أفضل عشرة أفلام عربية كمال رمزي


هذه الأفلام العشرة، صمدت بجدارة، لاختبار الزمن القاسي، وأفلتت من ظلال النسيان لتبقى مزدهرة، نابضة بالحياة، إما بكاملها، أو ببعض لقطاتها، في ذاكرة من شاهدها.. وأصبحت، الآن، من المعايير التي يعود لها الناقد، ليسترشد بها في قياس مدى نفاذ بصيرة، وجمال، وقوة تأثير الأفلام الجديدة.

أربعة عقود من الزمان تفصل بين تاريخ عرض الفيلم الأول والفيلم الأخير في هذه القائمة المميزة من الأفلام العربية.. وتختلف بلدان إنتاجها.. ولكل فيلم أسلوبه الخاص، الذي يتباين مع الأساليب الأخرى، المتوافرة في بقية الأفلام.. ومع هذا، فإن ثمة عناصر مشتركة، إيجابية، ربطت بين هذه الأفلام، وجعلتها - على الأقل - من أفضل النماذج، في السينما العربية. مذاق الحقيقة، يتبدى بجلاء، في هذه الأفلام لا تتوقف عند مجرد عرض مشكلة فردية، معزولة عن المجتمع.. ولكنها تعبر عن هموم جادة، تمس حياة قطاعات واسعة من الناس، ممن يعيشون في قلب الواقع.. والأهم أن هذه الأفلام، لا تصور الواقع فحسب، بل تراه، وتتوغل في أحراشه، لتكشف، وتدرك، بخبرة ودراية، الأسباب التي أدت بالضرورة إلى وجود الظاهرة التي يتعرض لها هذا الفيلم أو ذاك.

"السوق السوداء" و"الفتوة"، يتحرران من أغلال الصالونات والمراقص والحدائق وغرف النوم، ليس من ناحية الشكل فحسب، بل من ناحية الفكر أولا.. فهنا، لا يعمل الفيلمان على إلهاء جمهورهما عن واقعهما، ولكنهما، بوعي إنساني عميق، يناقشان، ويحللان، متاعب "الأهالي" الحقيقية.

من ناحية الزمن، يدور "السوق السوداء" في دوامة الحرب العالمية الثانية، عندما أخذ شبح المجاعة يهدد السواد الأعظم من الناس.. ومن ناحية المكان، اختار كامل التلمساني، المخرج وكاتب السيناريو، حارة مصرية.. ومن خلال رصد العلاقات بين أهل الحارة وتجارها الجشعين، بين أن المجاعة ليست قدرا، ولكنها من صنع من ماتت ضمائرهم، فأخذوا في تخزين السلع كي يرتفع سعرها، ثم يعيدوا طرحها بأثمان مضاعفة.

وفي "الفتوة" يدخل أبوسيف سوق خضار "روض الفرج" الشهير، الذي يهيمن عليه، ويحتكر بضاعته بعض الغيلان، من مصاصي دم وعرق الناس.. وكما الحال في "السوق السوداء" يشتري التاجر الكبير - المرتبط بقوى أكبر - كل كميات الطماطم ويخبئها إلى أن تشح في السوق، ثم يبدأ في بيعها بالثمن الذي يريده.

قيمة الفيلمين لا ترجع إلى قدرتهما على التفسير، وموقفهما المعادي للاستغلال، فقط.. ولكن تعود، جوهريا، إلى ريادتهما، ومستواهما، وإنجازهما، من الناحية الفنية.. الأفكار، في الفيلمين، تتجسد في علاقات بين بشر من لحم ودم ومشاعر.. هنا، تختفي التقسيمة الأخلاقية الساذجة، المطلقة، للأبطال: هذا طيب وذاك شرير، ذلك أن الإنسان، في الفيلمين، يتصرف حسب وعيه بمصالحه، وموقعه على الخارطة الاجتماعية.. في "السوق السوداء" نتابع، التاجر النزيه، زكي رستم، وهو يتحول إلى وحش لا يرحم، كلما ازدادت ثروته.. وفي "الفتوة" يطالعنا الرجل الهارب من جوع أحد الأقاليم الجائعة، فريد شوقي، الذي يبدأ طيبا، وهو يغدو فظا بلا قلب، بعد أن يزيح "ملك السوق" ويحل مكانه.

