إنها المدينة التي
طال غيابها بين مدننا العربية، تولد، وتنمو، وتثير الدهشة لدى المتجول بين أرجائها،
وتعيد طرق الأسئلة.
"يا هلا.. يا خوي"
كانت هذه هي عبارة الترحيب التي قوبلنا بها مع أولى خطواتنا على أرض مطار الرياض.
وكانت عبارة عميقة التأثير بمبناها ومعناها وبالعاطفة العربية التي تلونها، لوناً
خاصاً جديداً علي، فإنني لم أزر المملكة العربية السعودية من قبل، ولم ألتق
بالسعوديين عن قرب. ولأن استطلاعنا- في جوهره- كان بحثاً في سؤال مهم: هل نحن العرب
أهل علم وتكنولوجيا؟ أي..هل نحن قابلون لإتقان لغة العصر وشرط مدنيته؟. والسؤال لا
يعني- في يقيني- قضية الحضارة، فالحضارة بمعنى الرصيد الروحي والثقافي المؤثر في
الشخصية الإنسانية- هذه الحضارة نحن نملكها بالتأكيد، وبطول مسيرتنا في رحاب الدين
وساحة الدنيا، وإن بدت- هذه الحضارة- مطمورة تحت ركام مشاكلنا مع أنفسنا، ومع
العصر. وكان اختيار المملكة العربية السعودية، بكل ما يحيط بها من تصورات عن بيئة
عربية محافظة، يمثل محاولة جادة للإجابة عن السؤال بجدية مناسبة.
"يا هلا.. يا خوي "
لكم ارتحت كثيراً من عبء الانطباعات الشائعة عندما قوبلت بهذه العبارة، ولاحظت مودة
الشبان السعوديين النحاف في اعتدال، الذين التقينا بهم مع أولى خطواتنا على أرض
المملكة.. محمد الواصل مندوب وزارة الإعلام السعودية، وضباط الجوازات في مطار
الرياض الذي يعتبر تحفة لعمارة العصر بمذاق خيمة عربية، بل ثلاث خيمات هائلة تتواصل
بأنفاق وجسور تعبر بعضها الطائرات التي رأينا إحداها تعبر الجسر فوق رءوسنا ونحن في
الطريق من المطار إلى قلب المدينة.
الرياض عاصمة راسخة
البناء، مدهشة كواحة عصرية، نخيل وخضرة تحف بطرقات واسعة سريعة، وجسور متعددة
الطوابق، وعمائر تضارع في أبهتها تلك الموجودة في أكبر مدن العالم. ومع ذلك كنا
نبحث في إرجائها عن المدينة الغائبة بين مدننا العربية. وقادنا مرافقنا- مندوب
وزارة ا لإعلام السعودية- إلى أحد أطراف العاصمة، ثم انعطفنا مع اتجاه سهم يشير إلى
"مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية". وبعد المرور على ضباط أمن البوابة، الذين
كان لديهم علم بوصولنا، تحركت أمامنا سيارة خاصة من سيارات المدينة ترشدنا عبر
طرقات طويلة، وميادين دقيقة، ومفارق متعددة، بل كان هناك نفق يربط بين جزأين من
أجزاء هذه المدينة.
