تقنيات الاتصال وتحديات القرن الثاني للسينما مدحت محفوظ

تقنيات الاتصال وتحديات القرن الثاني للسينما

هل أصبحت السينما في عيدها المئوي ترفيها هامشيا لهذه الدرجة في حياة البشر؟.
هذا المقال يروي قصة الحروب التي دخلتها السينما لنصف قرن كامل ومستقبل هذه الحروب التي يزداد سعارها لتطرح تحديات لا نظير لها للسينما في قرنها الثاني.

في منتصف الطريق إلى مئوية السينما كان الفرد الأمريكي يتردد على دور العرض ثلاثين مرة في السنة. اليوم لا يزيد الرقم على أربع مرات، وتتجمد إيرادات الشباك عند خمسة بلايين دولار، بينما تتسارع إيرادات تليفزيون الكيبل لتتخطى العشرين بليونا، والحدائق المتخصصة لما فوق 15 بليونا، والفيديو 11 بليونا، وألعاب الفيديو ثمانية بلايين. ثم ها هو القادم الجديد المسمى "الواقع شبه الحقيقي" يقال إن طريقه إلى القمة مؤكد.

لقد كان اليوبيل الذهبي للسينما بحق اسما على مسمى. وتحديدا كان عام 1946 هو عام السينما الذهبي. فيه وصلت إيرادات الشباك الأمريكي إلى قمة غير مسبوقة هي 1.7 بليون دولار، بعده راحت تتناقص من عام إلى عام، ولولا التضخم ما ارتفعت أبدا في العقود الأخيرة. بمتوسط سعر التذاكر في ذلك العام، وكان 42 سنتا، يكون عدد التذاكر هو أربعة بلايين تذكرة، آنذاك كان نحو 90% من انفاق الأمريكيين على الترفيه المرئي يذهب إلى السينما. ببساطة كانت السينما قبل 50 عاما شيئا جوهريا في الحياة اليومية لكل البشر، كما تقول هذه الأرقام الأكثر مجدا في كل تاريخها.

في النصف الثاني للأربعينيات، ربما لما يكن تراجع شعبية السينما راجعا على نحو مباشر إلى انتشار التليفزيون. وكانت ثمة عوامل عديدة أخرى منها تأكيد نغمة العمل في سنوات ما بعد الحرب، وظهور اتجاهات تدعو للاهتمام بالمشاكل الواقعية، والتوسع في السكنى في الضواحي، وكذا ما صاحب هذه الأخيرة من تأكيد قيم الأسرة والجماعة المحلية، وهي قيم تخالف ما ساد في المدن الكبرى. وربما كان أحد أهم عوامل التدهور هو جمهور الاستديوهات السينمائية التي لم تتخيل أبدا أن احتكارها شبه المطلق لصناعة الترفيه يمكن ان يتهدد يوما ما. في هذه السنوات الخمس أغلقت 51 دارا للعرض في نيويورك و64 في شيكاغو و134 في جنوب كاليفورنيا. وما ان حل عام 1951 حتى انخفض عدد المشاهدين بنسبة 40% في المناطق التي يغطيها الإرسال التليفزيوني.

من هنا بدأت السينما التي كانت قد نجحت بالفعل في مهادنة التليفزيون وتحقيق أرباح مهمة لأفلامها من خلاله، بدأت تدرك أن لب المعركة تقني تماما. وهكذا بدأ الاهتمام بالوصول للناس حيث هم كما يفعل أنبوب التليفزيون، فأنشئت دور عرض الضواحي، وبدأت بعد قليل ازدهارة لدور عرض السيارات استقطبت على نحو خاص المراهقين والمراهقات ومشروباتهم، وبالذات لأفلام الرعب من الدرجة (ب).

الإبهار بالتقنية

لم يكن الذهاب إلى الناس هو الحل الكامل. فالتليفزيون ليس مريحا فقط، بل ومجاني أيضا، ولذا لا بد من التميز بوضوح عنه. وفي 30 سبتمبر 1952 جاء الحدث الكبير الأول: افتتاح فيلم "هذه هي السينيراما".

