السّلطة على مشارف القرن الواحد والعشرين محمد الرميحي

حديث الشهر

ألفن توفلر كاتب مستقبلي عرفه القراء في العالم والقارئ العربي بمجموعة من كتبه السابقة وأهمها كتابان: " صدمة المستقبل " و"الموجه الثالثة" ، في كتابه الثالث الذي نطمح بأن نقدم ملامح عامة منه للقارئ العربي وهو (انتقال أو تغير السلطة): [ المعلومات والثروة والعنف على أطراف القرن الواحد والعشرين ]، يطرح المؤلف من جديد قضية المستقبل، أو شكل العلاقات الدولية والإقليمية والوطنية على ضوء المتغيرات الجذرية الجارية في العالم اليوم.

الكاتب- والكتاب- مهتم أساسًا بالتغيرات الاقتصادية والسياسية وتأثيرها في المجتمعات الصناعية، إلا أن التغير في السلطة والقوة على المستوى الدولي وفي العلاقات الدولية التي يرى أنها لاشك حادثة تؤثر علينا كعرب أو كمجموعة تعيش في هذا العالم بجانب المجموعات والدول المتقدمة وهي لابد مؤثرة علينا كأفراد ودول، وكإقليم شرق أوسطي عربًا كنا أو مسلمين أو في أي دائرة نرغب أن نضع أنفسنا فيها.

الدراسات المستقبلية في لساننا العربي قليلة، بل أكاد أقول نادرة وهي لن تتوافر إلا بتوافر منطلقات أساسية بجانب الاهتمام العلمي والتخطيطي، توافر مصادر المعلومات ودقتها مثلاً متطلب سابق لمثل هذه الدراسات بدءًا من تعداد السكان وعناصر الإنتاج وانتهاء بمستويات التعليم والإنتاج التقني والفني، هذا إذا افزضنا أن الإيمان بأهمية مثل هذه الدراسات متوافر لدى متخذي القرار ومستشاريهم والمنفذين في دولنا المختلفة.

من هنا نجد أن كتابًا مثل الذي بين أيدينا الآن يتناول أساسًا- كما قلنا- المجتمعات الغربية الصناعية، مثل الولايات المتحدة وأوربا الغربية واليابان، والدول الصناعية الجديدة في جنوب شرق آسيا، ودول الكومنولث الروسي في مجموعته الصناعية المتقدمة، ولا يكاد يلتفت إلى العالم الثالث في أمريكا الجنوبية أو إفريقيا أو دول آسيا من غير ما ذكرنا، ربما لأسباب نقص المعلومات عن تجارب هذه الدول، وربما انطلاقًا من الافتراض الضمني أن ما يهم هو ما يحدث في الدول الصناعية والباقون هم تابعون في أحسن الأحوال.

مظاهر ضعف القوة

القوة أو السلطة في بعض المفاهيم تعتمد في رأي المؤلف على ثلاثة مصادر رئيسية وهي: العنف، والثروة، والمعلومات ويقول المؤلف إن السلطة أو القوة محايدة بمعنى أنها ليست حسنة وليست سيئة، وما هو سيى أو حسن هو طريقة استخدام السلطة، كما أنها وجه لا يمكن الاستغناء عنه في مظاهر العلاقات الإنسانية، وتؤثر على كل أشكال علاقتنا في الحياة، من علاقتنا الجنسية إلى نوع وطريقة استخدامنا للسيارة التي نقودها أو الأمل الذي نرغب في تحقيقه. ومع أهمية السلطة فإنها تبقى أقل الأمور دراسة ومعرفة لأجيال عديدة، ربما لأن السلطة بحد ذاتها كانت موجودة وقليلة التغير في أزمان طويلة، والآن- يقول المؤلف- فإن هناك عصرًا جديدًا يبزغ، أساسه التغير في السلطة، فعلى المستوى الدولي (السلطة) التي كانت تربط العالم وتحفظ التوازن فيه هي في سبيلها إلى التغير من تعددية وثنائية في السابق إلى أحادية في المستقبل. هذا التغير في هيكل السلطة يحدث في المستوى الاجتماعي في المنزل وفي المكتب وفي الأسرة وفي المدرسة وفي البنك.