بداية.. من
المركز
في مبنى الإدارة
كنا على موعد مع رئيس المدينة الدكتور صالح عبدالرحمن العذل. وخيل إلي ونحن نتجه
إلى مكتبه أن عمارة المكان كانت تستوحى الطراز العربي أيضاً، حيث الباحة السماوية
في الوسط، لكنها باحة مغطاة بزجاج يقطر أشعة الشمس فتغدو ضوءاً خفيفاً مريحاً، يقود
الخطى دون أن يزعج البصر. درنا في أناقة الطرقات المحيطة بالباحة حتى وصلنا إلى
مكتب رئيس المدينة، وبدأنا حديثة نقتطف منه أن نقطة انطلاق المدينة كانت فكرة في
ذهن خادم الحرمين الملك فهد، لتكوين مجمع علمي أو مدينة علمية متكاملة توفر
للباحثين كل ما يحتاجون إليه ابتداء من المسكن حتى الخدمات، كاملة، بحيث لا تشغلهم
عن بحثهم العلمي أية مشاغل. وكانت الغاية هي بناء قاعدة علمية تقنية متطورة داخل
المملكة من أجل تطوير وتطويع التقنية الحديثة لخدمة أغراض التنمية. وفي 18/ 12/
1397 هـ صدر المرسوم الملكي رقم م/ 60 بإنشاء المدينة كهيئة علمية ذات شخصية
اعتبارية مستقلة ملحقة إدارياً برئيس مجلس الوزراء. وتتلخص أهداف المدينة في دعم
وتشجيع وتنفيذ البحث العلمي للأغراض التطبيقية، وتنسيق نشاطات مؤسسات ومراكز البحوث
العلمية، وتحديد الأولويات والسياسات الوطنية في مجال العلوم والتقنية.
وفي إجابة عن سؤال
حول تحديد الفارق بين عمل الجامعات والمدينة كمؤسسة للبحث العلمي، قال الدكتور صالح
عبدالرحمن العذل إن الجامعات لها أهداف مختلفة عن مؤسسات البحث العلمي، بمعنى أن
الجامعة يجب أن يكون جزء من مهمتها الأساسية تقدم المعرفة، ولو تخلت الجامعة عن هذا
الجانب لتوقفت المعرفة عن النمو، فالجامعة ينبغي أن تخدم المجتمع من ناحية وتساهم
في تقدم المعرفة الإنسانية من ناحية أخرى. أما المدينة (كمؤسسة للبحث العلمي)
فالمهم فيها هو استخدام المعرفة الموجودة لتنمية المجتمع بمعنى الحصول على منتج أو
طرق إنتاج تخدم هذا المجتمع.
وفي إضافة لإيضاح
هذا الفارق قال الدكتور محمد إبراهيم السويل نائب رئيس المدينة لمعاهد البحوث، إن
هناك دائما فراغا بين البحث العلمي وتطبيقاته، وهمنا في المدينة أن ننقل الأفكار
الناتجة عن البحوث إلى نماذج أولية من تطبيقات ومنتجات يمكن للصناعة (والزراعة
أيضاً) أن تتبناها.
أما الدكتور
عبدالله الأحمد الرشيد نائب رئيس المدينة لدعم البحث العلمي فيعطي تجسيداً لهذا
الفارق، فيقول إن المستهدف هو إيجاد قاعدة بحثية جيدة تضع أولويات للمشاريع ذات
الجدوى المباشرة ولتحديد هذه الأولويات يتم الاتصال المباشر مع أجهزة الدولة
المختلفة، إن كان في القطاع الزراعي كان وزارة الزراعة تعرف ما في السوق من
احتياجات ومن ثم يتم دعم البحوث المرتبطة بهذه الاحتياجات.
حجم
الطموحات
وقبل أن نترك مبنى
الإدارة حانت منا التفاتة إلى الهيكل التنفيذي لمدينة الملك عبدالعزيز للعلوم
والتقنية، فهالنا الترابط المحكم للتفرعات العديدة لهذا الهيكل وتبدى حجم الطموح
الذي تسعى إليه هذه المدينة التي من مهامها:
( 1 ) اقتراح
السياسة الوطنية لتطوير العلوم والتقنية ووضع الاستراتيجية والخطة اللازمة
لتنفيذها.
( 2 ) تنفيذ برامج
بحوث علمية تطبيقية لخدمة التنمية في المملكة.
( 3 ) مساعدة
القطاع الخاص في تطوير بحوث المنتجات الزراعية والصناعية التي تتم عن
طريقها.
( 4 ) دعم برامج
البحوث المشتركة بين المملكة والمؤسسات العلمية الدولية لمواكبة التطور العلمي
العالمي سواء عن طريق المنح أو القيام بتنفيذ بحوث مشتركة.
( 5 ) تقديم منح
دراسية وتدريبية لتنمية الكفاءات الضرورية للقيام بإعداد وتنفيذ برامج البحوث
العلمية، وتقديم منح للأفراد والمؤسسات العلمية للقيام بإجراء بحوث علمية
تطبيقية.
