الشيخ محمد الفاضل ابن عاشور مصلح جدّد في الفكر والأدب

الشيخ محمد الفاضل ابن عاشور مصلح جدّد في الفكر والأدب

ساد الاعتقاد بخصوص قضية تجديد الأدب والفكر، وتنوير دروب الثقافة بالنسبة إلى البيئة التونسيّة والمغاربيّة عموما في النصف الأوّل من القرن العشرين أن الشّاعر أبا القاسم الشابي كان رائدا في ذلك بامتياز، سواء من خلال ذاك النّفس التّحديثي الذي التقت فيه منازع الرّومانسيّة بالدعوة إلى الثوّرة على الجمود والمستعمر أو عبر كتابه «الخيال الشّعري عند العرب» الذّي نقد فيه آليات الكتابة الشعريّة لدى القدامى، ومن اتبعهم في العصر الحديث لافتقارها إلى التخيّيل الخصب وفنون الرّمز.

هذه القراءة التّي سادت وذاعت مشرقا ومغربا، إن كانت إلى حدّ ما صائبة، فإنّها لن تمنع مطلقا منطق التاريخ أن يكشف عبر مقاربات وقراءات جديدة عن طبيعة الأدوار التّي اضطلع بها أعلام آخرون من كتّاب، وأدباء، ومصلحين جدّدوا في الأدب والفكر، واستنهضوا الهمم إلى النهضة والتحديث، وشرعوا في المساءلة النقديّة للموروث الأدبي والحضاري، باحثين عن مدى قدرته على الإجابة عن أسئلة الرّاهن، ابتغاء تحقيق سبل التقدّم والإصلاح والحريّة.