والتغير في هيكل السلطة الذي ظنناه (دائماً) هو الذي يفجر لنا المشكلات الجديدة، وأبرزها الاحتقان الاجتماعي في كثير من المجتمعات والخلافات الأيديولوجية، أو التي تبدو أيديولوجية في ظاهرها، والقلق الطلابي والخلافات العرقية والإثنية والصراعات الدائرة في مجتمعات كثيرة أساسها التغير أو محاولة التغير في هيئة السلطة التقليدية. فالعمال لا يقبلون الأوامر كما كانوا يفعلون دون أسئلة ومطالب، والطلاب في المدارس يسألون أسئلة جديدة، بل إن ابنك وابنتك في البيت بدآ يسألان أسئلة لم تكن متوقعة قبل سنوات قليلة.

وفي الأعمال الصناعية والتجارية على المستوى المحلي أو الدولي تجد شقوقًا جديدة في مستويات السلطة تبشر بتغير فيها.

منذ الحرب العالمية الثانية انقسم العالم إلى ثنائية أو قسمين: (اشتراكي) له مناصروه ومن يدور في فلكه، و (رأسمالي) له مناصروه ومن يدور في فلكه، وفي هذا النظام الثنائي كانت هناك قوة (امتصاصية) تؤدي بهذا الإقليم أو الدولة إلى هذا أو ذاك من الاتجاهات، واليوم لم يعد ذلك قائماً فهناك (ثورة)- على حد تعبير المؤلف- في طبيعة السلطة.

المشكلة أن الضعف في السلطة ليس من مظاهره سقوط الإمبرإطورية السوفييتية وتفتيت (المعسكر) الاشتراكي كما عرفناه فقط، ولكن أيضًا في سلطة أو قوة المعسكر الآخر تبدو عليها علامات الوهن والضعف، فالقوة الصناعية الأمريكية بدأت تضعف، فقد كانت شركة "جنرال موتورز" مثلاً هي المثل للنجاح الاقتصادي والصناعي منذ ثلاثة عقود، وكان الساسة الأمريكان يقولون: ما يصلح لجنرال موتورز يصلح لأمريكا.. اليوم اختلف الأمر، يقول أحد المديرين في هذه الشركة: [ نحن نركض من أجل الإبقاء على حياتنا ] ويضيف المؤلف: وربما نشهد في السنوات القليلة القادمة تحطم شركة "جنرال موتورز" وتلاشيها.

ومنذ عشرين سنة كانت شركة I.B.M للكمبيوتر هي أكبر شركة كمبيوتر في العالم، وكانت لديها أجهزة كمبيوتر في الولايات المتحدة أكثر مما هو موجود في كل بقاع العالم، واليوم لم تعد الولايات المتحدة تحتكر هذه الصناعة فقد توزعت في العالم من فرنسا إلى اليابان إلى بريطانيا إلى دول أخرى عديدة، وبدأت الشركة تعاني من الضعف، يقول أحد المتخصصين في أجهزة الكمبيوتر: قدمت طلبًا للشركة فجاء الرد في المساء وعلى التلفزيون في النشرة الإخبارية وهو خبر تسريح 250 ألف عامل من شركة ال I.B. M ويرد في تهكم: كان ذلك رداً شخصيًا بالرفض على طلبي.

ومنذ عشرين سنة كانت هناك شبكات تلفازية ثلاث تكاد تحتكر البث التلفزيوني في الولايات المتحدة هي N.B.C و A.B. C و C.B. S ، وكانت مجتمعة تسيطر على الأثير، ولا يوجد لها منافس، واليوم تتقلص هذه الشبكات وبسرعة شديدة، بل إن استمرارها أصبح فيه شك.

ويستخلص المؤلف من هذه الأمثلة وغيرها أن الولايات المتحدة ليست بالقوة أو السلطة المتفردة، فهي تشكو من ضعف داخلي مؤسسي واقتصادي، وأن القوة أو السلطة العالمية في طريقها إلى الانتقال إلى مراكز أخرى.

