو معتدلة لا تحمل أعراضًا ظاهرة, بينما يحمل المصاب فيروس المرض, وقد ينقله مسببًا العدوى لأي طفل, أو أفراد غير محصنين. ولعل هذا يوضح حقيقة أن تطعيم الأطفال المتكامل والمنتظم هو الطريقة الوحيدة لتوفير مناعة دائمة من الإصابة.

          والدول التي يعد المرض فيها مستوطنًا - أي يحدث بصورة طبيعية في البيئة - هي: أفغانستان, الهند, مصر, النيجر, نيجيريا, وباكستان. وقد ذكرت المبادرة العالمية لاستئصال شلل الأطفال أنه سُجلت 885 حالة على مستوى العالم العام 2004. والدولتان اللتان انتشر فيهما المرض على أوسع نطاق هما نيجيريا (655 إصابة) والهند (77 إصابة). وخلال الأشهر الأربعة الأولى من العام 2005, رصدت منظمة الصحة العالمية نحو 200 حالة, أغلبها في نيجيريا واليمن.

          وفي مايو 2005, ظهرت حالتان في إندونيسيا, زادتا سريعًا إلى ثماني حالات, وأثبتت فحوص الحامض النووي, التي أجريت على عينة من إحدى الحالتين الأوليين, أن الفيروس أتى إلى إندونيسيا من نيجيريا, عبر دولة متاخمة للأخيرة. وفي الشهر نفسه, وفي الوقت الذي كانت تقوم فيه وزارة الصحة والسكان اليمنية بتدشين الحملة الوطنية التكميلية الطارئة لاستئصال المرض بمحافظة الحديدة, أكدت مصادر طبية تباعا تجاوز الحالات هناك عدد الستين خلال ثلاثة أسابيع, مشيرة إلى أن أغلبها يقع في مديريات نائية على البحر الأحمر. واليمن هو البلد الخامس عشر من البلدان, التي كان قد أعلن في السابق خلوها من المرض - ومنها 13 دولة إفريقية, وتعد أحدث دولة ضمن تلك الدول, التي تم تسجيل حالات إصابة بالمرض بها منذ بدء انتشار الوباء في أواخر العام 2003.

جهود ممتازة

          تعد جهود العلماء للتوصل إلى اللقاح الواقي من شلل الأطفال أكبر جهود بحثية بذلت في تاريخ الولايات المتحدة. ففي 12 أبريل 1955, أعلن عن الوصول إلى لقاحات ناجعة ضد المرض, بعد دراسات ميدانية شملت 1,8 مليون طفل من الولايات المتحدة وكندا وفنلندا. وقد صنع العلماء اللقاح قبل أن يتمكنوا من رؤية الفيروس, فالمجاهر لم تكن آنذاك بالقوة الكافية. وقد فعلوا ذلك دون أردية واقية عصرية أو أجهزة مختبرات متطورة معرضين أنفسهم لمخاطر جمّة. ولم يكن ذلك هو اللقاح الأول, فقد سبقه لقاح مرض الجدري الذي استؤصلت شأفته في العام 1979, ولقاح الدفتيريا (الخناق) والأنفلونزا, إلا أنه كان (طلقة أخرى سمع دويها في جميع أنحاء العالم), وأحدث ثورة في نظرة البشر إلى العلوم, وأطلق شرارة حرب جديدة ضد الجراثيم.

          ومنذ الوقت الذي توصل فيه الطبيبان (يوناس سولك) و(ألبرت سابين), إلى اكتشاف تلك اللقاحات الفاعلة التي توفر للأطفال الوقاية من المرض, أصبح استئصاله أمرًا ممكنًا.ويكفي القول بأن الدول الواقعة في نصف الكرة الغربي لم تشهد أي حالات إصابة بالمرض منذ العام 1991. وقد تم القضاء عليه تمامًا في الأمريكتين وكل دول أوربا ومنطقة غرب المحيط الهادئ, ومعظم أقطار الشرق الأوسط ودول شمال وجنوب إفريقيا, إلا أنه لايزال موجودًا في دول إفريقيا جنوبي الصحراء وبعض دول جنوب آسيا. وبفضل اللقاحات في برنامج المبادرة المكثف, انخفضت الإصابة على مستوى العالم من 350 ألف حالة في العام 1988 إلى 480 فحسب في العام 2001, ولكنها تفشت من جديد في العام 2002 في نيجيريا وفي إحدى ولايات شمالي الهند, مما أدى إلى زيادة الحالات عالميًا إلى أكثر من 1000 حالة. كما استمرت في الظهور في الأعوام التالية, إلا أن الأمم المتحدة لم تفقد الأمل في القضاء عليه.