حارة "السوق السوداء" تتميز بعمق المجال، وسوق "الفتوة" يتسم بحيوية الحركة.. وحوار "السوق السوداء" الذي كتبه بيرم التونسي، لا يوازيه في تدفقه، وقدرته الإيحائية، وإيجازه، إلا الحوار الذي كتبه السيد بدير لـ "الفتوة".. وثمة محور إبداعي مشترك بين الفيلمين، يتجسد في الفنان الكبير، زكي رستم، بصدق أدائه الداخلي.. وإذا كان زكي رستم في "السوق السوداء" يعبر ببلاغة، عن تحولاته، بملامحه التي تتسلل لها الشراسة شيئا فشيئا، فإنه في "الفتوة" يطلعنا على جوانب الشخصية الوحشية التي يؤديها، بنظراته، ولفتاته، وصوته، على نحو بالغ النعومة، إنه يبدأ من حيث ينتهي في "السوق السوداء"، فهو في "الفتوة" التاجر المسيطر على السوق، الذي يدافع عن مكانته، ضد الوافد الجديد، بكل قواه.

بعد "السوق السوداء" بثمانية أعوام، وقبل "الفتوة" بثلاث سنوات، عرض "حياة أو موت" الذي كان، ولا يزال، تجربة فريدة في نوعها.. فالفيلم، في معظم مشاهده، يدور في شوارع القاهرة.. يبدأ بموظف منهك، يستغنى عنه في العمل، ويعود إلى شقته المتواضعة حيث تتشاجر معه زوجته وتغادر البيت.. ابنته الطفلة تظل معه.. تننتابه نوبة قلبية، تنزل الابنة في الطريق لشراء الدواء.. ولأن "الصيدليات" تغلق أبوابها فترة الظهيرة، فإن أحد الرجال يقترح عليها الذهاب إلى "اجزخانة" بميدان العتبة، تعمل طوال الأربع والعشرين ساعة.. وتبدأ الفتاة رحلتها الطويلة إلى قلب المدينة.

مدينة "حياة أو موت" تمتلئ بالنماذج البشرية، يتعرف عليها الفيلم، أثناء انغماسها في الحياة اليومية.. والمدينة هنا ذات قلب طيب، تعامل الطفلة بحنان.. فثمة "كمساري" الترام الذي يخبر الطفلة عن رقم الترام الذي يجب أن تركبه. وهناك من يتطوع بتوصيلها بدراجته إلى محطة الترام.. والصيدلي، حسين رياض، يعطيها الدواء متغاضيا عن بقية ثمنة. يكتشف الصيدلي عقب انصراف الطفلة، أنه اخطأ في تركيب الدواء، وأن الموت ينتظر المريض إذا تناوله.. وبلا تردد، يندفع الصيدلي، بجميع الوسائل، إلى العمل على انقاذ المريض، لدرجة أنه يبلغ "حكمدار" العاصمة، الذي يقوم بدوره الإنساني كاملا.. سواء بالبحث عن الطفلة، أو بتكليف الإذاعة أن تخطر المريض بعدم تعاطي الدواء السام.. إن الفيلم الذي يحتج، في البداية، على طرد موظف من وظيفته، يعطي امثولة، ونموذجا، لما يجب أن يحظى به المواطن من رعاية.

كمال الشيخ مخرج "حياة أو موت" - شأنه شأن صلاح أبوسيف مخرج "الفتوة" - خريج مدرسة "المونتاج" في ستديو مصر.. يعرف تماماً كيف يحافظ على إيقاع فيلمه المتصاعد، الذي يبدأ هادئا، متمهلا، ثم مسرعا، متوترا، لاهثا.