فعلى مدى العقدين الماضيين بدأ الاهتمام بأعلام ساهموا في صنع نهضة الفكر الحديث، ممن ناضلوا من أجل تحقيق الاستقلال والتحرّر من ربقة الاستعمار، وفي هذا السياق بدت تلك العناية بمؤلفات الشيخ المصلح عبد العزيز الثعالبي «ت 1944 م» الذّي اكتسى نضاله صبغة عربيّة وكان على صلة متينة بالشرق العربي وبنبض الحركة الإصلاحيّة التّي أرسى دعائمها الشيّخ محمد عبده «ت 1905 م»، و«الثعالبي» مؤسس الحزب الحرّ الدستوري القديم سنة 1920 م، ومن أشهر مؤلفاته «روح التحرّر في القرآن» و«تونس الشهيدة». غير أنّ آثار علم بارز وقلم غزير، ذي فكر ثاقب ونعني الشيّخ محمد الفاضل ابن عاشور «ت 1970» لم تلق بعد العناية الفائقة، فلم تُدرس أو تقرأ، قراءة مضيئة وخلاّقة تمنح نصوص هذا العلم الحيويّة والتجدّد اللاّزمين، صحيح أنّ الحياة الثقافيّة التونسيّة عاشت سنة 2009 مائويّة هذا الشيخ العلاّمة الذّي ولد في 17 أكتوبر 1909، ونظّمت ملتقيات وندوات بالمناسبة، لكن ذلك لن يكفي لوحده حتّى يدمج فكر الشيّخ الفاضل ابن عاشور في نسيج المدوّنة الإصلاحيّة التحديثيّة للنصف الأوّل للقرن العشرين، ولن يمكّن من معرفة مدى إسهامه في صياغة ثقافة الدّولة الوطنيّة الحديثة، وإصلاح التعليم وتجديد الخطاب الديني والأدبي على السّواء! ربّما كان لذاك المسار الذّي سلكه الشيّخ الفاضل في إنتاج فكره وقول علمه أثر في ذلك. إذ عُرف الشيّخ بفنّ المحاضرة، والميل إلى الخطابة، فهو محاضر متميّز وخطيب بارع، وقد قال عنه سماحة الشيّخ الحبيب ابن الخوجة «شيخنا الجليل رحمه الله أبرع النّاس ارتجالا وأحذقهم مقالا. فلم يكن على مُجالسه لو أراد أن يسجّل كلامه إلاّ أن يأخذ القلم في ذلك المجلس، فيكتب ما يصدر عنه، فإذا هو ديوان علم يُستفاد، وسجّل فكر يستجاد» «مقدمة كتاب الفاضل ابن عاشور، ومضات فكر، 2 ج، الدّار العربيّة للكتـاب، 1980». وأغلب كتبه قُدّ على هذا النحو، إذ كانت مؤلفاته نتاجا لمحاضرات ألقاها على منابر جمعيّات ثقافيّة أو مراكز بحث علمي مثل تلك التّي قُدّمت على منبر «معهد الدراسات العربيّة العالية» بالقاهرة في منتصف الخمسينيات من القرن الماضي، وشكلت لاحقا المادّة الأساسيّة لأحد أهم كتبه, ونعني «الحركة الأدبيّة والفكريّة في تونس» «الدّار التونسيّة للنشر، 1972». ومن جنسها تلك المداخلات التّي أعدّت بشأن مؤتمر إصلاح التّعليم الزّيتوني «أغسطس 1931» تاريخ عقد مؤتمر إصلاح التّعليم الزّيتوني بالخلدونيّة. ومن محاضراته ومقالاته المشكّلة لكتبه ومصنّفاته ما حبّره بشأن ظهور الفكرة الإصلاحيّة بالبلاد المغاربيّة وبتونس على الأخصّ، أو ما هو متعلّق بالتجديد في الأدب ونقده والشعر وقرضه، أو ما هو صدى لنبض نسق الحركة الإصلاحيّة في المشرق تأثّرا بالآراء الإصلاحيّة النيّرة للشيّخ محمد عبده الذّي أدّى زيارتيّن متميّزتين إلى تونس 1884 قادما من باريس والثّانية سنة 1903 التقى فيهما بأبرز وجوه النخبة التونسيّة الإصلاحيّة الزيّتونيّة، وقد كان لتلك الزيارتيّن الصدى الأمثل في الفاضل ابن عاشور فكتب بشأنهما بعد أن بلغته أخبارهما إسهاما منه في استئناف حركة الإصلاح والتّجديد مقالات ضمّنها صحفا ومجلات كـ: «المباحث» و«الزهرة» و«الثريّا» و«الصّباح» و«جوهر الإسلام» و«مجلّة مجمع اللّغات العربيّة» وتدور أغلب محاور المقالات على سبيل تحقيق «النّهضة» للمجتمعات العربيّة الإسلاميّة بعد أن استفاقت فجر العصر الحديث على صدمة «الحداثة، وما نتج عنها إثر إطّلاع النّخبة العربيّة عبر «الرحلة» والبعثات العلميّة والدبلوماسيّة عمّا وصل إليه الآخر الغربي من تمدّن ورقيّ وثورة علميّة تكنولوجيّة، وافقتها حرّيات وتنظيمات سياسيّة عادلة، تقوم على تشريك الفرد باعتباره مواطنا، وعنصرا أساسيّا في بناء الدولة الحديثة واختياراتها، وليس مجرّد واحد من العامّة.

الرؤية الإصلاحيّة وقضايا التحديث

كان لآراء مفكّري النهضة والإصلاح من الجيل الأوّل ونعني الطهطاوي وابن أبي الضياف وخير الدين التونسي ومحمود قبادو وصولا إلى الشيّخ محمد عبده المصلح والمجتهد المجدّد في علوم الدّين الصّدى الأثير في تكوّن ملكة الفكر لدى الشّيخ الفاضل ابن عاشور، وفي نزوعه الواضح إلى النقد والتجديد، باحثا عن مسالك تنوير الفكر، إحياء لمنابت الإصلاح واليقظة، عبر الاقتباس عن الآخر الأوربيّ تلك «العلوم الرياضيّة والتقنيّة» التّي بها يمكن أن تلحق مجتمعاتنا بركب الحضارة والتقدّم. وقد رصد الشيّخ الفاضل عوامل القوّة وعناصر التفوّق الحضاري في ثقافة الآخر، حين قال: «إذا اعتبرنا مع هذا أنّ الثّقافة الفرنسيّة لها وفرة إنتاجها، وقوّة وسائل عرضها وانتظام تجدّدها» «الحركة الأدبيّة والفكريّة في تونس، ص237»، لا سيّما وأنّه سافر إلى فرنسا منذ حداثة سنّه «عام 1926» واطّلع على مظاهر الحداثة والمعاصرة بها.

