التطور.. نظرية داروين الثورية

التطور.. نظرية داروين الثورية

يحتفل العالم منذ عام كامل بمئتي عام على ميلاد داروين، وما يستوجب ذلك من إعادة النظر في نتائج نظريته الشهيرة عن التطور، فكيف هو حال العرب من هذا النقاش، ولماذا لا نجد اهتماماً ملموساً بهذه القضية العلمية التي تجسد ثورة في علم البيولوجيا، وهل يتعارض الإسلام مع بحث القضايا العلمية أيا كانت؟!

بداية تجدر الإشارة إلى الدور المركزي للعلم في الإسلام، وهو ما يمكن أن نراه بوضوح في الآية الأولى من آيات القرآن الكريم التي أوحيت إلى الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) والتي يأمره فيها الله بالقراءة بوصفها أول مبادئ العلم، اقْرَأْ باسْمِ رَبِّكَ الذي خَلَقَ ، العلم بكل فروعه ومعانيه، ويدعو إلى الاستزادة منه: وقل رَبِّ زِدْني عِلْماً ، حتى لو كان في أقصى نواحي الأرض كالصين، أطلب العلم ولو في الصين (حديث). والله في الإسلام يميز في القيمة والمستوى بين الذين يعلمون والذين لا يعلمون هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون . ويذهب الإسلام إلى أبعد من ذلك عندما يعتبر من مات مهاجراً في سبيل العلم فقد مات شهيدا (حديث).

فالعلم كما يقول الفيلسوف الإنجليزي، النمساوي الأصل، كارل بوير: «هو أعظم وأجمل إنجازات البشر». والعلم الذي يدعو إليه الإسلام هو العلم الذي يفيد البشر وينقذهم من عبودية الظلم والمرض والفقر والجهل والأميّة. وقد ساد هذا المفهوم للعلم عند علماء المسلمين الأوائل الذين جعلوا منه أساساً لحضارة إسلامية عظيمة.

بهذا المعنى يصبح الحديث عن داروين ونظرية التطور ونتائجها العلمية ضرورة وواجباً لأنها كانت ثورة في علم الأحياء الحديث (البيولوجيا) الذي هو اليوم من أمهات العلوم الواعدة في مستقبل الجنس البشري والمخلوقات الحية الأخرى.

من هو داروين؟

في مثل هذه الأيام منذ مائة وخمسين عاماً، صدر في لندن كتاب مثير أحدث ضجة كبرى في الأوساط العلمية والدينية والفكرية في أوربا والعالم مازالت أصداؤها تتردد حتى اليوم بين مؤيد ومعارض في جميع أنحاء العالم. كان العنوان الأساسي لهذا الكتاب: «أصل الأنواع بطريقة الانتقاء الطبيعي (On The Origin Of Species By Means of Natural Selection) والنظرية «الثورية» التي تضمنها هي الانتقاء الطبيعي والبقاء للأصلح من خلال الصراع من أجل الوجود، ويدعى المؤلف تشارلز روبرت داروين، الذي ولد في 12 فبراير عام 1809 في بلدة شروزبري الإنجليزية في أسرة اشتهرت بنزعتها العلمية، سواء من جهة والده روبرت وارنج داروين، الذي كان طبيباً موسراً، أو من ناحية جدّه إيراسموس داروين الذي كان طبيباً وفيزيائياً وشاعراً وعالم طبيعيات، ومؤلف كتاب شهير عن حياة الحيوانات عنوانه Zoonomia (1794)، الذي تضمن بذور نظرية التطور أو التحول، التي طوّرها ووضع أسسها فيما بعد حفيده تشارلز داروين.

لم يعرف تشارلز حياة دراسية لامعة، بل كان أقرب إلى البلادة الذهنية منه إلى الذكاء والنباهة. تلقى علومه الأولى والثانوية في مدرسة بلدته، ثم التحق بجامعة أدنبره (1825 - 1828) لدراسة الطب بناء على رغبة والده، وبعد حوالي ثلاث سنوات بدأ يتبرّم من هذه الدراسة ويكرهها، فانتقل إلى جامعة كمبردج وحصل منها بعد ثلاث سنوات على إجازة في الآداب واللاهوت تخوّله إلى أن يكون راعياً في الكنيسة، وهي من المهن المحترمة في ذلك الوقت، إلا أنه نفر أيضا من هذه المهنة، ممّا أغضب والده الذي قال له: «أنت لا تهتم بشيء سوى اللعب مع الكلاب واصطياد الفئران، وستكون وبالاً وعاراً على نسلك وأسرتك».