وثمة أكثر من قاسم مشترك يربط بين "حياة أو موت" و"السوق السوداء": المصور الكبير أحمد خورشيد، "بكاميرته" اليقظة، تنتبه إلى التفاصيل الصغيرة في "السوق السوداء"، وتتحول إلى عين بشرية، في "حياة أو موت"، فتتابع، مفعمة بمشاعر القلق، رحلة الطفلة في المدينة من ناحية، وعملية إنقاذ المريض من ناحية أخرى.

وكما قام عماد حمدي، بوجهه الذي يحمل قدرا غير قليل من العناء، بدور موظف يقف في وجه تجار "السوق السوداء"، يؤدي في "حياة أو موت" دور الموظف العليل، بطريقة واقعية متفهمة، بلا مغالاة أو افتعال.

أنشودة الاحتجاج

"رياح الاوراس"، أول أفلام المخرج الجزائري محمد الأخضر حامينا، وأعمقها تأثير.. فيلم بسيط، لا يعتمد على سخاء الإنتاج الضخم، مثل "وقائع سنوات الجمر"، ولكن ينطلق مع بطلته "كلثوم"، السيدة العجوز، في رحلة بحث طويلة، مضنية، عن ابنها الوحيد "محمد شويخ".

الأم، في هذا الفيلم، قوة روحية هائلة، استشهد زوجها، وتم القبض على ابنها، والزج به في أحد معاقل المعسكرات.. وتقرر، بلا تردد، أن تعثر عليه.. وتنتقل من مكان لمكان: قرى ومدن صغيرة وصحارى.. وخلال رحلتها، نتعرف على الجزائر: البشر والهموم والآمال.. وفي نهاية الفيلم، عبر أسلاك شائكة مكهربة، ترى الأم ابنها - أو شبيها له - ينظر من نافذة ضيقة.. وعندما تحاول اقتحام المكان، يصعقها التيار الكهربائي.

ستشهاد الأم هنا، يبدو كمرثية رقيقة، مفعمة بالتعاطف والتبجيل، لكل الأمهات العربيات، اللاتي دفعن الكثير، من أجل الأبناء.. والوطن.

رياح الاوراس"، كما الحال في "السوق السوداء" و"حياة أو موت" و"الفتوة"، يكتفي بالأبيض والأسود.. ولكن من قال أن "الأبيض والأسود" مجرد لونين؟ انهما عشرات الدرجات اللونية، تستخدم في الأفلام الأربعة كمعزوفات لحنية تخاطب العيون.. الأسود، النابع من قلب الليل، يداري جرائم تجار "السوق السوداء".. والأبيض الناصع، بسبب قوة الإضاءة، يؤجج الصراعات، في "الفتوة".. والرمادي القاسي، يهيمن على "رياح الاوراس".

احتجاج آخر - وليس الأخير - يأتي مع "رسائل من سجنان"، للمخرج التونسي عبداللطيف بن عمار.. "سجنان"، يتعرض، بأسلوب شاعري بالغ الرقة، لفترة وحشية في تاريخ تونس.. في السنوات الأخيرة للاحتلال، عندما أخذت قوات المستعمر تقمع، بعنف، الحركة الوطنية.. مع البدايات، تسيل دموع بطل الفيلم، في لقطة كبيرة، وهو يستمع لخبر استشهاد والده، من قريب عجوز، نستمع لصوته من خارج الكادر.. وها هو بطل الفيلم، الطالب، يطالع مذكرات والده، التي تتحول إلى صور أخاذة، في الفصل الدراسي.. ويتابع "سجنان" تفتح وعي بطله، وانصهاره في بوتقة الحركة الوطنية ضد المستعمر، ويتعمد عبداللطيف بن عمار أن يغلف مشهد قمع إحدى المظاهرات بالموسيقى التصويرية، بدلا من الأصوات الواقعية.. وفي "مونتاج، متواز محكم، ناعم، يتابع الفيلم، في ثلثه الأخير، عرسا تقليديا لفتاة تعيسة تزف إلى رجل لا تحبه، وإضرابا كبيراً تشارك فيه قطاعات واسعة من الشعب التونسي، ويستشهد فيه بطل الفيلم.