          وفي أكتوبر 2004 بدأت الأمم المتحدة حملة لتطعيم 300 مليون طفل في إفريقيا وآسيا, حيث تركزت 90 في المائة من الحالات بإفريقيا, ووصل مستوى العدوى إلى ما يضاهي الوباء في بعض المناطق. وقد أعلنت منظمة الصحة العالمية واليونيسيف, أواخر يناير 2005 عن تلقيهما منحًا مبدئية من مؤسسة (بيل وميليندا غيتس) بلغت 10 ملايين دولار, بغرض تأمين تمويل استنباط لقاح شديد الفاعلية ضد المرض وإتاحته في السوق, مما يشكّل جزءًا حاسم الأهمية من الاستراتيجية الرامية إلى وقف انتقال فيروس المرض في شتى أنحاء العالم قبل نهاية العام 2005. وتعد مؤسسة غيتس من أقوى المؤسسات الداعمة لأنشطة استئصال الأمراض الوبائية, فقد بلغت قيمة التمويلات السابقة التي قدمتها لهذا المرض وحده 75 مليون دولار.

          وعديد من الدول على شفا إعلانها تباعًا خلوها من المرض, منها مصر, التي كادت أن تعلن عن ذلك, لولا الطفل (آدم) المقيم بديروط محافظة أسيوط, الذي أجّل الإعلان, باكتشاف إصابته يوم 3 مايو العام 2004, حيث يتعين مرور ثلاث سنوات دون ظهور أي إصابة بالمرض قبل أن تعلن الأمم المتحدة القضاء عليه.

مبادرة فريدة

          تعد المبادرة العالمية لاستئصال شلل الأطفال إحدى أهم المبادرات الصحية في تاريخ البشرية, ويرعى تلك المبادرة كل من منظمة الصحة العالمية ومنظمة الروتاري الدولية, ومراكز الولايات المتحدة لمكافحة الأمراض, والوقاية منها (CDC), ومنظمة اليونيسيف. ويشمل التحالف أيضًا حكومات البلدان المتضررة من هذا الداء, ومؤسسات تابعة للقطاع الخاص (مثل مؤسسة دعم الأمم المتحدة, ومؤسسة بيل وميليندا غيتس), والبنوك الإنمائية (مثل البنك الدولي), والحكومات المانحة (مثل أستراليا والنمسا وبلجيكا وكندا والدانمرك وفنلندا وفرنسا وألمانيا وأيرلندا وإيطاليا واليابان ولكسمبورج وهولندا ونيوزيلندا والنرويج والبرتغال وقطر والاتحاد الروسي وإسبانيا والسويد والإمارات العربية المتحدة والمملكة المتحدة والولايات المتحدة), والمفوضية الأوربية, والمنظمات الإنسانية والمنظمات غير الحكومية (مثل الاتحاد الدولي لجمعيات الصليب الأحمر والهلال الأحمر), والشركات المشاركة (مثل سانوفي باستور, ودي بيرز, ووييت). كما يؤدي المتطوعون في البلدان النامية دورًا أساسيًا, فقد شارك 20 مليونا منهم في حملات التمنيع الواسعة النطاق.