والواقع أن تشارلز كانت له هوايات متعدّة منها: جمع الأصداف، وأنواع النباتات والمعادن وكل ما يختص بعلم الحشرات، وعلم الطيور.

وعلى الرغم من هذا التخبّبط في الدراسة، والانصراف إلى حياة البذخ واللهو والشراب،فإن تشارلز داروين اشتهر بناحية علمية مهمة، وهي قوة الملاحظة، التي أشار هو نفسه إليها بقوله: «أعتقد أنني متفوق على البشر العاديين من حيث ملاحظة الأشياء التي تحتاج ملاحظتها إلى عناية وتدقيق وفراسة».

وفيما هو يعاني الضياع والملل وغموض المستقبل، تلقى من أستاذيه في جامعة كمبردج، جون هنسلو أستاذ علم النبات، وآدم سدجويك أستاذ الجيولوجيا، عرضا بمشاركتهما في رحلة علمية عبر المحيطات، كباحث متطوع في علم الطبيعة، وكتب إليه أستاذه هنسلو رسالة عن سبب اختياره في عداد طاقم هذه الرحلة جاء فيها: «إنني لم أخترك باعتبارك عالماً طبيعياً بلغ منتهى الكمال، بل لمعرفتي بأنك تستطيع أن تستغل أفضل استغلال هوايتك لجمع النماذج، وملاحظة الأشياء، وتدوين الملاحظات بدقّة وعناية، ولاشك في أنك ستسجل كل ما يستحق التسجيل فيما يتعلق بالتاريخ الطبيعي».

الرحلة المثيرة

اعتبر داروين هذا العرض المفاجئ فرصة لا تعوّض لإجراء ملاحظات مباشرة على جيولوجيا وبيولوجيا العالم الجديد. وفي السابع والعشرين من ديسمبر عام 1831 أبحرت سفينة الأبحاث الحكومية بيجل من أحد الموانئ البريطانية وعلى متنها فريق من الباحثين، بينهم تشارلز داروين، مهمتهم مسح شامل لشواطئ أمريكا الجنوبية، وجزر جالاباغوس البريطانية النائية، الغنية بشتى المناظر والتغيّرات الغريبة التي تختلف فيما بينها بحيوانتها ونباتاتها وطيورها وحشراتها، والتي تعتبر أجمل وأهم مختبر طبيعي للتطور فوق سطح الأرض، وكذلك معظم جزر المحيط الهادي وجنوب الأطلسي وغيرها من الأماكن الكثيرة، بحيث إن عيني داروين لم تتركا شيئاً في هذه الجزر من دون استقصاء وتبصّر. وقد لعبت هذه الجزر دوراً رئيسياً في تكوين نظرية التطور الداروينية، واعترف داروين نفسه بهذاالدور في رسالة إلى صديقه «لييل» بقوله «ما من شيء يساعد عالم الطبيعة أكثر من دراسة كل أشكال الحياة التي ظهرت في أكثر الجزر انعزالاً، لأن كل قوقعة، وكل ضفدعة وكل سحلية وكل نبات وكل طير له أهميته القصوى. وقد استطاع داروين خلال السبعة والخمسين شهراً التي استغرقتها هذه الرحلة المضنية المليئة بالصعاب والتحديات (عادت الباخرة إلى بريطانيا في 12 أكتوبر عام 1836) أن يجمع كنزاً من المعلومات والمشاهدات الحية عن الإنسان في حالته البدائية وعن حياة الحيوانات والطيور والنباتات والسلاحف والسحالي وطبقات الأرض، بالإضافة إلى معلومات كثيرة استقاها من مطالعاته واتصالاته بعلماء النبات والمزارعين ومربّي الحيوانات التي أكدت ودعمت صحة ملاحظاته الكثيرة وفحوصاته الدقيقة لكل ما شاهد ورأى، بأن التطور حقيقة علمية ثابتة خضعت لها مخلوقات الأرض جميعها منذ بدايات الخليقة وأزمنتها السحيقة، وبذلك كرّس داروين نفسه نهائيا لعلم الطبيعيات وارتبط بصداقة عميقة بعالم الجيولوجيا الشهير شارل لييل بعدما قرأ كتابه المهم «مبادئ الجيولوجيا» الصادر عام 1831، الذي استفاد منه كثيراً في إثبات نظريته عن التطور وبلورتها.