"سجنان" لا يحتج، ولا يدين الاستعمار فحسب.. بل يحتج، ويدين، قيما اجتماعية متخلفة، لا تترك فرصة الاختيار للفتاة التونسية - العربية.. وفيما يشبه التحذير، يتعمد عبداللطيف بن عمار، أن يثبت اللقطة الأخيرة - عقب مصرع بطله - على راقصة بدينة تتمايل بخلاعة!.. فهل أراد المخرج الكبير كاتب السيناريو أيضاً، في أول أفلامه، أن ينبه إلى فئة لاهية، داخل البلاد. ترقص.. على دماء الشهداء؟

من "رياح الاوراس"، سينطلق بطله، "محمد شويخ"، ليقدم كمخرج عددا من الأفلام الجزائرية، العربية المهمة: "المصب"، "الضائعون"؛ "القلعة"، و"يوسف: أسطورة اليوم السابع".

ومن مدرسة "سجنان"، ستحقق مونتيرته "مفيدة تلاتلي"، بعد عقدين من الزمان، فيلما مهما، لفت نظر كل من شاهده، هو "صمت القصور"، الذي يعد امتدادا، على نحو ما، لـ "سجنان".

نهايتا "رياح الاوراس" و"سجنان"، برغم مأساويتهما، يشحنان المشاهد بروح المقاومة، يجعلانه مستفزا ضد القمع والظلم.. وإلى جانبهما، إذا لم يكن في مقدمتهما، باقي مشهد النهاية البديع، الذي من المستحيل أن ينسى، في "الأرض".. الفلاح "محمد أبوسويلم"- محمود المليجي - المقيد القدمين إلى حصان يعدو، الذي يتم سحله، يمد ذراعيه الداميتين لينشب أصابعه في الأرض.. يصر، بكل قواه على أن يتمسك بها.. ويستمر المشهد للحظات تبدو وكأنها تعبر عن دهر كامل، شهد رهانا علي الحياة، من أجل "الأرض".

قيمة "الأرض" لا تكمن في نهايته فحسب، بل في الفيلم ككل.. في مئات التفاصيل المحلية، شديدة الصدق، التي تقدم "جدارية" هائلة للريف المصري، في الثلاثينيات والأربعينيات.. في علاقة القرية بالمدينة. وفي علاقة الفلاحين بالباشوات والاحتلال، وفي العلاقة بين الناس والسلطة، وفي العلاقة بين الفلاحين وبعضهم البعض.

الناقد الفرنسي، جان لوي بوري، كتب مقالا طويلا، يقدر فيه الفيلم تقديرا رفيعا، أنهاه بقوله: "إن الأرض ليس مجرد حدث بالنسبة للسينما العربية فحسب، بل بالنسبة للسينما العالمية أيضا".. وأحسب أن تثمين الفيلم على هذا النحو، نابع من "محليته" أساسا، فضلا عن لغته السينمائية الرفيعة، بدءا من براعة الأداء التمثيلي لأبطاله جميعا، وحيوية حركتهم التي لا توازيها إلا حركة الكاميرا المحسوبة بدقة، في تنوع اللقطات بين البعيدة والمتوسطة والقريبة، وفقا لمتطلبات كل موقف... فها هو، على سبيل المثال، موسى الحلاق، في لقطة كبيرة؟ يجز شعر شارب محمد أبو سويلم، لإذلاله، أثناء اعتقاله.. وفي لقطة عامة، بعيدة، تكتسي السماء بلون في احمرار الدم، يوحي بوقائع أليمة. "الأرض" قمة أعمال يوسف شاهين الواقعية، ومن لآلئ السينما العربية، بحق.

فيلم.. وحيد

حقق كل من المخرجين الراحلين، شادي عبدالسلام ومحمد الركاب، فيلما وحيدا، أصبح - بجدارة - من عيون السينما العربية.