( 6 ) التنسيق مع
الأجهزة الحكومية والمؤسسات العلمية ومراكز البحوث وتبادل المعلومات والخبرات ومنع
الازدواجية في مجهوداتها.
كل هذه المهام
يحملها عاتق خريطة تنفيذية نلمح في قمتها "الهيئة الإدارية العليا للمدينة" وتضم:
رئيس مجلس الوزراء ونائب رئيس مجلس الوزراء ثم وزراء الدفاع والطيران والتعليم
العالي والزراعة والمياه والصناعة والكهرباء والبترول والثروة المعدنية والتخطيط
والمالية والاقتصاد الوطني والاستخبارات ثم رئيس المدينة وثلاثة أعضاء يتم اختيارهم
من قبل رئيس مجلس الوزراء بينهم وزير الدولة ورئيس الديوان العام للخدمة المدنية
ومدير جامعة الملك عبدالعزيز ورئيس مجلس إدارة الشركة السعودية للحديد
والصلب.
ويلي الهيئة العليا
للمدينة، ورئيس المدينة، المجلس العلمي ولجان التنسيق وإدارات التخطيط والمتابعة
والتطوير الإداري والتعاون الدولي والمراقبة المالية، وهذه كلها تهيمن على أربعة
فروع هي دعم البحث العلمي، ومعاهد البحوث، والإدارة العامة للمشاريع، والإدارة
العامة للشئون الإدارية. وحتى لا نغرق في التجريد فإن ما يعنينا هو أن هناك سبعة
معاهد بحثية يشرف عليها نائب الرئيس لمعاهد البحوث وتضم: الموارد الطبيعية
والبيئية، والطاقة الذرية، والفلك والجيوفيزياء، والحاسبات والإلكترونيات، والفضاء،
والبترول والبتروكيماويات والأجهزة العلمية، أما فرع دعم البحث العلمي فيشمل إدارة
التقنية، والتوعية العلمية والنشر، وبرامج المنح، والمعلومات، وبراءات
الاختراع.
قلعة
المختبرات
وتتوه
عيوننا بين فروع شجرة هذه المدينة الوارفة، لهذا نتوقف عند أهم ما نتصور أنه جوهري
لإنجاز أي طموح بحثي في مجال العلوم وتطبيقاتها، فأولا: المعلومة، وثانيا: مكان
تحويل المعلومة إلى منتج، وثالثا: حماية حق ابتكار أو اختراع هذا
المنتج.
وسعياً لتعقب هذه
الثلاثية المهمة في مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية، فقد ودعنا مبنى الإدارة
وتحركنا مبتعدين عنه لنوغل في المدينة، وهو إيغال لا تقوى عليه الأقدام، لهذا حملنا
المهندس مساعد العساف المشرف على الإدارة العامة للمشاريع داخل سيارة لاندروفر
وانطلق بنا لتكون أولى المحطات صرحاً يسمى "مبنى المختبرات"، ولعل هذه تكون تسمية
متواضعة.