غير أنّ الشّيخ الفاضل ابن عاشور «بحكم تتلمذه إلى جملة من المشائخ العلماء الكبار مثل سالم بوحاجب ووالده «فضيلة العلاّمة محمّد الطّاهر ابن عاشور»، وبحكم ثقافته الإسلاميّة الأصيلة، كان مثال العالم العامل بعلمه «...» يرى أنّ إصلاح شئون الإسلام لا يكون إلاّ عن طريق الاجتهاد المشفوع بالعمل والتفتّح المفضي إلى الحوار، كلّ ذلك في نطاق تعايش، وفي سبيل التّوفيق بين الإسلام ومقتضيات العصر الحديث «حوليات الجامعة التونسيّة، العدد السابع سنة 1970، كلمة هيئة تحرير المجلّة».

هكذا ضمن هذا السّياق تنزّلت جهوده العلميّة وسائر أنشطته النضاليّة إذ «تولّى إلى جانب اضطلاعه بالتّدريس الذّي لم ينقطع عنه إلى وفاته رئاسة «الجمعيّة الخلدونيّة» سنة 1945 وأنشأ بها معهد البحوث الإسلاميّة المهيئ لتعليم زيتوني عصري، وشارك في بعث الاتّحاد العام التّونسي للشّغل، وكان ممّن سجن في أغسطس 1946 من أجل القضيّة الوطنيّة، حتّى إذ كان الاستقلال وإعلان الجمهوريّة بتونس، توطّد كفاحه الإصلاحي، وآل به ابتداء من سنة 1961، إلى تقليد المناصب التّي مات وهو يعمل على إذكاء ثمارها بما منحه إيّاها من روحه وقلبه وعقله.

صدمة الحداثة واقتباس أوربا

لقد رصد الشّيخ الفاضل ابن عاشور بحسّ المصلح المجدّد وقع صدمة الحداثة على الأمّة والمجتمع فمضى يقول: «... وعلى رجّة تلك الأحداث الهائلة التّي سبقت احتلال فرنسا لتونس بخمسين عاما، نهض المجتمع التّونسي مبهوتا ينظر حواليه، فرأى صور الحياة المألوفة قد انقرضت، وبُدّلت الأرض غير الأرض» «الحركة الأدبيّة والفكريّة، ص 24»، لنلاحظ مدى الوعي بالتحوّل التّاريخي في ميزان الحضارة والتقدّم، كذلك رشاقة العبارة الأدبيّة الدالّة: «وبُدّلت الأرض غير الأرض». وكأسلافه من كبار المصلحين المجّددين ينفي الشّيخ الفاضل عن الدّين كلّ تهمة تجعله سببا في التخلّف، لكونه في الأصل من عوامل التقدّم والعلم وقد حثّ المدنيّة، لهذا حثّ على العمل وطلب العلم وجلب المصلحة ودرء كلّ مفسدة، ورغم ذلك فالعالم الإسلامي في حالة تأخّر وتدهور، مع أنّ الإسلام بذاته كفيل بأن يكوّن المجتمع القائم على أصوله في حال تخالف ماهو عليه الآن، «ومن ثمّ» ينبغي أن يُعزى السّبب في ذلك إلى أمر خارج عن جوهر الدّين كان موجودا عند المسلمين ففقد، وأنّ المقارنة تظهر أنّ هذا الأمر إنّما هو العلوم الحكمية، فالمعرفة مطلوب ديني لذاته، وهذه العلوم كانت مزدهرة متقدّمة عند المسلمين، وكان المسلمون لمّا كانت هذه العلوم رائجة فيهم، سائرين متقدّمين، ثمّ أضيعت هذه العلوم وتأخّرت فهان المسلمون، وتأخّروا تبعا لذلك، واقتبست أوربا هذه العلوم عن الإسلام»، فسادت أوربا على الإسلام بنسبة ما هجر هو هذه العلوم، وهنا يرى الشّيخ أنّه «لا سبيل حينئذ إلى أخذ الإسـلام بحظّـه «من السّعـادة والنّهضـة إلا باستعـادة نهضـة هذه العلوم التّي أضاعها، ولا سبيل إلى ذلك إلاّ باقتباسهـا عن الأوربيين بالنّقل والتعلّم» «المرجع السّابق، ص 35».