ويستشهد المؤلف بأشكال تغير السلطة في اليابان أيضا، من شكل كان سائدًا منذ الحرب العالمية الثانية حتى منتصف الثمانينيات. وقد بدأت أشكال هذا التغير في المجالين السياسي بضعف في قوة الحزب الحاكم، والاقتصادي بتغير في دور المؤسسات الصناعية والتجارية الكبرى.

في أوربا يلاحظ المؤلف تغيراً، في السلطة من جانين: من جانب الدولة الوطنية ومن الجانب الإقليمي، فيشير إلى أن القوة الجديدة في أوربا هي ألمانيا الموحدة، وهذه القوة الجديدة تخيف الدول الوطنية في أوربا الغربية لذلك تلجأ هذه الدول إلى التحالف الإقليمي (السوق الأوربية المشتركة)، وتتنازل عن سلطتها الوطنية، في سبيل سلطة إقليمية أكبر. والخوف من تسلط ألمانيا على القارة الأوربية يجعل الدول الوطنية تلجأ إلى سلطة إقليمية أكبر وتفقد بالتالي سلطتها الوطنية، وأصبحت بروكسل (مقر السوق الأوربية المشتركة السياسى) هي المكان الذي تتخذ فيه القرارات، ولكن كلما أصبحت بروكسل أقوى ضعفت سلطة الدول الوطنية وتفتتت، والمؤلف يشير في ذلك كأمثلة على مطالبة الاسكوتلنديين في شمال المملكة المتحدة (بريطانيا) بالانفصال عنها في إطار السوق الأوربية المشتركة!.

وفي مقر التجمع الأوربي- بروكسل- أو في بون أو برلين تتضح الثنائية الأوربية الجديدة وهي بعيدة عن مراكز السلطة التقليدية التي عرفتها أوربا في السابق.

هذا الشكل من التحولات في السلطة والقوة يمكن أن يلاحظ في أكثر من مكان في العالم، وشواهده كثيرة وعديدة وهي دليل على تحول يحدث على المستوى الوطني والإقليمي والعالمي، وهو ليس محددًا بإقليم أو قارة ولكنه تحول وتغير على مستوى العالم، ويستخلص المؤلف من ذلك أننا في مرحلة تاريخية مميزة تتغير فيها (قوانين) السلطة والقوة كلها دفعة واحدة على مستوى العالم وبالتالي فإن التغير الذي نشهده هو تغير (ثوري)!

التغير في خلق الثروة: إمبراطورية الفكر

تُخلق الثروة في المنظور الاقتصادي التقليدي من الأرض والعمل ورأس المال، إلا أن هناك عنصرًا جديدًا يدخل في هذه المرحلة التاريخية في خلق الثروة، وهو المعلوماتية، فالمعلومات تساهم في خلق الثروة، والمعلومات ليست مثل العمل معتمدة على قوة " العضلات " بل إنها معتمدة على قوة التفكير.

العمل في المجتمعات المتقدمة لم يعد معتمدًا على "عمل أشياء" بل على (تبادل) معلومات، أناس ينتجون معلومات، ومعلومات يستفيد منها غيرهم. إحلال المعلومة أو المعرفة محل العمل اليدوي خلق مشكلات لجنرال موتورز وصعوبات لصناعات اليابان، بداية عصر المعلومات تمثل نهاية عصر الصناعة، وعصر المعلومات هو مفتاح النمو الاقتصادي في القرن الواحد والعشرين.

الإنسان الآلي (الروبوت) هو الذي يقوم الآن بالعمل، فالصناعة سهلة وصعبة، والطرق المعقدة في الصناعة تعتمد إلى حد كبير على الكمبيوتر والمعلومات وتنتج منتجات من الصعب مماثلتها في السوق العالمي.

الدور المتغير للمعلومات والمعرفة هو أنها تسبب خلق واستنباط ثروة جديدة، وهي بالتالي السبب في إحداث التغير في السلطة والقوة التقليدية في المجتمع.

ولقد ظهر أخيراً نشاط من الاقتصاد يدعى " اقتصاد المعلومات" وهذا العامل جعل بعض الاقتصاديات في موقع تنافسي أفضل في السوق الذي يصبح عالميًا يومًا بعد يوم.