كان مبنى المختبرات
بناء هائلا مثل قلعة باذخة تربط بين طوابقها الجسور والمصاعد وتربض عند سقوفها
الأجهزة والأوناش الإلكترونية، وكان لافتاً في هذه القلعة العلمية مدى البصيرة في
تخطيط بنائها وتكوين معاملها. فالتصميم ينطوي على إمكانية تعديل أي مختبر بشكل جذري
تماماً، بطبيعة عمله والخدمات المطلوبة له، دون أن يشعر بذلك الباحث في المختبر
المجاور، فعملية التغيير الجذرية هذه لا تتطلب أية عمليات هدم للجدران أو ثقب هنا
أو هناك. والسبب في إمكانية التغيير الجذري الهادئ هذه أنه يوجد فوق كل طابق من
طوابق المختبرات طابق آخر مساعد مخصص للخدمات الكهربائية والميكانيكية وغيرها وهنا
يتم التغيير دون تكسير أو ضوضاء مما يسمح للباحث في المختبر تحت هذا الطابق
بالاستمرار في عمله دون إزعاج أو توقف. والمبنى مكون من خمسة أجزاء رئيسية وكل جزء
مكون من ثلاثة أدوار رئيسية تعلوها الأدوار المساعدة. والمساحة الإجمالية للمكاتب
والمختبرات حوالي 28 ألف متر مربع، هذا باستثناء المدخل الرئيسي والمسجد والمطعم
والخدمات المساعدة. فالمساحة المخصصة للخدمات الكهربائية والميكانيكية تبلغ 17 ألف
متر مربع، إضافة إلى مبنى مخصص للتجارب الخاصة التي تتطلب مساحة وتجهيزات معينة
وتبلغ مساحته 1000 متر مربع مع 4000 متر مربع للخدمات المساعدة. وهذا المبنى يرتفع
سقفه نحو ستة طوابق ومهيأ بأوناش جبارة من نوع خاص وجسور متحركة. إن كل الخدمات تصل
إلى المباني الرئيسية عبر أنفاق تسمح بمرور أجهزة وعمال الصيانة لكنها لا تبدو
ظاهرة في التركيب العام. لقد تحركنا في الأنفاق فبدا لنا وكأننا نتحرك في مشهد من
مشاهد أفلام الخيال العلمي، ثم خرجنا إلى أحد الطوابق، ودخلنا مختبراً فأحسسنا
بالدقة واليسر اللذين يحيطان بالباحث، فمن السقف كان يتدلى تكوين يضم عدة صنابير
بألوان مختلفة ومحابس وعدادات، وهذا التكوين يوفر للباحث كل المتطلبات الأساسية:
ثمانية أنواع من الغازات، هواء مضغوط، شفط بالهواء، ماء مقطر. أي أن الباحث ليس
عليه إلا أن يمد يده ويجذب صنبوراً فيتحرك معه بالمادة المطلوبة إلى البقعة
المطلوبة.
الدقة واليسر
نفسهما وجدناهما في مكاتب الباحثين المواجهة للمختبرات، حيث يمكن للباحث أن يستريح
أو يقرأ أو يكتب أو يجري اتصالاته، فكل مكتب مزود بكمبيوتر شخصي متصل بشبكة
الكمبيوتر في المعهد وبالتالي مفتوح على قواعد المعلومات في أنحاء عديدة من العالم.
هذا إضافة إلى التليفون والفاكس.
وبينما كنا نغادر
مبنى المختبرات الذي تتحكم في إضاءته ودرجات الحرارة والرطوبة وأجهزة الإنذار به،
غرفة تحكم مركزية تعمل وفق برنامج دقيق للكمبيوتر. وجدنا خارج المبنى وعلى جانب منه
ساحة مسيجة، عرفنا من المهندس مساعد العساف أنها مخصصة لفرز النفايات المتخلفة عن
عمليات البحث، حيث يقرر العلماء أيها يمكن معالجته، وأيها يجب التخلص منه، وبأي
طريقة يكون التخلص. بحيث يراعي ذلك كله شروط الحفاظ على البيئة التي لا يمكن
التهاون فيها. غادرنا قلعة المختبرات إذن، ومضت بنا السيارة "اللاندروفر" تجوس في
أرجاء مدينة العلوم والتقنية الشاسعة لنتوقف عند محطة أخرى من المحطات الأساس في
مسيرة البحث العلمي..أي بحث علمي..
20 بليون حرف في
اسطوانة
الإدارة العامة
للمعلومات. مبنى ليس كبيراً، لكنه كالمخ في تواضع حجمه وخطورة دوره المسئول عن
الجسم كله. فهذا المبنى الأنيق الذي تحف بمدخله النباتات ويرين عليه الصمت ويشرف
عليه شاب هادئ ومتحضر هو الدكتور عبدالله عثمان الموسى. هذا المبنى هو عقل المدينة
إذا أدركنا أنه لا بحث علميا حقيقيا بدون تعامل صحيح مع المعلومات. وعلى حد تعبير
الدكتور عبدالله عثمان "نحن الآن في عصر المعلومات، بل في بداية عصر المعلومات التي
تمثل ثورة كبيرة قد تتفوق على الثورة الصناعية التي بدأت في القرن التاسع
عشر".