"المومياء"، الذي أخرجه شادي عبدالسلام، فريد في بابه.. إنه أقرب إلى قصيدة الشعر، أو قطعة الموسيقى، يوحي أكثر مما يصرح، ويحتمل، بلا تعسف، أكثر من تفسير، وأكثر من معنى.. لذلك فإن أجمل المقالات النقدية، المكتوبة بأقلام نقاد عرب، من مختلف الاتجاهات، كتبت عن هذا الفيلم.. وما كتبه النقاد الأجانب، عن "المومياء"، أضعاف أضعاف ما كتب عن السينما العربية مجتمعة!

من الصعب تلخيص "المومياء"، فالفيلم أكبر من أن يختصر في قصة "ونيس"، أحمد مرعي، الذي يتمرد على قبيلته التي تعيش على بيع آثار الأجداد، فيبلغ مفتش الآثار القادم من العاصمة.. نعم، "المومياء" يتضمن هذه "الحدوتة". كن رؤيته، المتعددة المستويات، تجري في شرايين الفيلم كله.. في إيقاعه المتأمل، المتمهل.. في الشجن الغريب المهيمن على مجمل الأبطال.. في الألوان الكابية التي يمتزج فيها الرجاء بالحزن.. في ذلك الإحساس المراوغ، مع نهاية الفيلم، بأننا إما في مطلع الفجر أو مدخل الليل..

عندي، أن "المومياء"، الذي حققه كاتبه - شادي عبدالسلام - في الشهور التالية لهزيمة 1967، يعبر، بطريقته الخاصة، عن الإيمان العميق بضرورة التغيير.. فالقبيلة التي عاشت، لقرون طويلة، على الماضي، عليها أن تتفهم، وتستوعب، رياح التغيير التي تهب عليها.. وإلا، فإن العواصف ستقضي عليها تماما.

قد يرى الآخرون، دلالات أخرى لـ "المومياء" وهم.. على حق فيما يرون، ذلك أن الفيلم مثل الدرة الأصيلة، تشع ألوانها المتباينة من كل جانب.. ولا يمكن لمن يرى اللون البنفسجي أن يصادر الألوان الأخرى؟ التي يراها كل منا.. حسب موقعه.

اختيار "حلاق درب الفقراء" للمخرج المغربي محمد الركاب، ضمن أفضل عشرة أفلام، يعني، في بعد من أبعاده، توقيرا للأفلام السابقة عليه، التي فتحت الباب له.. خاصة أعمال توفيق صالح، وبالتحديد "درب المهابيل" المهم، الذي أخرجه توفيق صالح، قبل أن يقدم الركاب "دربه" بأكثر من ربع قرن من الزمان.

وإذا كان توفيق صالح قد نظر إلى أبطاله في "درب المهابيل" نظرة واقعية، لا تضفي عليهم سمات ملائكية، رومانسية، ولا تستهجنهم باستعلاء ارستقراطي، فإن محمد الركاب، في فيلمه الوحيد، يحذو حذوه، ويقدم نماذج بشرية قريبة من أبطال "درب المهابيل".. في "حلاق درب الفقراء"، تتوقف الكاميرا، لترصد صورة فوتوغرافية لكل شخصية، قبل أن تبدأ في الحركة: "ميلود"، الحلاق الطيب، المنكسر، الضعيف.. وزوجته الطموح، المتمردة على وضعها، وعليه.. و"جلول"، الذي لا أخلاق له، الثري، الطامع في زوجة الحلاق.. و"حمان" جريح الكرامة بسبب زوجته التي لا نراها وان كنا نعلم أنها تعمل في مهنة مخجلة.. و"علال" رجل الدين الانتهازي، الذي يبدو كألعوبة في يد "جلول ".. و"حميدة" اللص، الخارج توا من السجن، صديق الحلاق.