ومعنى هذا أنّ الشّيخ الفاضل ابن عاشور من القائلين بالاقتباس عن أوربا في مجال العلوم والفنون والتّنظيمات العصريّة، وهو الموقف نفسه الذّي قال به الطهطاوي وشكيب أرسلان والكواكبي، كذلك لطفي السيّد وطه حسين «ت1973» في كتابه «مستقبل الثّقافة في مصر» وقد كانت هناك ألفة وصداقة حميمة تربط الشيخ الفاضل وكذلك والده شيخ الإسلام الطاهر بن عاشور بعميد الأدب العربي، وهي صلة ترتقي إلى مستوى التّجانس في الأفكار والرّؤى، وهو ما عبّر عنه طه حسين عند زيارته لتونس 1957 مشرفا على امتحانات الجامعة التونسيّة غداة انبعاثها، أو من خلال ما كتبه في جريدة «الجمهوريّة» على إثر تلك الزيارة التي قام بها إلى تونس، وللإشارة فإنّ الشّيخ الفاضل من أعضاء مجمع اللغة العربيّة بالقاهرة.

العلم بلا أوطان ولا عصبيات

وقد أبدى الشّيخ الفاضل اهتماما بالغا بالعلم وطرق تحصيل أصول المعارف الحديثة من مصادرها الأصلية، وليس من خطر في ذلك على الأمّة وهويّتها الحضاريّة أو شخصيتها الثقافيّة في نظره، ذلك أنّ العلم ممّا تشترك فيه الإنسانيّة جمعاء، وهو نتاج لسائر الحضارات وخلاصتها التاريخيّة، ومن ثمّ «فليس للعلم أوطان ولا عصبيّات»، على حدّ عبارته، بل إنّ «الدّين الإسلامي تقهقر بنسبة تأخّر المسلمين في العلوم الكونيّة» «ص 70»، ولهذا ظهر في تونس ذاك التّواصل الفاعل مع الحركة الإصلاحيّة في المشرق، كما مثّلها «جماعة المنار» وعلى رأسهم الشيخ محمّد عبده، لقد كان لهذه الحركة صداها في تونس لدى الجمعية الخلدونيّة التّي تأسست سنة 1896 م ولدى الزّيتونيين من المجدّدين، فكان الشيخ الطاهر ابن عاشور «سفير الدّعوة في الجامعة الزيتونيّة» «ص 76» على حدّ عبارة الإمام عبده، وممّا يدعم ذلك أنّ الخلدونيّة أقامت مجمعا عامّا عند الزيارة الثانية للشيخ عبده، ألقى فيها محاضرته القيّمة التّي عنوانها «العلم وطرق التّعليم»، فكانت تأييدا وتقوية لحركة الإصلاحيين، وأصبحت أساس العمل لحركة الإصلاح الزّيتوني، وقد نشرتها جريدة «الحاضرة» تباعا، ونقلتها عنها «المؤيد»، و«المنار»، و«ثمرات الفنون»، وطبعت طبعتين مستقلتين إحداهما بتونس، والأخرى بمصر. فاشتعلت حميّة الانتصار للإصلاح الدّيني والتعليمي في الشباب الزيتوني، وأصبح اسم الشيّخ ابن عاشور مهتف دعوة المجدّدين وهدف أفكار الرجعيين» «ص 76».