"لن تستطيع أن تفعل
شيئا بدون المعلومات الصحيحة بالكمية المناسبة وفي الوقت المناسب ". هذا هو جوهر
العلاقة بين البحث العلمي والمعلومات.
وتنقسم الإدارة
العامة للمعلومات إلى أربع إدارات فرعية: أولا: إدارة قواعد المعلومات، ومهمتها
إيجاد نظم لتجميع وتصنيف ومعالجة وتخزين ونشر المعلومات العلمية والتقنية ذات
العلاقة بدعم نشاطات البحث العلمي، وتنضوي تحت لوائها قاعدتا معلومات ببلوغرافيتان
إحداهما انجليزية تضم 47500 وثيقة، والثانية عربية تضم 23272 وثيقة، إضافة للبنك
الآلي السعودي للمصطلحات العلمية والتقنية "باسم" الذي يحتوي على 25 موضوعاً علميا
بعدد من المصطلحات يقارب 270000 مصطلح كما توجد قواعد معلومات أخرى للقوى العاملة،
ومشاريع الأبحاث، والمكتبات، وغيرها.. أي أنها باختصار أرشيف هائل، منظم، ويسهل
التعامل معه، وهو مع ذلك يكاد لا يشغل حجرة واحدة.
ثانيا: إدارة خدمة
المعلومات: وهي الجهة التي يلجأ إليها مباشرة الباحث للحصول على مبتغاه من
المعلومات الأحدث والأبعد منالاً والتي تتناثر في عدة ملايين من السجلات في كل
العلوم. وهذه الإدارة تضم ثلاثة أقسام متناسقة لتلبية رغبات الباحثين من المعلومات
اللازمة لإجراء أبحاثهم. فهناك قسم الاتصال المباشر "البحث الآلي " الذي يلبي رغبات
الباحثين سواء توافرت في المملكة أو في أي مكان من العالم، وبمجرد تقديم طلب
بالهاتف أو الفاكس أو الاتصال المباشر. وهذه الخدمات تقدم للباحثين في المملكة
العربية السعودية مجاناً. ويلحق بما سلف قسم إيصال الوثائق الذي زود المستفيدين
بأكثر من 120 ألف وثيقة علمية لازمة لكتابة بحوثهم. أما شبكة أقراص الليزر فهي
تقنية ذات فعالية عالية لتوفير عدد كبير من قواعد المعلومات، وفي الإدارة شبكة
لأقراص الليزر تضم 42 مشغل قرص ليزر، مخزنا بها العديد من قواعد المعلومات ويقدر ما
يمكن للقرص الواحد أن يحمله بحوالي مائة ألف صفحة أو 25 بليون حرف أي أن الركن
الصغير الذي رأينا هذه الشبكة تقف فيه يحتوي على مكتبة قومية كاملة. وأخيراً تأتي
المكتبة التي تحتوي على أكثر من عشرة آلاف كتاب متخصص وأكثر من ثلاثة ملايين شريحة
معلومات صغيرة "ميكروفيش" والأعداد الكاملة من 322 دورية علمية.
ثالثا: إدارة
الحاسب الآلي، وتعد هذه هي الأساس لكل أنشطة المعلومات التي مع ثورتها العارمة بات
التعامل التقليدي معها مستحيلاً، ومن ثم لاغنى عن الأجهزة المتطورة التي تمتلك منها
هذه الإدارة ما يكفي، مثل جهاز 4361IBM) عالي الكفاءة والسرعة.
رابعاً: إدارة
شبكات الاتصال، ودورها تشغيل وصيانة شبكة الاتصالات الوطنية التي تربط أجهزة مختلفة
بالحاسب الآلي المركزي للمدينة، وشبكة الخليج للاتصالات الأكاديمية وهي شبكة تخزين
وإرسال متكاملة في دول الخليج ومرتبطة بشبكات اتصال أكاديمية عالمية مثل
EARN الأوربية وBITNET الأمريكية.