          وحتى العام 2004, تمكنت تلك المبادرة, التي شُرع فيها منذ 16 عامًا وأنفق خلالها ثلاثة مليارات من الدولارات, من تقليص عدد الإصابات بنسبة تجاوزت 99%, حيث أصبح عدد الأطفال المصابين بذلك الداء يناهز الألف طفل. ومن المأمول أن يكون أول مرض يستأصل في القرن الواحد والعشرين وثاني مرض على الإطلاق يقضي عليه بعد الجدري. ويعتقد خبراء الصحة إنه إذا تم تطعيم ثمانين في المائة من الأطفال في المجتمعات المعرضة لخطر المرض, سيكون من الممكن كسر دورة انتشاره خلال عامين لا أكثر, وهو ما تسعى الأمم المتحدة إلى تحقيقه.

فتوى أكثر فتكا

          في أكتوبر العام 2003 أوقف المسئولون في شمال نيجيريا حملة للتطعيم جرت في إطار برنامج المبادرة المكثف, بعد أن ادعى زعيم ديني أن اللقاح ملوث وغير آمن, وأنه يحتوي على مواد عفنة منتنة لا يجوز إدخالها إلى البدن, وبعد أن رفضت ولايات الشمال الرئيسية النيجيرية التعامل مع البرنامج. وامتد الاتهام من زعماء إسلاميين مدعين أنه جزء من خطة أمريكية ضد إفريقيا, بتلوثه بعقاقير مضادة للخصوبة وفيروسات مسببة للإيدز وحاثة للسرطان. وقد هددت الأزمة الجهود الدولية المبذولة لاستئصال المرض, إلا أن  اختبارات علمية أجريت في جنوب إفريقيا ونيجيريا أظهرت عدم وجود آثار لعوامل مضادة للخصوبة في اللقاح.

          وقد انتقد كارول بيلامي رئيس صندوق الأطفال التابع للأمم المتحدة تلك الولايات لرفضها المشاركة في حملة التطعيم الضخمة قائلا: (سيكون خطأ لا يغتفر أن نسمح بإصابة مزيد من الأطفال بالشلل بسبب إشاعات لا أساس لها). ولم ينقذ الأمر سوى إعلان الرئيس النيجيري, أوليسيجون أوباسانجو, أن تقريرًا كتبه علماء ورجال دين مسلمون أرسلتهم الحكومة لإجراء دراسات مستقلة في الهند وإندونيسيا وجنوب إفريقيا يؤكد أمان لقاح شلل الأطفال الذي يعطى عن طريق الفم.

          كما حثّ الشيخ يوسف القرضاوي في فتوى معنية, بموافقة وحضور عديد من العلماء من دول عربية وإسلامية, على المبادرة بالتطعيم قائلا: (أهيب بالعلماء في نيجيريا أن يراجعوا فتواهم, فإن أصروا على رأيهم, فإني أدعو إخواننا المسلمين في نيجيريا لأن يأخذوا بفتوى جمهور علماء المسلمين في العالم الإسلامي وهي قطعا مرجحة على فتوى عدد محدود من علماء بلدتهم. وعليهم أن يبادروا بتطعيم أطفالهم ضد الشلل). وقد استأنفت ولايات الشمال حملة التطعيم بعد حظر استمر 11 شهرا هدد بتقويض الجهود الدولية للقضاء على المرض.

          وفي يونيو 2004 بلغ عدد الدول التي هاجمها الفيروس عشر دول, منذ توقف برنامج التطعيم في الولايات النيجيرية, وظهرت 237 حالة على امتداد غرب إفريقيا وإفريقيا الوسطى منها 197 حالة في نيجيريا مقارنة بـ97 حالة سجلت في الفترة نفسها من العام الأسبق.

يرتع حيث الحروب

          تلعب الحروب والنزاعات دورًا سلبيًا في تواصل الحملة الدولية للقضاء على المرض, وبالتالي العمل على تفشيه. فقد أعاقت النزاعات في دول كأنجولا وأفغانستان والسودان والصومال حملات تلقيح الأطفال لسنوات.

          وتقول كارول بيلامي المديرة التنفيذية لليونيسيف: (إن  مفتاح القضاء على المرض يتمثل في الوصول بسرعة إلى مواقعه وتطعيم الأطفال الذين لم يُطعموا بسبب الحرب والعزلة أو نقص البنية الأساسية في بلادهم).