ولمّا كانت المنظومة الفكريّة للشّيح محمد عبده تقرن بين حركة الإصلاح التّعليمي والدّعوة إلى الإصلاح الدّيني والاجتماعي والسّياسي، فإنّ صدى هذه الفكرة الإصلاحيّة استمرّ مؤثّرا بقوّة إلى حدود ثلاثينيات القرن العشرين، حيث أمكن للشيخ الفاضل أن يصدع بآرائه الإصلاحيّة أثناء مشاركته في مؤتمر طلبة شمال إفريقيّا المسلمين المنعقد بقاعة الخلدونيّة «أغسطس 1931»، ولم يتجاوز بعد من العمر اثنتين وعشرين سنة، فكان رأيه أنّ مناهج التّعليم السّائدة آنذاك تغيب منها العلوم التّي من شأنها «تربية الفكر على النّظر والنّقد الصّحيح إلاّ أربعة أو خمسة من العلوم الرياضيّة، تحسبها تفيد شيئا، حتّى إذا علمت أنّ الطّلبة لا ينتهون في دراستها إلى نهاية المبادئ منها، أيقنت بضعف أثرها في التّعليم». كما نظر إلى المصنّفات المدرجة للتّعليم نظرة نقديّة لكونها ترسّخ في الأذهان «البحث التّحليلي السّخيف والتمسّك بالقشور والخضوع لكلّ مسموع بالتّصديق، إجلالا لدرجة قائله كائنا من كان». ومن ثمّ كانت أساليب التّعليم المعتمدة تقتصر فحسب على «طريقة الإلقاء المحض، مجرّدة عن كلّ عمل تطبيقي أو استنتاجي من جهد التّلميذ، فتتعطّل جميع مواهبه العلميّة، ولا يتمرّن فكره أبدا على الإنتاج العلمي وحريّة النّقد والابتكار».

وهنا أمكن أن نتبيّن مدى نزوع الشّيخ الفاضل ابن عاشور إلى الإصلاح والتّجديد وهو الذّي آثر النّقد منهجا إلى ذلك، فتأكّد حماسه إلى إرساء أسس الإصلاح والتّحديث رغبة في التقدّم، وتبرئة للإسلام ممّا لحق بالمجتمع العربي من تخلّف وضعف، وذلك يتّضح أكثر حينما يلمس قارئ نصوص الشيخ استخدامه للمصطلح السّياسي الاجتماعي الحديث من نوع «العدل» و«الحريّة» و«النّهضة» و«الجامعة الإسلاميّة» و«الفكرة الإصلاحيّة»، وهو بذلك يؤكّد انتماءه عن استحقاق إلى كوكبة رجال الفكر والإصلاح والرّواد ممّن أحسن استثمار الفكر الخلدوني ابتغاء يقظة الضّمير العربي الإسلامي، وانخراطه في حركة التّاريخ والتقدّم مجدّدا بعد ركود وسبات خلّفتهما عصور الانحطاط.