كتاب أصل الأنواع

عاد داروين من تلك الرحلة العلمية مريضاً، والتزم الصمت عن نتائج أبحاثه قرابة 22 عاماً وانتقل من لندن للسكن في قرية دون الهادئة في مقاطعة «كنت» مفضّلا الاحتفاظ بأسرار كشوفاته وملاحظاته العلمية، وعاكفاً على بلورة نظرياته العلمية عن التطور والانتقاء الطبيعي، لكنه مع ذلك نشر في عام 1839 كتابه «رحلة عالم طبيعيات» تحدث فيه عن ذكرياته ومشاهداته في تلك الرحلة، ويقول البعض إن سبب ذلك الصمت هو جمع المزيد من الحقائق والقرائن والأفكار، بينما يرجع فريق آخر السبب إلى رغبته في عدم المسّ بالمشاعر الإيمانية لصديقه روبرت فيتزوري، قبطان السفينة «بيجل»، الذي كان من المتديّنين، ويذهب فريق ثالث إلى الاعتقاد بأن السبب الحقيقي لصمت داروين هو المناخ المحافظ والجمود الديني اللذين كانا مسيطرين يومئذ ضد العلوم الطبيعية تحت تأثير مقولة التوراة عن الخلق، خصوصاً بعد الهجوم العنيف الذي تعرّض له كتاب «إثارات من التاريخ الطبيعي للخليقة» الذي نشره العالم روبرت تشامبرز في عام 1844 من دون توقيع، وطبع عدّة مرات والذي يحوي أفكاراً عن التطور وينفي قصة التطور وقصة الخلق كما يرويها «الكتاب المقدس» في سفر التكوين. وقد اعتقد داروين أن نشر آرائه حول هذا الموضوع ستواجه العاصفة نفسها التي واجهها كتاب تشامبرز، وهو ما لا تتحمله طبيعة شخصية داروين الوقورة الهادئة.

وضع داروين الخطوط العريضة لنظرية التطور في عام 1848، وألّف عنها كتابا في عام 1844، لكنه لم ينشره. وفي ربيع عام 1858، ألحّ عليه صديقه لييل، نشر ما توصل إليه من الفروض والملاحظات المؤيدة لنظرية التطور، لكنه بقي على حذره، إلى أن وقع ما لم يكن في الحسبان، عندما تلقى في 18 يونيو عام 1858 بحثاً مبتكراً من العالم الإنجليزي ألفرد راسل والاس (1823 - 1913) المقيم في أمريكا، (والذي جال أيضاً برحلة علمية حول العالم)، مصحوباً برجاء لداروين أن يقرأ البحث ويعطي رأيه الصريح في النظرية التي يتضمنها، وإذ هي النظرية نفسها التي توصل إليها داروين عن حقيقة التطور. أمام هذا المأزق استنجد داروين بصديقه «لييل» وكتب إليه رسالة قال فيها: «لم أرَ في حياتي تطابقاً أكثر إثارة للدهشة من هذا التطابق في الأفكار والنتائج مع بحث والاس، ولو أن والاس اطّلع على البحث الذي انتهيت إليه في عام 1842 لما استطاع تلخيصه بطريقة أفضل مما عرضه في بحثه..».

كاد داروين أن يتنازل لـ «والاس» عن شرف أسبقيته في الوصول إلى نظرية التطور قائلاً لصديقه لييل: «أفضل ألف مرة أن أحرق بحثي كله على أن يظن والاس أو غيره أنني قد تصرفت بحقارة». لكن لييل أصرّ على داروين أن ينشر أفكاره فوراً، لأن والاس سيتقبل هذا التصرف بروح عالية عندها يعرف أن داروين قد سبقه إلى ذلك الكشف العلمي بعشرين عاماً تقريباً. وفي النهاية وافق داروين على أن تقدّم نظرية التطور إلى مجمع لينّيوس على أنها عمل مشترك بينه وبين والاس، إلا أن شهامة والاس دفعته إلى اعتبار داروين سبّاقاً في الوصول إلى نظرية التطور، وبذلك أصبح داروين هو الأب الشرعي لهذه النظرية، وكان لا بدّ له من نشرها بسرعة حتى لا يقع في مأزق آخر، فصدر كتابه «أصل الأنواع» في 24 نوفمبر 1859 بالعنوان الذي اختاره الناشر واشتهر به، فنفدت الـ 250 نسخة المطبوعة منه فور صدورها.