          وكان العراق, أسوة بكل الدول المجاورة له, قد تخلص من شلل الأطفال في الماضي. لكن سنوات الحصار العشر وما صاحبها من تدهور في الخدمات الصحية أحالت البلاد إلى بؤرة لذلك المرض. وكان آخر انتشار واسع للمرض هناك قد سُجل في العام 1999. لذلك, أجري في منتصف العام 2000 تطعيم لكل الأطفال دون سن الخامسة في المناطق التي سجلت فيها إصابات.

          وفي التوقيت نفسه, انتشر موظفو المنظمة الدولية بأفغانستان عبر 330 حيًا لتطعيم كل طفل دون الخامسة.

          وقد شارك في هذه العملية نحو 27 ألف متطوع لتوزيع اللقاح على 4 ملايين و500 ألف طفل. وكان الجانبان المتقاتلان في أفغانستان قد اتفقا على وقف إطلاق النار في أول أسبوع من مايو حتى تأخذ حملة التطعيم مجراها. ثم كانت هناك حملة ثانية في الأسبوع الأول من يونيو خلال وقف آخر لإطلاق النار. وقال ممثل اليونيسيف لويس جورج أرسينول (إن هذه هي المرة الأولى التي يتمكن فيها موظفو الأمم المتحدة من الوصول إلى الأطفال في جميع الأحياء).

          وفي أكتوبر العام 2000 دعت حكومة الخرطوم إلى هدنة مدتها اثنا عشر يومًا في صراعها مع المتمردين الجنوبيين للسماح لحملة التطعيم بالمضي قدمًا. وقد توجهت رئيسة اليونيسيف إلى مدينة ملكال التي تسيطر عليها القوات الحكومية في جنوب السودان, ثم توجهت إلى مدينة رومبك التي يسيطر عليها المتمردون للغرض نفسه. وفي ديسمبر العام 2004, أعلنت المنظمة عن وجود المرض في دارفور, وأن هناك 79 حالة في السودان, وأن (الفيروس قد وجد طريقه مع حركة الناس والنازحين ما بين مناطق دارفور وتشاد), كما سادت المخاوف من انتشاره في ساحل العاج لإعاقة برنامج التطعيم لتجدد القتال وإصابة 15 طفلا بالمرض.

          وفي مواجهة الصراعات, بدأت في منتصف مايو 2005 حملة التلقيح ضد المرض لتشمل أكثر من أربعة ملايين ونصف المليون طفل بالعراق. ومن مؤشرات تلك الحملة أنها تشكل تحديًا شجاعًا لكل معوقات الوضع الأمني والظروف الصعبة التي تمر بها البلاد, وهي ممارسة تدل على مدى التصميم الذي يرتبط بأداء الواجب فضلاً عن معانيه الحضارية.

تحصين ووقاية

          توحدت الجهود خلال المبادرة العالمية لاستئصال المرض بالتطعيم الواسع كأفضل طرق الوقاية. ويوجد لقاحان لهذا الغرض: لقاح (سولك): وهو طعم معطَّل ويحتوي على فيروس ميت للمرض ويتم تعاطيه عن طريق الحقن. ولقاح (سابين): وهو طعم الفيروس الموهَن والذي يحتوي على فيروس مُضعف ويتعاطى بالفم في شكل قطرات قليلة, وقد تم إنتاجه العام 1961 وبدأ استخدامه في معظم دول الشرق الأوسط العام 1963, وهو أكثر اللقاحات فاعلية واستخدامًا في البرنامج العالمي لاستئصال المرض. ويتم تطعيم الطفل وفقا لنظم صحية كتعليمات الأكاديمية الأمريكية لطب الأطفال. وهناك بعض الفروق بين الدول وفي الفترات الزمنية للتطعيم. ففي دولة الكويت مثلا يتم التطعيم الأساسي للمرض باستخدام الطعم الفموي (نقطتان) كجرعات ثلاثية الفصائل ثم جرعات تنشيطية, خلال ثماني مرات معلومة التوقيت, بدءًا من اليوم الأول للولادة حتى عمر أربع سنوات ونصف السنة, ووفق ما يراه الطبيب في حالة الطفل الصحية.