التّجديد في الأدب والثّقافة

الشّيخ الفاضل ابن عاشور أديب مجيد وخطيب بليغ، وناقد حصيف للشّعر والأدب، بمقاييس عصره، وقد قرض الشّعر أيّام الشّباب، وتميّز في الكتابة عن الأدب «السّرد» والتّأريخ لأهمّ تيّاراته بأسلوب هو الأدب الرّفيع والقول البليغ عينه، وفي هذا قال الشّيخ الحبيب ابن الخوجة: «إنّك تلمس في كتابته وعرضه وطريقته في تناول موضوعه تركيزا على انتقاء الكلام الرّائع، وعناية منه بالجمل الرّقيقة الرّاقية، وتأثّرا بأساطين الأدب من كتّاب وشعراء، من العهد العبّاسي في المشرق، والعصر الزّاهر الأندلسي في المغرب» «مقدّمة، ومضات فكر، ص 9». وقد تطرّق في حوار أجرته معه مجلّة «النّدوة» «عدد 8 نوفمبر 1956» إلى بيان ذلك، فقال: «وإنّي لأعتبر الذّي كوّن فيّ الميل إلى الخطابة هو أنّ اتّصالي بالحياة في عامّة أشكالها إنّما كان من النّاحية النظريّة التصويريّة، فأصبحت الصّورة الذهنيّة وقالبها التّعبيري هي الأصل الوجودي لكلّ حقيقة من حقائق الحياة، وأصبح الوجود الخارجي عندي مظهرا تطبيقيّا للحقائق الذهنيّة لا أصلا لها». ولهذا كان تذوّق الشّعر والنّثر والخطابة لدى الشّيخ الفاضل تلقيّا فريدا من نوعه، يجمع بين عمق الرّؤية النقديّة وجماليّة القراءة المتفرّدة التّي تحيط بالمباني والمعاني وطرق استخدام العبارة وبناء الأسلوب، فهو ينقد وضع الشّعر العربي قبل كتابات رواد النّهضة الأدبيّة، وقبل لحظة الشابي فيقول: «كان الشّعر في أغراضه، وروحه وأسلوبه، على ما كان عليه قبل النّهضة في الشّرق «...» بين قصائد مديح ومدح ورثاء ومقطعات في الغزل، والوصف والمساجلة، والألغاز، والتّلويح، والتّشطير، والتّخميس بما يقصد فيه إلى ذات الفنّ والتّسلية، وقد استولى عليه البديع المصطنع فضعفت معانيه، وتضاءلت فصاحته، وتهلهل نسجه وشاع فيه العبث والمجون»، وفي نظره أن من بقي من أعلام الشّعر العربي في تونس هم أمثال الشّيخ محمود قبادو والباجي المسعودي الذّين عرفوا بجودة أشعارهم «صبابة، يتنادم عليها طائفة من الأدباء الذّين تعاطوا الشّعر فأجادوا وجوّدوا، وإن لم يبلغوا شأن الفحول» وهؤلاء «جميعا من العلماء الزّيتونيين، وكان شعرهم متين الأسلوب، سليم الذّوق البياني وإن كانت روح قصائدهم ومقطّعاتهم إلى السّذاجة أقرب» «المرجع نفسه، ص 54».

طائفتا الشعر

لنلاحظ إذاً التّقارب بين مقالة الشّيخ الفاضل في نقد الشّعر والأطروحة التّي تضمّنها كتاب الشّابي «الخيال الشّعري عند العرب». ويتّضح لنا هذا المنحى حين ننظر في قراءة الشّيخ الفاضل لكتابات أولئك الذّين ظهروا على هامش الجماعة المجدّدة في نظم الشّعر، وهم طائفتان:

طائفة من الأدباء، قويّة روحهم الشعريّة، هزيلة مادّتهم، ضعيفة صناعتهم، ظهرت عندهم خفّة في نسج القصيد، وسلامة في انطباع التّراكيب على معانيها، وانطباع المعاني على فطر أصحابها، وإن كانت من النّاحية اللّغويّة والتركيبيّة والبلاغيّة ضعيفة كثيرة الأسقام.

طائفة من الأدباء المفكّرين من ربائب النّهضة، وأنصار الإصلاح فاضت على شعرهم نزعتهم الفكريّة الإصلاحيّة فتعاطوه بدافع العمل لإقامة النّهضة التّي كانت مهتف ضمائرهم، ومتعلّق أفكارهم وإحساساتهم، وإن لم يكونوا أقوياء الانفعال بالرّوح الشّعرية الفنيّة، فجاء شعرهم، كما يقال ثقيل الطّبع، قليل المساغ، وإن كانوا قد فتحوا به غرضا جديدا يعتبر مميّزا لهذا الدّور، وهو غرض الشّعر الاجتماعي.