"اقتصاد المعلومات" واجه النظام الاقتصادي الاشتراكي في شكله التقليدي وهزمه، ولقد كانت هزيمة النظام الاشتراكي والأنظمة الشمولية كلها هي هزيمة معلومات، فهذه الأنظمة تحاصر المعلومات وتضيق تداولها فتحرم مجتمعاتها من التطور، فيذبل ويموت من الاختناق افتقارًا للمعلومات التي تدخل ليس في المنظومة الاقتصادية بل والاجتماعية والسياسية والثقافية والتربوية.

"اقتصاد المعلومات " من جانب آخر أجبر دولاً متقدمة (رأسمالية) أيضًا على تمزيق استراتيجيتها التقليدية القديمة وتجاوز نظرياتها السابقة. ويستشهد المؤلف بقول قديم لونستون تشرشل بعد الحرب العالمية الثانية، فقد قال: [ إمبراطورية المستقبل هي إمبراطورية الفكر "المعلومات" ] وهذا القول صحيح من حيث المبدأ، والخلاف هو مبلغ درجة الصحة لا مبدأ الصحة بحد ذاته.

الصراع القادم أضخم وأجل

خلق الثروة بطرق جديدة وعن طريق ثورة المعلومات، لابد أن يغير موازين القوة، وهذا التغير لا يحدث دون تفجر صراع شخصي وسياسي ودولي. حاوِل تغيير خلق الثروة في مجتمع صغير أو مجتمع قرية مثلا وستجد نفسك في صدام مع كل المصالح التي تستمد قوتها من طرق أخرى لخلق الثروة، فكل طرف يحاول أن يتحكم في المستقبل وينتج من ذلك صراع مرير.

وإذا انتقلنا إلى المجال العالمي فإن الصراع الذي يدور حولنا يساعد في فهم وشرح مرحلة " تخلخل القوة " التي نعيشها، ولمعرفة ماذا سوف يواجهنا في المستقبل من الضرورى أن نلقي نظرة على مثل هذه الأوقات في التاريخ السابق.

منذ ثلاثمائة سنة خلت ولّدت الثورة الصناعية نظاماً جديدًا لخلق الثروة، مداخن المصانع التي عمت الأفق في أوربا، وأحلت المصانع بدلاً من المراعي والأرض المزروعة، وهذه المداخن الداكنة الشيطانية جلبت معها نظامًا جديدًا ومختلفًا للقوة والسلطة.

الفلاحون المحررون أخيراً من نظام شبه عبودي بدأوا يعودون إلى المدن للعمل في المصانع الجديدة.

ومع هذا التغير حدث تغير في السلطة، وفي العائلة، فبدلاً من العيش تحت سقف واحد كما تعودت عليه عائلات الفلاحين لأجيال عديدة، بدأت تتكون الأسر الأصغر، فالعائلة كمؤسسة ممتدة فقدت الكثير من سلطاتها منذ ذلك الوقت إلى مؤسسات أخرى كالمدرسة، وعندما تزاوج البخار مع مداخن المصانع أصبح لا مناص من التغير السياسي الضخم، وقد سقطت الملكيات في أوربا وظهرت أشكال سياسية جديدة من النخب الجديدة وعلى المستوى العالمي كان لابد من تغير في السلطة والقوة فبدأت حركة الاستعمار العالمي التي أنشأت سلطات وقوى لا يزال بعضها موجودًا.

وفي ظهور نظام جديد لخلق الثروة فإنه يقلل من قدرة كل عمود من أعمدة خلق الثروة القديمة على البقاء والمقاومة، ويؤثر في نسج العلاقات والتفاعلات الاجتماعية من الحياة العائلية إلى نظام العمل وشكل الدولة إلى النظام الدولي.

وما نشاهده اليوم في العالم من تغيرات، سواء في قطاع الأعمال أو الاقتصاد أو السياسة على المستوى الإقليمي أو العالمي ما هو إلا مناوشات صغيرة لمعارك أكبر وأضخم سوف تأتي، وذلك لأننا نقف على عتبة أكبر تغير في السلطة والقوة في التاريخ، لذلك فإن كل ما عرفناه من مؤسسات مرشح للتغيير.