          وبخلاف التطعيم, وعدم المخالطة المباشرة البديهية للمريض, وجب اتخاذ كل سبل الوقاية العامة الأخرى, فعندما تكون الأم في المستشفى مثلا ويؤتى إليها بطفلها لترضعه, عليها أن تمنع كثرة التحركات من حوله وانتقاله من يد إلى يد, وتمنع أحدًا من تقبيله. وقبل أن ترضعه عليها التأكد من كونها غسلت يديها وصدرها أو حلمة الرضاعة الصناعية بالصابون المعقّم. وحال انتشار المرض, يتوجب تعقيم الماء والحليب بغليهما جيدًا وعدم تناول الأطعمة غير المطبوخة وغسل الفواكه والخضراوات جيدًا وعدم إجهاد الجسم ليظل بحيوية تامة تساعده على المقاومة. وهناك ضرورة لأخذ اللقاح للبالغين أينما ينتشر الفيروس, وللمسافرين للدول النامية والعاملين في المختبرات وفي القطاع الصحي والمتصلين بالمرض.وتعد الراحة التامة أهم علاج لهذا الداء. ويستخدم الأطباء العصائب الساخنة الرطبة لتخفيف الألم, وإذا اختفت الحمى, فيساعد أخصائيو العلاج الطبيعي المريض في تحريك الأطراف لمنع حدوث التشوهات والتيبس المؤلم في العضلات. وتساعد التمرينات المركزة على تقوية العضلات وإعادة تدريبها.

محاذير واقعية

          تحتاج الحملة العالمية للقضاء على المرض إلى جهود مستمرة لمواصلة عمليات التحصين, لاسيما بسبب مخاطر بقاء الفيروس حيًا داخل أمعاء بعض الأشخاص لسنوات عدة بحيث يمكن أن ينقلوه إلى أشخاص لا توجد لديهم مقاومة للمرض. وفي هذا المجال, ذكرت مجلة (نيوساينتست) الأسبوعية البريطانية أن المخاطر التي يمثلها الأشخاص الذين يحملون الفيروس, والذين يعرف منهم 17 شخصًا بينهم شخص يسمى (الرجل  البوليو) (نسبة إلى الفيروس) لايزال يفرز الفيروس في برازه منذ عشرين عامًا. ويؤكد العلماء أن عدد حاملي الفيروس الحي أكثر من ذلك بكثير. ويقول البروفيسور رادو كرينتيش رئيس مختبر الأوبئة في معهد باستير بباريس: (إن عدد حاملي الفيروس ليس أمرًا مهمًا. يكفي أن يكون هناك شخص واحد حتى لا يكون القضاء على المرض تامًا).ويقول الطبيب روبرت كيجان من المراكز الأمريكية لمكافحة الأمراض والوقاية منها: (إن استئصال شلل الأطفال هدف واقعي, السؤال هو بأي سرعة نستطيع القضاء عليه). وأضاف قائلا: (إنه ومع خلو حوالي 200 دولة من شلل الأطفال, فإن الجدوى تصبح واضحة).