وكان العنوان الأصلي للكتاب كما وضعه داروين: «ملخّص لبحث عن أصل الأنواع» باعتباره مقدمة لكتاب أشمل يصدر لاحقاً «يعلو على كل الكتب» كما قال داروين، إلا أن العلماء الذين تصفّحوا الكتاب وجدوه مليئاً بالوثائق والإثباتات لنظرية التطور بعد الولادة العصرية لهذه النظرية في القرن الثامن عشر، واعتبره بعض العلماء «أحد أكبر إنجازات العقل البشري في كل العصور».

ولادة فكرة التطور الداروينية

كان داروين قبل رحلته الشهيرة يؤمن بمبدأ ثبات الأنواع (Fixism) التي ثبتتها العقائد الدينية في أذهان الناس، أي أن كل نوع من المخلوقات الحية من حيوان وطير ونبات قد خلق على حدة، لكن مشاهداته واختباراته في تلك الرحلة أقنعته كما يقول بنظرة جديدة مغايرة تماماً: «إنني مقتنع تمام الاقتناع بأن النظرية القائلة إن كل نوع من الأنواع الحيوانية والنباتية قد خلق على حدة، مستقلاً عن الأنواع الأخرى هي نظرية خاطئة من أساسها. ولم أصل إلى هذا الاقتناع إلا بعد دراسة وافية وعميقة للمسألة من دون انفعال أو انحياز ضد تلك النظرية التي كانت سائدة حتى وقت قريب بين معظم علماء التاريخ الطبيعي، وكنت أنا نفسي أحد أنصارها. إنني على اقتناع تام بأن الأنواع ليست ثابتة، وبأن الأنواع التي تنتمي إلى فصيلة واحدة أو جنس واحد قد تحدّرت مباشرة من أنواع أقدم منها، غالباً ما تكون قد انقرضت. بالإضافة إلى ذلك فإنني شديد الاقتناع بأن الانتقاء الطبيعي كان أحد أهم العوامل في حدوث هذه التغيرات التي طرأت على الأنواع».

تلخص هذه الفقرة أهم الآراء والفروض والأسس لنظرية التطور التي تضمنها كتاب أصل الأنواع وأثبتها بالبراهين العلمية وهي: التغير، وتنازع البقاء، والانتقاء الطبيعي (في مقابل الانتقاء الاصطناعي الذي يجريه الإنسان).

وإذا كان مفهوم التطوير قد عرفه بعض علماء وفلاسفة الإغريق، كأرسطو الذي قال بوجود 500 نوع من الحيوانات، وتلميذه تيوفراست، أشهر عالم نبات عند اليونان الذي قال بوجود 500 نوع من النباتات والطيور والحشرات، أي أنها ولدت على أشكالها الحالية منذ بداية الخليقة، لكن تشارلز داروين استطاع أن يفرض مفهوم التطور البيولوجي كمبدأ علمي بتسليطه الضوء على أهم أسس وآليات هذا التطور، أي الانتقاء الطبيعي، وعلى استمرارية تطور الحياة عبر الأزمنة. وقد اكتشف البيولوجيون في العقود التالية لنشر كتاب أصل الأنواع مزيداً من الشواهد التي تؤكد حدوث هذا التطور بالفعل وبعد قرن وربع القرن، بعد داروين أصبح التطور حقيقة راسخة، حتى أن تيودوسيوس دوبزانسكي (1900 - 1975)، عالم الجينات الأمريكي، الروسي الأصل قال: «لا شيء في علم البيولوجيا يمكن أن يكون له معنى إلا في ضوء التطور»، وبذلك فتح كتابه «أصل الأنواع» عصراً جديداً للفكر الإنساني بكل أبعاده، إلا أن داروين لم ينكر تأثره ببعض العلماء الذين سبقوه أو عاصروه، وعلى رأسهم تشارلز لييل ونظريته عن القوى والعناصر التي كوّنت طبقات الأرض وتضاريسها ومناظرها الطبيعية والتي تفاعلت فيما بينها خلال فترات زمنية هائلة تعود إلى ملايين السنين، وبنظرية الكفاح من أجل البقاء، والبقاء للأصلح التي قال بها مالتوس، وكذلك نظريات جون راي الإنجليزي (القرن 17) عن أنواع النباتات وتصنيفها، وعن تصنيفات عالم النباتات السويدي كارل فون لينيه وعالم الميكروبات الطبيب الإنجليزي وليم هنتر، وبنظريات عالم الطبيعيات الفرنسي بوفون، ونظريات لامارك عن الوراثة وتأثير البيئة، ونظريات عالم الطبيعة الفرنسية جورج ليوبولد كوفييه عن الأعراق وشعب الحيوانات والنباتات، إلاأن بعض الدراسات تشير إلى أن داروين استمد نظرية «الانتقاء الطبيعي والتغير العضوي من أبحاث عالم إنجليزي شاب يدعى إدوارد بلايث كان قد نشرها في مجلة التاريخ الطبيعي واطّل عليها داروين في المراحل المبكرة عن عمله.