المصادر الثلاثة للقوة

يحدد المؤلف ثلاثة مصادر أساسية للقوة والسلطة هي: العضلات (العنف) والمال أو الثروة، والتفكير أو المعلومات.

ويحدد السلطة أو القوة بالمعنى الشامل لها، فالقوة أو السلطة هي الرغبة في الحصول على شيء، وبما أن الرغبة الإنسانية متنوعة فإن أي شيء يحقق رغبة شخص آخر أو يستطيع أن يمنع تحقيق هذه الرغبة فهو قوة، فمُروج المخدرات له سلطة أو قوة على متعاطي المخدرات لأنه يستطيع أن يمنحه أو يمنعه، وإن كان السياسى يحتاج إلى أصوات لإيصاله لما يرغب فإن من يقوم بتقديم هذه الأصوات له قوة أو سلطة على السياسي، وهكذا.

ومن الاحتمالات الكثيرة لمصادر السلطة أو القوة فإن هناك ثلاثة مصادر تظهر واضحة هي: العنف، والثروة، والمعلومات، وكل واحدة منها تأخذ أشكالاً مختلفة عند التطبيق، فالعنف مثلاً ليس بالضرورة أن يكون حقيقياً، فالتهديد بالعنف في كثير من الأوقات يحقق النتائج المرجوة.

والمصادر الثلاثة يمكن أن تشكل نظامًا متكاملاً تحت ظروف معينة، فأي منها يمكن أن يتحول للآخر. فإن أشهرت مسدسا على شخص فهو (عنف) يمكن أن تحصل منه على مال (ثروة) أو معلومات، ويمكن أن تشتري بالمال مسدسًا أو معلومات، ويمكن أن تحصل على معلومات تزيد حصيلتك المالية، وهكذا، والمصادر الثلاثة يمكن أن تستخدم على مستويات عديدة من خلافات المنزل إلى سخونة الساحة السياسية، على المستوى الشخصي يمكن أن يعاقب الطفل بضربه على مؤخرته (عنف) أو بحرمانه من مصروفه، أو بوعده بمصروف أكبر إن أحسن التصرف (مال) والأفضل من كل ذلك هو تغير (قيم) الطفل وجعله عن طريق (المعلومات) يرغب في الطاعة.

وفي السياسة يمكن للحكومة أن تسجن منشقًا، أو تعاقب منتقديها بضغوط اقتصادية، وكذلك تساعد مؤيديها بالطريقة نفسها أو تقدم "حقائق" لخلق وفاق وتفهم لسياساتها عن طريق المعلومات.

كما هي الآلة التي تصنع الآلة، فإن العنف والمال والمعلومات يمكن أن تعطي الشخص أو المجتمع قدرة للحصول على مصادر أخرى للقوة والسلطة. صحيح أنه ليس كل تغير للقوة أو تبادل للسلطة نتيجة استخدام هذه الأدوات فقط، فقد يتم تبادل السلطة نتيجة أسباب أخرى قد يكون بعضها طبيعيًا.

والسلطة ليست كمية، فمن ينظر إلى السلطة والقوة على أنها كمية فهو مخطئ، ومن يفهم القوة والسلطة على أنها كيفية فهو الذي سيكون له السبق، ليس بحجم السلطة ولكن بالقدرة على تحريكها تتحقق النتائج الأفضل.