والسينيراما أسلوب للتصوير والعرض يعمل بثلاث كاميرات، وبالتالي قفزت شاشة العرض إلى ثلاثين مترا، تختص كل آلة عرض بعرض ثلث الصورة فقط على ثلث الشاشة. ووصول بعض أجزاء الصورة إلى أركان العين أعطى احساسا إضافيا بالتجسيم، فضلا حتى عما تحققه الضخامة من ابهار.

بعد شهور قليلة جاءت السينما سكوب، وهي مجرد عدسة اسطوانية تضم الصورة لدى تصويرها ثم تفردها لدى عرضها، لتحل محل تعقيد أسلوب السينيراما ومشاكل تشغيلها لا سيما ضرورة تزامن عرض الأفلام الثلاثة معا، وكذا تزامنها مع شريط الصوت المغناطيسي. في 1954 ظهرت "الفيستافيجان" التي اعتمدت التصوير على فيلم بعرض 70 مليمترا، ثم العرض على الفيلم العادي 35 مم مما أعطى جودة و"حزما" RESOLUTION أعلى للصورة وتفاصيلها. أما الفيلم 70 مم الموجب نفسه فقد وجد طريقه إلى دور العرض على نحو أسطوري عام 1963 مع فيلم "كليوباترا".

"الأبعاد الثلاثية" كانت تجربة تقنية مثيرة أخرى للخمسينيات، حاولت محاكاة الرؤية البشرية بعينين تفصل بينهما مسافة معينة. وذلك بتصوير ذات المنظر بكاميرتين تفصل بينهما مسافة تعادل المسافة بن عيني الانسان، ثم عرض الفيلمان بذات الأسلوب، مع وضع فلتر خاص في آلة العرض وفي نظارة خاصة يرتديها المشاهد يضمن وصول الصورة اليمنى إلى العين اليمنى للمشاهد والعكس بالعكس. الفلتر عبارة عن خطوط دقيقة مائلة بزاوية معينة لإحدى العينين وخطوط متعامدة عليها للعين الأخرى.

المؤثرات الخاصة

في الستينيات تواصلت المراهنة على الابهار البصري. وكان فيلم "2001: أوديسا الفضاء" 1968 ذروة كبرى من نوعها للوصول بما يسمى المؤثرات الخاصة لآفاق جديدة سواء منها الميكانيكي أو الفوتوجرافي أو البصري أو مؤثرات التنميق MAKE UP . وهذه المسيرة تواصلت في السبعينيات لتحقق ذروة جديدة مع فيلم، حروب النجوم، 1977، لكن هذه المرة بمؤثرات أكثر اقتصادية وحداثة كالتصوير في غرف مضببة ببخار الزيت للإيحاء بعمق المسافات، أو بكاميرات تسجل حركتها بالحاسوب، مما يتيح اعادة تصوير مكونات الصورة على عدة مراحل. هذا كان ارهاصا بازدهارة كبرى لأفلام الخيال العلمي والرعب والفانتازيا، لا سيما وأن تقنيات التنميق قد بدأت تدخل وهي الأخرى حيز التقنية العالية من خلال الأقنعة ذات الجيوب الهيدروليكية والحركات الآلية المعقدة للوجوه، وغيرها. أحد الأفلام التي وظفت هذا، وهو فيلم "إي تي"، أصبح أنجح فيلم في تاريخ السينما، وبات واضحا أنه بالإبهار وحده تعيش السينما ببساطة لأنها تفوقت فيه على كل منافسيها واليوم يتيح التحريك بالحاسوب فوق ذلك كله آفاقا أكثر اثارة وأقل تكلفة، عبر أفلام مثل "المدمر" و"حديقة الديناصورات" و"فوريست جامب" وغيرها كثير.