طوال الفيلم، تتوالى الأحداث الصغيرة والكبيرة، تتشابك العلاقات وتتطور.. ويزداد نفوذ "جلول" الوغد، فينجح في الاستيلاء على دكان الحلاق بعد الاستحواذ على زوجته، عقب طلاقها من زوجها..

وها هم سكان الدرب، يغنون ويرقصون، لجلادهم "جلول"، الذي يسخر لخدمته الجميع، بمن فيهم رجل الدين، الذي يسيل لعابه لوعود الثري التى لا تتحقق.

لكن للفيلم بعدا آخر، ومستوى أعمق من مجرد تصوير ما يدور في أحد دروب مدينة "الدار البيضاء"، فمقهى الدرب أسمه "مقهى الوطن".. ومن مذياعه نستمع إلى أخبار غزو إسرائيل لجنوب لبنان.. وفي لقطة ذات مغزى، يقوم "جلول" بخفض صوت الراديو الذي يعلن اقتحام القوات الإسرائيلية للمخيمات الفلسطينية.. ألا يعني هذا أن محمد الركاب، ينبهنا، إلى أننا إنما نرى وجهة نظره في "درب" أمتنا كلها، بسلبية "الأهالي"، وشراهة فئة منه، وضياع قطاعات واسعة، تعيش فيه على نحو هامشي.. والمخرج المغربي، في هذا، لا يأخذ موقفا مستهجنا.. ولكنه، بدأب، وصدق، وحرارة، يكشف، ويخص على التغيير، ويحذر.

محمد الركاب، إلى جانب الإخراج، قام بالتصوير الذي يصل فيه إلى درجة رفيعة من القدرة على الايحاء بما يقصده.. فمثلا، تبدو الكاميرا حائرة، ضائعة، وهي تحاول أن تجد لها مكانا، إبان زفاف "جلول" ومطلقة الحلاق.. هذا الزفاف الكئيب، برغم إضاءته الشديدة وصخب زغاريده وأهازيجه.. لقد استحق التصوير، بجدارة، جائزة مهرجان قرطاج 1982.. كما قام محمد الركاب بعمل "مونتاج" فيلمه، فحافظ على تدفقه، وتماسكه.

من الماضي للحاضر..والعكس

فيلمان يتستران بالماضي وهما يتعرضان للحاضر.. أو يسقطان الماضي على الحاضر.. "أحلام مدينة" للمخرج السوري، محمد ملص.. و"الطوق والأسورة" للمخرج المصري، خيري بشارة.

"أحلام مدينة"، تتعانق فيه الأحلام المحطمة لمدينة، مع الأماني المهدرة لاسرة صغيرة، قادمة إلى العاصمة، من بلدة إقليمية قريبة.. و"الطوق والاسورة"، يعنى، بعنوانه ووقائعه، ذلك الحزام القاسي حول الرقبة، وتلك الاغلال التي تكبل ساعد المرء.