عنصرا العنف والثروة رغم أهميتهما كمصادر للقوة والسلطة إلا أن لهما حدودًا، فالعنف قد يكون له نتائج سلبية،- مثلاً القوة النووية- على المستوى العالمي- لها نتائج سلبية إن استخدمت، فالعنف مصدر غير مرن للسلطة، فالأكثر مرونة هو المال، وأيضًا له نتائج سلبية، وله حدود. المستوى الأعلى للقوة والسلطة هو العقل والتفكير والمعلومات، فبالتفكير والمعلومة لا تصل فقط إلى تحقيق أغراضك وتجعل الآخرين يقومون بعمل ما تريد طواعية، إنما تعني أيضًا القدرة على الإنجاز الصحيح والدقيق للأهداف المرجوة، كما تستخدم أقل مصادر القوة لتحقيق الهدف بالمعلومة والتفكير ويمكن أن تحول العدو إلى صديق، ويمكن أن تستخدمها للعقاب أو الثواب، وقبل ذلك فإن الإنسان- بالمعلومات الصحيحة- يمكن أن يتجاوز المواقف السلبية ويوفر استخدام العنصرين الآخرين للسلطة: العنف أو المال، والحد الأعلى من السلطة والقوة يكمن عند أولئك الذين تتوافر عندهم هذه الخيارات الثلاثة من عناصر القوة ويستخدمونها بمرونة وذكاء.

وحتى القوة الحربية التي يعتقد البعض حتى وقت متأخر أنها امتداد للقبضة غير الواعية تعتمد كليًا اليوم على العقل والمعلومات، فهذه العناصر متداخلة مع القوة العسكرية من الأقمار الصناعية والاستشعار من بعد حتى الصواريخ الذكية والقنابل الموجهة والطائرات التي تعمل بالكمبيوتر، والمعرفة والمعلومات في هذا القطاع حيوية إلى درجة أن فريق الخطط الاستراتيجي في البنتاجون (وزارة الدفاع الأمريكية) وضع هدفاً بعيد المدى لتصميم نظام (يستطيع أن يقوم بعمل بليون خيار منطقي في الثانية الواحدة). اليوم العمل العقلي للإنسان وليس الآلة هو وسيلة القوة العسكرية لتحقيق أهدافها.

المعلومات أساس الثروة وهي ليست محايدة

الثروة كذلك معتمدة على القوة العقلية والأدمغة الخلاقة، فأي نشاط اقتصادي متقدم اليوم لا يستطيع أن يعمل لثلاثين ثانية دون كمبيوتر. يعتقد المؤلف أن الإنسانية في بداية طريق الإنتاج المتقدم، فالكمبيوترات المستخدمة اليوم تشبه- في نظر علماء المستقبليات- الفأس الحجرية. المعلومات نفسها ليست مصدراً للقوة فقط، ولكنها أهم محتوى للقوة والثروة، فهي مفتاح تغير القوة في المستقبل، وهذا يفسر الصراع على المعلومات واحتكارها أيضًا.

والمعلومات أيضًا ليست (محايدة) فالواقع أن كل (الحقائق) التي تستخدم سواء في العلاقات الاجتماعية اليومية أو في الحياة السياسية أو الاقتصادية هي متولدة من (حقائق) أخرى أو افتراضات- بشكل عفوي أو متعمد- من قبل هيكل قوة قائم، تغير الحقائق والحقائق المختلف عليها هي نتائج من قعقعة أسلحة في صراع القوة والسلطة المحتدمة في المجتمع.

الحقائق النسبية والحقائق الكاذبة والحقائق الصحيحة كلها ذخائر في لعبة القوة، وكلها شكل من أشكال المعرفة، بجانب مرونتها فإن المعلومات لها خصائص أخرى تجعلها مختلفة عن مصادر القوة الأخرى في عالم الغد. قلنا إن هناك حدودًا لاستخدام العنف والثروة، كمصادر قوة، إلا أن المعلومات لا تنضب، بل تتجدد، نحن لا نستطيع الوصول إلى نهاية المعرفة، ولكننا نستطيع أن نخطو خطوة إلى الأمام في فهم أي ظاهرة. نحن نستخدم المعلومات نفسها لخدمة مصالح بعضنا أو ضد مصالح بعضنا الآخر، بعكس الرصاصة أو المال فهما يستخدمان لمرة واحدة، وبعكس العنف والمال اللذين هما للأقوياء والأغنياء فقط، فالمعلومات يمكن أن يحصل عليها الضعيف والفقير. والمعلومات أكثر مصادر القوة والسلطة (ديمقراطية) لذلك نجد أن احتكار المعلومات ومحدودية توزيعها جزء من الحيازة على السلطة والقوة.