الإدارة العامة
للمعلومات مخ كبير في مدينة العلوم والتقنية، وأساس يسبق حتى مبنى المختبرات
الهائل، فماذا عن ثالث الأسس التي تتكامل لدفع البحث العلمي قدما؟
ولعل كثيرين لا
يدركون مدى الخطورة التي يمثلها موضوع براءات الاختراع. وحتى نقرب الصورة للأذهان
نذكر أمثلة عامة... فعندما أرادت دولة أوربية وأخرى آسيوية تصفية بعض الحسابات
الحدودية المترتبة عن الحرب العالمية الثانية كان جزء مهم من التسوية أن تمنح واحدة
من الدولتين الدولة الأخرى حق استغلال براءات الاختراع القديمة والمهملة لديها.
وعندما تم عقد صلح خارق بين دولتين بينهما عداء تاريخي كان أحد شروط اختبار الصلح
أن تفتح إحدى الدولتين أبواب أرشيف براءات الاختراع لديها للدولة الأخرى. أما المثل
الأخطر فهو فيما يثار بين بعض العلماء حول موضوع ثقب الأوزون، فهناك من يرى فيه
مبالغة دعائية فائقة الإتقان لجر دول العالم الفقيرة إلى الإقبال المكلف على مواد
جديدة تطرح تحت مسمى عدم الخطورة على البيئة لإبطال استفادتهم المجانية من المواد
القديمة التي أصبحت مشاعاً لانتهاء زمن براءات اختراعها وحقوق
استغلالها.
وسواء كانت الأمثلة
السابقة حقائق أو هواجس، فإنها في الحالتين تظل مؤشرا يدل على مدى خطورة موضوع
براءات الاختراع. وهي خطورة مردها ليس فقط إلى العوائد الاقتصادية للاختراعات، بل
أيضا مسوغات احتكار إنتاجها بكل المردودات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي
تتبع عملية الاحتكار.
لهذا فإن وجود
إدارة لبراءات الاختراع ضمن هيكل مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية يعتبر
إنجازاً عربيا يدعو إلى الفرح، والتفاتة سعودية تستحق كل الانتباه. خاصة أنها حتى
تقوم بدورها في فحص وتسجيل ومنح براءات الاختراع حشدت لديها قاعدة معلومات ضخمة
تتضمن وثائق براءات الاختراع الأمريكية منذ عام 975 1 والبريطانية منذ عام 1979
وعددها يتجاوز مليونا وثلاثمائة ألف وثيقة. إضافة لإمكانات الاتصال عبر شبكات
المعلومات العالمية.
وفي إيجاز فإن
آليات الحصول على براءة اختراع في المملكة العربية السعودية تتضمن عمليات: ملء
الطلب وفيه ملخص عن الاختراع بالعربية والإنجليزية يحيط بالوصف الكامل للاختراع مع
الرسوم التوضيحية، ويحدد عناصر الحماية المطلوبة في اختراعه، ومن ثم تقوم الإدارة
بالفحص الموضوعي بعد استبعاد الانتحال عبر المقارنة مع براءات الاختراع الممنوحة في
الخارج. وأخيرا تمنح براءة الاختراع التي تسري لمدة 15 سنة، ويلزم مالك البراءة
باستغلالها صناعياً في المملكة خلال سنتين من منحها في المملكة. كما أن الإدارة
تقوم بالواجب الإعلامي تجاه الاختراعات الجديرة بالاهتمام والتطبيق.
قرية
الشمس...والهيدروجين أيضا
آن أوان الذهاب إلى
الريف، والريف هنا قرية عجيبة وصلنا إليها بعد نصف ساعة من مغادرتنا لمدينة الرياض.