نلاحظ مدى ملاءمة الشّيخ في نقده بين طَرْقِ قضايا اللّغة والأبعاد الفنيّة والهيكليّة في بنية القصيدة من ناحية وتأثير السّياق الاجتماعي الذّي فرض ضرورة قرض الشّعر في غرض الإصلاح ومدح مظاهر التمدّن والتقدّم من ناحية أخرى، إنّه «لمّا كانت غرائب الاختراعات الغربيّة هي متّجه أنظارهم، ومحرّك نهضتهم، فقد وجّهوا الشّعر إلى هذا الغرض الذّي لم يخطر عليه الشّعر العربي من قبل، وكان فاتح هذا الباب الشّيخ محمّد السّنوسي، ويتطاول إعجابا بأنّه فاتحه» «المرجع نفسه، ص 55»، له قصيدة أثبتها في الجزء الأوّل من كتابه «الرّحلة الحجازيّة» في فضل وسائل النّقل المعاصرة، يقول طالعها:

أرأيت كيف تقارب البلدان
بالمزجيات جرت على القضبان

تلك نماذج من مقالة الشّيخ الفاضل في نقد الشّعر والأدب، ولا يتّسع المقام هنا لنورد أمثلة، فاقتصر غرضنا على ذكر الجانب النّظري من الخطاب النّقدي للشّيخ ممّا اهتمّ فيه بالشّعر والقصّة إلى جانب أشكال الكتابة السرديّة الأخرى، كما تطرّق إلى نقد أساليب فنّ الخطابة وممارستها في عصره.

ولعلّ أهمّ ما أعطى المشروع الفكري للشّيخ الفاضل وجاهة، هو اهتمامه بطرق قضايا الأدب والشّعر في ضوء مشاغل العصر والتّجديد من ناحية، وانطلاقا ممّا تعرفه حركة الفكر والأدب بالمشرق العربي من نزعات تجديد وتحديث كان لها باستمرار الصّدى البليغ في بلاد المغرب العربي.

وكما رأينا تتعانق في مشروع الشّيخ الفاضل جماليّة العبارة مع عمق الفكرة، وتلتقي بلاغة القول الأدبي بجدّية الكلام في قضايا الاجتهاد الدّيني والإصلاح، ذلك أنّه «مع حفظه الجيّد للقرآن الكريم وتمرّسه بالأدب النّبوي الشّرٍيف ومعرفته بعيون البيان من شعر ونثر وخطب ورسائل، وبصره بقواعد اللّغة وأسرارها، وإحاطته إحاطة غزيرة النّظير بعلوم الوسائل والمقاصد والمذاهب الفلسفيّة بأنواعها، وإدراكه لمقوّمات الحضارة، والمعرفة باللّغات الأجنبيّة «كان» متفتّحا على الآفاق الجديدة لعالمنا» «مقدّمة: ومضات فكر، ص 9».

وهكذا أمكن لنا أن نختم بالإشارة إلى ضرورة الاهتمام بالمشروع الفكري الإصلاحي النّقدي للشّيخ الفاضل ابن عاشور من قبل المختصّين في سائر الحقول المعرفيّة دراسة ونقدا على نطاق عربي إسلامي واسع. ولعلّ مشهدنا الثّقافي والفكري الدّيني يحتاج اليوم أكثر من أيّ وقت مضى إلى ذلك، لا سيّما إذا نظرنا في كتابه الصّادر أخيراً عن مركز النّشر الجامعي تونس بعنوان «محاضرات» وضمّ نماذج من كتابات الشّيخ ومحاضراته في قضايا تجديد العلوم الدينيّة ومسائل الاجتهاد والإصلاح، إضافة طبعا إلى كتابه «المحاضرات المغربيات» الذّي طبع منذ فجر الثمانينيات.

 

 

محمد الكحلاوي 




محمد الفاضل ابن عاشور





في مجمع اللغة العربية مع د. طه حسين وأعضاء المجمع البارزين





 





 





 





 





الفاضل ابن عاشور مرحبا بالأديب طه حسين أثناء زيارته لتونس عام 1957