مواجهة علمية

          لقد نجحت بعض دول الخليج العربي في تحقيق نسبة عالية من النجاح في التطعيم فاقت الكثير من بلاد العالم. وقد نتج ذلك من ثلاثة عوامل: ربط إكمال التطعيم بشهادة الميلاد ودخول المدارس, توفير مراكز طبية عالية الكفاءة للحفاظ على مواد التطعيم من الفساد وفي الوقت نفسه جعلها ميسرة للحصول عليها بطرق سهلة ورخيصة, وارتفاع المستوى الثقافي والصحي والمتابعة للتوصيات الصحية العالمية.وفي الوقت الراهن, يخطط الخبراء للسيطرة الكاملة على تفشي المرض, من خلال استخدام لقاح فموي أحادي الفصائل من النمط1 (mopvi) الذي تم تطويره حديثًا. ويساعد هذا اللقاح الجديد على تمكين الاستجابة المناعية المفصلة بدقة لفيروس شلل الأطفال من ذلك النمط الذي يسبب تفشي المرض. وبالمقارنة بلقاح opv ثلاثي الفصائل الذي يتم استخدامه بصورة شائعة, والذي يوفر الحماية ضد الأنواع الثلاثة الشرسة من فيروس شلل الأطفال, فإن اللقاح mopvi يوفر مناعة أكبر ضد النمط 1 وبجرعات أقل. وتكرر استخدام mopvi خلال حملة التحصين التي تشمل جميع أنحاء اليمن في النصف الثاني من شهر مايو 2005. وكذلك في مصر, التي نجحت في التخلص من النمطين 2 و3 من فيروس المرض.اكتسبت حملة التمنيع الجماعي ضد المرض التي بدأت في فبراير 2005 بكل أرجاء إفريقيا زخمًا جديدًا في ضوء التقارير التي أفادت بإصابة طفل بالمرض في إثيوبيا, وهي أول حالة من هذا القبيل هناك منذ أربع سنوات. وتعدّ الحملة القاريّة النطاق - التي تشمل 22 بلدًا وتستهدف مائة مليون طفل - الأولى في سلسلة حملات في العام 2005 للقضاء على المرض بإفريقيا, التي شهدت عودة واسعة للمرض العام الأسبق مما هدد محاولات استئصاله على الصعيد العالمي.

          وفي مايو 2005 ناشدت منظمة الصحة العالمية الدول الإسلامية الغنية للمساهمة بالحملة العالمية للقضاء على شلل الأطفال, محذرة من أن شح التمويل قد يقوض الجهود الهادفة للقضاء عليه بنهاية هذا العام. وكانت حملة مكافحة المرض التي شنتها منظمة الصحة العالمية قد كلفت نحو أربعة مليارات دولار حتى ذلك الوقت, فيما لم تساهم دول منظمة المؤتمر الإسلامي إلا بثلاثة ملايين دولار, على الرغم من أن آخر حالات شلل أطفال سجلت كانت معظمها في الدول الإسلامية, وفق ما قالته الناطقة باسم المنظمة الدولية ليندا مللر.وقالت منظمة الصحة العالمية إنها تأمل من مملكة البحرين والكويت والسعودية, المساهمة بسخاء في حملة القضاء على هذا المرض. وأوضحت المنظمة أنها بحاجة إلى خمسين مليون دولار بحلول يوليو 2005 للقضاء على هذا المرض لذلك العام. وبالنسبة لعام 2006, تقول المنظمة إنه ينقصها 200 مليون دولار.

          وقال الطبيب ديفيد هيمان رئيس برنامج استئصال شلل الأطفال في منظمة الصحة العالمية: (إن أكبر عقبة هي المشاركة السياسية), وأوضح قائلا: (إذا أراد رئيس أو رئيس وزراء إنجاز المهمة فإن بالإمكان إنجازها).

          واستدرك قائلا (إلى أن يحدث هذا فإن كل طفل في العالم سيحتاج إلى جرعة من لقاح شلل الأطفال).

          وقد ضاعف الزعماء الأفارقة التزامهم في مواجهة الوباء, كما اتضح من الإعلانات الصادرة أخيرًا عن أعلى القيادات في الاتحاد الإفريقي والقمة التي عقدوها. كما أن (استئصال شلل الأطفال يستأثر بالالتزام الراسخ والثابت من جانب جميع الأفارقة, بدءًا من القادة إلى الآباء إلى الأطفال أنفسهم) حسبما تقول ماري إبرين ريتشموند, رئيسة حملة شلل الأطفال التابعة لنادي الروتاري في كوت ديفوار.

رأت وجه من أهوى بليلٍ عواذلي فقلن نرى شمسًا وما طلع الفجرُ
رأين التي للسحرِ في لحظاتها سيوف ظباها من دمي أبدًا حمرُ


(المتنبي)

 

سيد عاشور أحمد   

 




لم تمنع الاعاقة بعض الاطفال من ممارسة الرياضية













فتاة معاقة ولكنها لا تفقد الأمل