إذن فإن اتساع مفهوم القوة والسلطة الجديد وركونه أكثر على المعلومات أدخل القادة والمجتمعات في تناقض وتغيرت مراكز القوة والسلطة، فبعد أن كان الصراع على الثروة المالية أصبح الصراع على المعلومات، وقد خاضت البشرية حروبًا طاحنة تحت مسميات عديدة منها اليسار واليمين والرأسمالية والاشتراكية ولكنها كانت تحت غطاء واحد هو الصراع على مصادر السلطة التقليدية، فأي صراع ينتظر البشرية حول المعلومات؟

تشكل المجتمعات الجديدة

المعلومات ثروة من الرموز، والصراع على المعلومات حتى في الإطار التجاري والصناعي صراع محتدم، ففي الولايات المتحدة هناك محام وأحد لكل تسع من المؤسسات، لقد تغيرت طبيعة الثروة في عصر المعلومات، فلا أحد يشتري أسهم الشركات اليوم ناظرًا إلى أصولها من مبان أو ماكينات، بل يشتري المساهم الأسهم بسبب ما تملكه الشركة من اتصال وتسويق وتنظيم، فحتى وظيفة النقود التقليدية بدأت تندثر في مجتمع المعلومات، فعندما حرمت المستعمرات الأمريكية من سك عملتها الفضية والذهبية في بداية القرن الثامن عشر لجأت إلى استصدار عملة ورقية، وكانت ثورة في وقتها، واليوم العملة الورقية تبدلت ببطاقة بلاستيك صغيرة تستخدم في كل مكان من محطات القطار إلى شراء تذاكر المسرح أو شراء سلعة فيما وراء البحار.

بل يستطيع الأب صرف بطاقة لابنه بدلاً من المصروف اليومي لاستخدامها في (كانتين) المدرسة ويمكن أن يحدد أتوماتيكيا في تلك البطاقة أنها لا تشتري مثلاً الشوكولاتة أو السجاير، بل وتحدد الأفلام التي يدخلها الابن، وأصبحت شركات توزيع الأغذية أو الملابس أكثر معرفة بالسوق، ففي الوقت الذي تشتري فيه نوعًا معينًا من المعلبات من السوق المركزي تسجل الآلة عن طريق الكمبيوتر عملية الشراء ومن خلال بطاقتك البلاستيكية يعرف البائع كم بقي من السلعة، وفي ثوان يعرف الممول كم يحضر غدًا إلى هذا السوق من تلك السلعة.

التصدير العالمي اليوم في الخدمات والممتلكات الثقافية يساوي كمية التصدير في الكهربائيات والسيارات مجتمعة، والخدمات والممتلكات الثقافية تعتمد أساسًا على المعلومات.

كيمياء المعلومات

كثير من التغيرات في أنظمة المعلومات تترجم مباشرة إلى فرص عمل وربح، ونظام المعلومات أساسي في كل عمل، فقد أصبحت المعلومات أساسية للتجارة والصناعة والسياسة في العالم، فأنت تستطيع اليوم أن (تشتري) معلومات عن عدد السفن المتحركة في بحار العالم: من أين انطلقت وإلى أين وجهتها بمجرد مكالمة تلفونية، والمعلومات الجديدة تقود إلى إنتاج جديد واكتشاف مواد جديدة. بالمعلومات نستطيع أن نقتصد في استخدام المواد، وفي زمن النقل، وفي كمية الطاقة، وأصبح الاحتياج إلى رأس المال في أي مشروع جديد أقل مما كان في السابق، إن توافرت المعلومات.

بجانب ذلك هناك حرب معلومات نستطيع أن نلاحظها على شاشات التلفاز وصفحات الصحف والمجلات، وهي حرب تكشف الكثير من الحقائق عن عصرنا الذي نعيشه.

المجتمعات الحديثة تواجه صعوبات التحول وتخطط وتفكر في المؤسسات المراد إيجادها لاحتضان ذلك التحول والسير به في الطريق السليم.

ونفتقد نحن في العالم الثالث- والعرب من بينهم- مناهج في التفكير المستقبلي المنظم، ونعيش على مقولة "اصرف ما في الجيب يأتك ما في الغيب "!!