الصوت أيضا معركة

السينما انفعال (لكن لا بأس بالطبع إن كان بها فكر أيضا)، هذا هو رأي معظم المخرجين الكبار. ومن ثم كان جل اهتمامهم هو الاستحواذ على كل حواس المشاهد. ومع مرور الوقت اكتشفوا أنهم لم يعطوا الاهتمام الكافي بعضو السمع في الإنسان. كان ثمة محاولة سميت "السنسراوند" لاضافة صوت قوي محيط بالقاعة، وحققت هذه المحاولة نجاحا طيبا مع فيلم مثل "الزلزال" 1975. بعد هذا بعامين ولد نظام جديد اسمه "دولبي ستريو" مع فيلم حروب النجوم، قدر له ان يتطور وأن يصبح عاملا مهما في اجتذاب الناس لقاعة العرض حتى يومنا هذا، كما ظهرت عدة تنويعات مهتمة أكثر تقدما منه في عام 1993. والفكرة الأساسية في هذه النظم جميعا هي توزيع الصوت حول القاعة مع ضمان قوته ونقائه لأبعد صدى، وإضفاء الطبيعية التي توحي للمشاهد بوجوده وسط الحدث المقدم على الشاشة. في هذه الأثناء لم تكن وسائط الترفيه الأخرى غافلة أو مستكينة. فالتليفزيون بدأت تكبر أقطار شاشاته حتى راح بعضها يضاهي شاشات السينما. و"حزم" الصورة الذي يدل على درجة تحدد تفاصيلها بدأ يتطور بسرعة أيضا فظهر التليفزيون عالي الحزم بضعف عدد خطوط الشاشة الحالية، وبجودة تتراوح ما بين جودة الفيلم 16 مم والفيلم 35 مم. أيضا بدأت الشاشة التليفزيونية نفسها تزداد عرضا، أي تنتقل من نسبة 4: 3 إلى نسبة 16: 9 أما الفيديو فكان أسرع في التطور، إذ دخل من فوره مجال الأقراص المنضغطة COMPACT DISKS مما كفل له جودة رائعة للصورة بدوره. المشاهدة المنزلية دخلت أيضا معركة الصوت تلك، فظهر نظام "البرولوجيك" الذي يتيح توزيع الصوت على خمس سماعات تحيط بالحجرة، وفي العام الماضي ظهرت نظم أخرى أكثر تقدما أهمها نسخة منزلية من نظام صوتي سينمائي رقمي شهير آخر هو "تي اتش اكس". وإجمالا يمكن القول إن نتيجة معركة الصوت بين دور العرض والمشاهدة المنزلية انتهت إلى التعادل وعلى أعلى المستويات.

وحتى سنوات قليلة جدا، كان الفن مادة يكتبها أو يرسمها أو يؤديها فنان أو فنانون، ودور المشاهد هو الجلوس أمامها للانفعال بها. إلا أن حقبة جديدة في تاريخ الفن بدأت من خلال دمج تلك المادة الفنية مع إمكان المعالجة التي يتيحها الحاسوب. هذا يعني أن في امكان المشاهد التدخل في أحداث الفيلم وفي مساراته، ناهيك عن التحكم في تفاصيل الصوت والصورة بدرجات كبيرة. هذا ما سمي "التفاعلية"، أو - إذا نظرنا له من وجهة نظر الحاسوب - "الوسائط المتعددة". ومع التطور السريع في الأقراص المنضغطة والتي سيكون عام 1995 عاما حاسما لجيلها الجديد الأضخم في السعة والقابل للتسجيل عليه بتكلفة صغيرة، أيضا مع تطور طرق الاتصال الكثيفة المعلوماتية مثل طرق المعلومات الفائقة السرعة والستالايت الرقمي.

ومع انشاء "الخارمات" العملاقة لحفظ الأفلام والألعاب وغيرها كمواد حاسوبية، مع كل هذا باتت التفاعلية تسلية منزلية بالأساس، سواء تعاملت فيها مع قرص يشترى أو يؤجر، أو مع مركز خدمة تتفاعل معه كفيديو "تحت الطلب" أو كبرنامج حاسوب "على الخط" كما تسمى اليوم.