مكثنا نطوي الطريق السريع طياً، تحدق بنا الصحراء من كل جانب، حتى بلغنا منطقة تلال
حجرية وصعدنا طريقاً بين جبلين صغيرين فصافحت أبصارنا خضرة مفاجئة، وفي المرتفع
المطل على ثلاث قرى في السفح كانت القرية الشمسية. حقول فسيحة تتجه فيها مصفوفات
الخلايا السليوكونية الكهروضوئية إلى الشمس، وطبقان عملاقان يبحثان عن أشعتها،
وأبنية أنيقة تحوطها الخضرة، ومسجد صغير في الركن.
دخلنا إلى المبنى
الرئيسي، وهناك كان لقاؤنا بمجموعة من شباب الباحثين العلميين اكتشفنا عبر الحوار
معهم أنهم لا يكتفون بأداء أعمالهم في هذه القرية فقط، بل يعشقون ما يقومون به
أيضا. المهندس ياسين غنيمة الصاعدي مدير مشروع القرية الشمسية، والمهندس عبدالله
إبراهيم البعيز مساعد مدير القرية الشمسية، والمهندس مساعد القرني الباحث
العلمي.
وكانت جولتنا في
أرجاء تلك القرية "المستقبلية" بكل ما تعنيه الكلمة من تأهل لملاقاة القرن القادم.
قرن الطاقات البديلة والجديدة والمتجددة. فهذه القرية نموذج لها.
رأينا في القرية
ثمانية حقول شمسية، بكل حقل 20 مصفوفة تتابع الشمس مركزى عن طريق الكمبيوتر، وفي
المصفوفة (موديلات) بكل منها ثماني خلايا كهروضوئية تشبه بلاطات عميقة من الزجاج،
وهي خلايا سليكونية عالية النقاوة تركز أشعة الشمس (لا حرارتها) على داخلها المنقسم
إلى طبقتين إحداهما سالبة والأخرى موجبة فتتولد الكهرباء في تيار مستمر يتم نقله-
تحت الأرض- إلى غرفة الكهرباء داخل المبنى. وهناك يجري تحويل هذه الكهرباء إلى تيار متردد يوزع على
شبكة الكهرباء التي تغذي القرية نفسها إضافة إلى ثلاث قرى مجاورة، بالتوازي مع شبكة
الشركة الموحدة للكهرباء. وعندما تفيض الحاجة يتم تخزين الفائض (في صورة تيار
مستمر) داخل بطاريات (تشبه بطاريات السيارة هـان كانت أضخم) لحين الحاجة فيتم تفريغ
هذا التيار وتحويله إلى تيار متردد للاستخدام العادي.
تقدر الكهرباء
الناتجة عن هذه الحقول الشمسية بحوالي 350 كيلووات عندما يكون الإسقاط الشمسي 1000
وات لكل متر مربع. وعندما تغيب الشمس توضع المصفوفات في وضع النوم حتى لا تتعرض
الخلايا السليكونية إلى الغبار والكدر! ولا تتوقف عملية استغلال طاقة الشمس عند هذا
الحد داخل القرية الشمسية، فالتيار المستمر يستخدم في التحليل الكهربي لمياه عالية
النقاوة إلى عنصريها: الأوكسجين والهيدروجين حيث يبرد وينقى ويخزن في اسطوانات
محكمة جاهزة للنقل. ويتم استغلال بعض الهيدروجين المنتج في مشروع الطبق الحراري وهو
مرآة مقعرة هائلة نصف قطرها 13,65 متر، يتم توجيهها بحيث تكون على خط واحد مع الشمس
فتركز حرارتها 600 مرة للحصول على بؤرة حرارتها حوالي 700 درجة مئوية تسلط على
ماكينة "استيرلنج" بها هيدروجين يتمدد فيحرك توربينات تولد بدورها الكهرباء في حالة
تيار متردد قابل للاستخدام العادي على الفور. وتعتبر القرية الشمسية السعودية أكبر
محطة في العالم لإنتاج الهيدروجين من الطاقة الشمسية بقوة 150 كيلووات.