الداروينية ومركز الإنسان في الكون

لم تكن نظرية أصل الأنواع عند داروين وليدة تأملات فلسفية حاول تدعيمها بالمشاهدات والملاحظات، وإنما قادته إليها تلك المشاهدات والظواهر والملاحظات وما صادفه من أوجه الشبه بين الحيوانات والنباتات والطيور، التي رسّخت في ذهنه فكرة التغير التدريجي للأنواع بحيث أصبحت غذاؤه ومئونته خلال حياته العلمية. وكان داروين من الدقة والأمانة بحيث أن أي فرض يضعه يظل موضع درس واستقصاء، ولا يرقى إلى مرتبة اليقين والقانون العلمي، إلا إذا أيّده بعدد كبير من الظواهر والمشاهدات والتجارب الدقيقة التي تؤكد صحتها.

فهو مثلاً تجنب الإشارة مباشرة إلى أصل الإنسان في كتابه «أصل الأنواع»، لأن هذا الكتاب كما يقول «كان سيلحقه ضرر كبير، بل ما كان ليصادف أي نجاح لو أني استعرضت فيه آرائي التي اقتنعت بها بالنسبة لأصل الإنسان، من دون دعمها بالبراهين. وحين وجدت عدداً كبيراً من المشتغلين بالتاريخ الطبيعي قد أصبحوا يتقبّلون مبدأ تطور الأنواع وجدت من المناسب أن أستغل البيانات والملاحظات التي جمعتها من قبل وأن أعكف على ترتيبها وتفصيلها «حتى كان هذا الكتاب: «سلالة الإنسان» الذي نشره عام 1871 أي بعد 12 عاماً من صدور «أصل الأنواع» ونتيجة منطقية له، ذكر فيه أن البشر والقرود يتحدّرون من جد مشترك عاش في الأزمنة القديمة وانقرض بعد ذلك، لكنه اعتبر الإنسان أرقى أشكال الحياة على الأرض، استطاع أن يسود على بقية الحيوانات بفضل مبدأ «البقاء للأصلح» الذي لا يعني مجرّد القوة فقط، بل أيضاً الملاءمة والتكيّف بين أعضاء الكائن الداخلية وبين ظروف البيئة التي يعيش فيها، وبذلك ارتقى الإنسان من المرتبة الحيوانية إلى ما هو عليه الآن. وقد ركّز في كتابه على أمرين كما يقول: الأول «أن يبيّن أن الأنواع لم تخلق منفصلة بعضها عن بعض، والثاني أن الإنجاب الطبيعي كان العامل الرئيسي في التغيير». وقد صدر هذا الكتاب بعد أن تجذرت نظرية التطور في الأوساط العلمية التي مثلها يومئذ أفضل تمثيل ودافع عنها دفاعاً مجيداً صديقه الطبيب وعالم الأحياء توماس هنري هكسلي في كتابه «موقع الإنسان في الطبيعة» الصادر عام 1863 خصوصاً بعد الهجمات العنيفة التي تعرّضت لها من اللاهوتيين وبعض رجالات العلم في بريطانيا وأوربا، في طليعتهم أستاذه آدم سدجويك وأسقف أوكسفورد ويلبرفورس.

ومن المؤسف أن بعض الجامعات والمؤسسات العلمية في أمريكا ومناطق أخرى من العالم بما فيها معظم البلدان العربية مازالت تمتنع عن تقديم شروحات عن نظرية التطور الداروينية، وفي ذلك ارتداد عن مسيرة العلم والتقدم والتطور الحضاري. وإذا كان البعض قد استغل الفكر التطوري الدارويني لغايات سياسية وعنصرية، فإن التطور كعلم حقق إنجازات عظيمة منذ داروين حتى اليوم خصوصاً في مجال البيولوجيا، والهندسة الجينية، وقد شمل تأثيره معظم العلوم المعاصرة. وعندما توفي داروين في التاسع عشر من أبريل عام 1882 دفن في دي وستمسنتر إلى جانب نيوتن تكريماً له ولعبقريته العلمية.

 

 

محمد ضاهر





 





 





خلا المكان وبقيت الأفكار فما هو مستقبل نظرية دارون؟