الخروج من البيت

ما المفتاح إذن لأزمة شعبية السينما؟ إنه بالطبع متعة المتفرج وراحته. وحسب الصورة السابقة فكل التسلية باتت متاحة منزليا بذات الجودة وفي التوقيتات الأنسب للمشاهد، وبالتالي لا يبدو أن الصورة الحالية للسينما المتمثلة في دور العرض سوف تحسن من شعبيتها في القرن الثاني. على ان ما نراه هنا هو أن التاريخ يعيد نفسه بعد 50 عاما: تحاول السينما أولا التكيف مع المبتكرات الجديدة، ولا تزال هوليوود وأفلامها الشرارة الأم للابداع، تنطلق لتصبح المادة الأساسية لكل الوسائط بدءا من التليفزيون والفيديو وحتى ألعاب الفيديو والأقراص التفاعلية والمواد الحاسوبية. وثانيا تعود السينما بعد قليل بثورات تقنية تجعل الخروج من البيت أمرا مغريا من جديد. واليوم تجرى عدة ثورات - كما الخمسينيات - قد لا تبدو للوهلة الأولى امتدادا ما للسينما التقليدية، لكن الحقيقة أنها كذلك بصورة أو بأخرى. أولها هي دور العرض المقببة العملاقة المعروفة باسم الايماكس، وهي إحدى صور المشاهدة التي ستحقق إزدهارا خاصا في العقد القادم. فبعد أن كانت شبه مقصورة منذ السبعينيات على الأقلام والتسجيلية، بدأت تطرق الأجناس السينمائية الأخرى. ومن اللافت أن يتولى رئاسة الشركة صاحبة الآيماكس الرئيس السابق لشركة الحواسيب الأكبر والأشهر "آى بي ام"، وأن يبدأ خطة طموحا لبناء اعداد جديدة ضخمة من هذه الدور عبر العالم هذا العام على ان الترفية الأكثر اثارة خارج المنزل سيكون "ركوبات" ما يسمى الواقع شبه الحقيقي VIRTUAL REALITY، والتي يمر الحضور فيها سواء بوضع خوذات علي أعينهم أو بمجرد الجلوس أو المشي بعوالم خيالية مجسمة يتفاعلون معها وتتجاوب تلك المادة الحاسوبية في جوهرها، مع ردود أفعالهم، هذا النوع من الترفيه آخذ في الانتشار بسرعة مذهلة بدءا من ركوبات الحروب الفضائية وركوب شلالات الأنهار، إلى مبارزات السيف والمداعيات الدافئة. ويتوقع جورج جيلدر المفكر المستقبلي الشهير وصاحب كتابي "الحياة بعد التليفزيون" و"الكون الميكروي" أن يكون هذا هو الترفيه رقم واحد، وأن عدد رواد دور الواقع شبه الحقيقي سوف يفرق عدد رواد دور العرض السينمائية بمراحل. ذلك مع العلم أن الواقع شبه الحقيقي متاح بدرجات معينة حاليا في أجهزة وأقراص منزلية، وهذه إرهاصة بمعركة أخرى!

الخلاصة ان العقود الأولى للقرن الثاني للسينما ستكون عقود اندماجها في المنظومة الرقمية الموحدة، أو ما يسمى الوسيط الواحد الذي تتحول فيه المادة الواحدة (الفيلم أو الكتاب أو برنامج الحاسوب أو غيرها) من صورة إلى أخرى بسهولة آلية. وسوف تعيش السينما صورا جديدة بسهولة آلية، وسيصعب شيئا فشيئا التعرف فيها على أصلها الحالي، هذا الأصل الذي ألهم عقول ومشاعر أجيال بأكملها عبر كل بقاع الدنيا وهي الحقيقة التي لن تنسى أبدا.

 

مدحت محفوظ

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




الحدائق المتخصصة تحقق ثلاثة أضعاف ايرادات السينما





الواقع شبه الحقيقي يذهب للمنازل أيضا