ولا تتوقف حلقة
استغلال طاقة الشمس عن الدوران فهناك مشروع تطوير خلايا الوقود التي عبرها، وبتفاعل
كيمائي محفز، يندمج الهيدروجين (المولد بالطاقة الشمسية أو غيرها) مع الأكسوجين
فينتج الماء في صورة نقية جداً إضافة لإنتاج كهرباء وحرارة. أي أنها خلية تجعلنا
نتدفأ أو نطهو طعامنا ونحرك مركباتنا ونشرب أيضا... من الهيدروجين! وبدون احتراق
انفجاري. وبدون تلوث للبيئة.
ومن الجدير
بالذكر أن هناك نوعين من الخلايا الشمسية أحدهما كهروضوئية تحول أشعة الشمس إلى
كهرباء، والأخرى حرارية تحول الطاقة الشمسية إلى حرارة وهذه رأيناها تطهو الطعام في
جهاز بسيط يسمى "الطباخ الشمسي" بدرجة حرارة تصل إلى 104م، ورأيناها تبرد الجو عن
طريق الامتصاص الحراري.
وكانت الشمس تشغل
الثلاجات أيضا وتضيء إشارات المرور في معرض القرية.
ما لم نتحدث
عنه
ودعنا القرية
الشمسية، وبينما كنا نمضي مخلفين الخضرة وراء ظهورنا راحت تواجهنا الصحراء... صحراء
تصطلي بشمس قاسية لعل ما رأيناه في القرية الشمس يمثل حلما قابلاً للتحقق لإحالة
هذه الصحراء إلى وديان خصيبة خضراء ومضيئة.
واسعة ومترامية
هي، مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية، لكن مدى الكتابة لا يتسع إلا لمجرد
الإشارة. بل الإشارة برءوس الأقلام إلى إنجازات وطموحات لا يتسع المدى للحديث
عنها:
* محطة أبحاث قرية
"ديراب" التابعة لمعهد بحوث الموارد الطبيعية والبيئة، حيث رأينا أسماك البلطي
والشبوط والسلور تستزرع في المياه العذبة تحت ظروف بيئة الصحراء.
* مشروع مرصد
الليزر السعودي التابع لمعهد بحوث الفلك والجيوفيزيا حيث يقوم المرصد بالمشاركة مع
وكالة "ناسا" الأمريكية للملاحة الجوية والفضاء بدراسة تحركات قشرة الكرة الأرضية
للتنبؤ بالزلازل والكوارث الطبيعية.
* شبكة الرصد
الإشعاعي التابعة لمعهد بحوث الطاقة الذرية التي تغطي منطقة واسعة للرصد وتحليل
المعلومات والإنذار المبكر إضافة إلى أجهزة تقدير الجرعات الإشعاعية لدى الإنسان
وفي البيئة.
* برامج دعم
البحوث العلمية خاصة التطبيقية منها، وهو النشاط التابع للإدارة العامة لبرامج
المنح التي أنجزت- بدعمها- مجموعة من البحوث المتفردة مثل: مشروع مرض اللشمانيا
والطب الشعبي، والاستفادة من سعف النخيل كعلف، وعلاقة التلوث بمرض الشعاب
المرجانية، وتقويم مكامن الذهب في جنوب المملكة العربية السعودية، وجيوكيميا
اليورانيوم والثوريوم في شمال الدرع العربي.
* برنامج تعريب
الحاسوب "المعرب 1،2 "، ومشروع اللوح الناطق لإعانة المعوقين على التغلب على
إعاقتهم والتحدث بطريقة تخرجهم من عزلتهم وتنقذ مواهبهم، وهو المشروع التابع لمعهد
بحوث الإلكترونيات والحاسبات.
* المركز السعودي
للاستشعار عن بعد، ومشاريع تحلية المياه بالطاقة الشمسية، ونشاط معهد بحوث البترول
والبتروكيماويات.
.. مدينة الملك
عبدالعزيز للعلوم والتقنية بالرياض، مدينة شاسعة، بينما الصفحات ضنينة.
إنها حقاً المدينة
التي طال غيابها بين مدننا العربية.. نتمنى لها الاكتمال والازدهار ونحن نغادرها،
لكننا لا نقول لها وداعاً، بل نرحب بها في أفق الحلم المستقبلي العربي قائلين:
"ياهلا.. ياهلا".