يبدأ "أحلام مدينة" من العام 1953، إلى العام 1958.. من العيد الأول للجلاء، إلى الليلة الأولى من الوحدة بين سوريا ومصر.. في "أتوبيس" متهالك، تصل أسرة مكونة من ثلاثة أشخاص: الأم، وولديها، بعد أن فقدوا عائلهم.. الأم "حياة"، ياسمين خلاص، المهيضة الجناح، مع صبييها، تطرق باب والدها العجوز، الشرس، الذي يستقبلهم بقلب كجلمود صخر.. فهو، حقيقة، لا يريدهم.. لكن لا مأوى لهم سوى بيته، لذلك فإنهم يتحملون إهاناته المتوالية، بلا اعتراض جاد، حتى أنه، في مشهد عاصف، يكبل الصبي الصغير بحبل، ويضربه بالعصا على قدميه.. وفي جملة عابرة، مؤثرة، تقول الأم إنه- والدها - كان يعامل والدتها، بذات القدر من القسوة.. وها هي "حياة" التي ضاقت ذرعا بوالدها الذي لا يكف عن تأنيبها وتوبيخها والتهجم عليها، تلطم خديها بعنف صارخة "أنت بدك تضربني.. والله بضرب نفسي" إن الفيلم، على مستوى الأسرة، يقدم أحتجاجا عنيفا ضد وحشية النظام الابوي الذي كان يفرد ظله على الشارع السوري أيضا.. في ذلك الوقت فطوال السنوات الخمس التي تستغرقها أحداث الفيلم، تتوالى الانقلابات "الفوقية".. وما على رجل الشارع إلا الهتاف لكل انقلاب جديد.. إن قصاب الحي، يمسد بالسكين معلنا "أديب بك لا تهتم.. بنعبيلك بردي دم".. ثم "شكري بك لا تهتم.. بنعبيلك بردي دم".. هكذا، شعار يعبر عن الاذعان الكامل، لا يتغير فيه سوى اسم "الاب" الجديد.. وكما تتسم حياة "حياة" بخيبة حلقاتها، تتوالى "خيبات" الوطن، إلى أن تصل لافراح الوحدة، التي نعلم جميعا، كيف كانت نهايتها.. كذلك الحال بالنسبة لـ "الطوق والاسورة"، الذي يعود إلى الثلاثينيات ليقدم، بما يشبه المراثي، ثلاثة أجيال تعيش في قرية "الكرنك" المنسية، في أقصى الجنوب الضنين.

الجيل الأول: "بخيت البشاري"، عزت العلايلي، العجوز، القعيد. وزوجته "حزينة"، فردوس عبدالحميد، الحزينة فعلا، والتي تنتظر بأمل واهن، عودة ابنها الغائب، منذ عشر سنوات.. ثم ابنتهما "فهيمة"، شريهان، التي لا تتوقف عن العمل، والتي ستتزوج لاحقا، من حداد عاجز جنسيا، يسومها سوء العذاب، فتذهب إلى حارس المعبدالفرعوني، لتحمل منه، وتضع ابنتها، وتمرض، ليأتي حلاق القرية وطبيبها. ويحلق شعرها، ويفصد دمها، ويكوي جرحها بالنار، لتموت.. ضحية بائسة للجهل والخرافة والعزلة.

إذن، فالجيل الثاني، الذي تمثله "فهيمة"، وزوجها "الحداد"، أحمد عبدالعزيز، محكوم عليه بالموت، والعجز. وإذا كان محمد ملص، في "احلام مدينة" لم يفته أن يقدم، ضمن رجال شارعه، عجوزا فقد نظره في حرب 1948.. فإن خيرى بشاره، بدوره، يعود بـ "مصطفى" الغائب، ابن "بخيت وحزينة"، من ذات الحرب، مهزوما، تعيسا.. ويقوم بدوره، عزت العلايلي، أيضا.

يأتي "مصطفى"، المنتظر، ليخوض بقدميه في أوحال دروب القرية، التي لم تهب عليها نسمة تغيير واحدة.. الجهل، والمرض، والخرافة، والفقر الشديد.

الجيل الثالث، الذي تمثله "فرحانة"، إبنة "فهيمة" الراحلة، والتي تؤدي دورها شريهان أيضا، تسلم جسدها لابن العمدة فتغدو حاملا... وبلا تردد، يدفنها خالها في الأرض، ويمنع عنها الماء، ليأتي ابن عمتها، ويطعنها في بطنها، وتموت قتيلة، ضحية التقاليد كما كانت والدتها ضحية الجهل.

تراجيديا "الطوق والاسورة"، أقرب إلى الآهة الطويلة، الصادرة من قلب مفعم بالأحزان والغضب، يرنو إلى دنيا أكثر عدلا ورحمة.. يحتج على الواقع، بعد أن يتوغل في أحراشه.. ويدفعنا إلى أن نفكر، ونتأمل، لعلنا نغير.. ولكن، أليس هذا عين حال بقية الأفلام العشرة.. وأليس هذا شوط ودور الفن النبيل.. أليس كذلك.؟!

 


أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات