من المكتبة الأجنبية.. موسوعة مخرجات السينما العربية

من المكتبة الأجنبية.. موسوعة مخرجات السينما العربية

يركز كتاب ربيكا هيلاور على مخرجات ومنتجات الأفلام العربية من النساء. وقد صدر عن الجامعة الأمريكية بالقاهرة، في مجلد من القطع المتوسط، يضم بين دفتيه، 484 صفحة، منقسمة إلى 11 باباً، تتناول 68 شخصية نسائية عربية، وتعلق على ما يقرب من 200 فيلم من إنتاجهن.

الإعجاب والتقدير هما أول ما يجول بخاطر المتصفح المتعجل للكتاب. فهو ينم في مظهره عن انشغال غربي مقبول بقضايا السينما العربية وشخصيات صانعيها. فالكتاب يستخدم أنماطاً سردية متنوعة، تترواح بين الحوارات الحرة التي أجرتها المؤلفة مع المخرجات والمنتجات العربيات، ومقالات الرآي التي كتبتها أقلام بعض من هؤلاء السيدات أنفسهن، مع مراعاة التبويب التاريخي والتقسيم الجغرافي للشخصيات. فأبواب الكتاب تتناول صناعة الأفلام في مصر والعراق ولبنان وفلسطين وسورية واليمن والجزائر والمغرب وتونس وبعض دول الخليج. وجاء الباب المخصص لمصر أكبرها، حيث امتد عبر 80 صفحة، بينما تراوحت بقية الأبواب بين 5 و60 صفحة لكل دولة أخرى، وذلك وفقاً لما رأت المؤلفة من دور لهذه الدول العربية على صناعة الأفلام العربية.

وتحاول الموسوعة أن تغطي كل تاريخ السينما العربية منذ بداياتها، لكنها تضطر إلى التركيز على المخرجات المعاصرات الموجودات على قيد الحياة وذلك لإجراء حوارات معهن أو الحصول على نصوص مكتوبة منهن لتخليص رؤيتهن حول السينما العربية. يبدأ كل باب بمقدمة تستعرض تاريخ السينما والأفلام في كل بلد من البلدان المذكورة. كذلك يحمد لها أنها قامت بترجمة أسماء الأفلام العربية وكثير من المصطلحات العربية الشائعة في صناعة الأفلام إلى الألمانية ثم الإنجليزية، بشكل جيد جداً.

كل ذلك ينم عن جهد ليس بالبسيط، ما يجعل المتصفح المتعجل يحمد لها هذا الجهد ويقدره.

إلا أن الأمر يختلف كثيراً عندما يتحول المتصفح المتعجل إلى قارئ متمهل!

من السطر الأول

تبدأ الموسوعة بتمهيد تستعرض فيه المؤلفة وجهة نظرها وفرضياتها التي انطلقت منها، ومعها تبدأ في ذات الوقت دهشتنا وانقلاب فرضياتنا الأولية بتحولنا من متصفحين إلى قارئين.

فالتمهيد يبدأ بسؤال فحواه: هل هناك مخرجات عربيات؟ وهو بديهي، حيث إن عنوان الموسوعة عن المخرجات العربيات. ولكن فائدة هذا السؤال تتلخص في أنه يدلنا نحن القراء - على أن الموسوعة تتوجه في الأساس إلى قارئ غير عربي - فأغلب القراء العرب يعلمون بوجود مخرجات سيدات. ما يعني أن المؤلفة ترى أن جزءا من رسالتها يتمثل في إعلان وجود مخرجات سيدات عربيات. كأنها بصدد إعادة كتابة تاريخ السينما في المنطقة العربية. لكننا بالاحتكام إلى التاريخ نستطيع دحض رؤية الكاتبة الألمانية وفرضياتها الأولى.

فالتاريخ يؤكد أن السيدات العربيات دخلن مجال الإخراج والإنتاج في السينما، قبل ألمانيا، وهي بلد الباحثة ربيكا هيلاور. حيث إن أول مخرجة ألمانية كانت هي هيلينا رايفنشتال في عام 1932.

فإذا عدنا إلى التاريخ العربي فسنجد أن أول مخرجة عربية كانت هي السيدة عزيزة أمير، التي أخرجت فيلم «ليلى» عام 1927. وذلك يجعلها هي ثاني سيدة مخرجة في العالم أجمع.

ووفقا للتأريخ الغربي، فإن أول سيدة مخرجة في العالم كانت فرنسية وهي أليس جاي بلاشيه، وأول فيلم لها كان «حياة المسيح»، عام 1906. تأتي بعدها المخرجة الأمريكية دوروثي أرزنر، وكان أول أفلامها بعنوان «أزياء للسيدات» عام 1927.

ولكن التأريخ الغربي يعتبر أن المخرجة الألمانية هيلينا رايفنشتال التي أنتجت أول أفلامها عام 1932 بعنوان الضوء الأزرق، تأتي في المركز الثالث. وذلك لأنه يتجاهل التاريخ العربي أساساً، ويدور في إطار الغرب وحده.

بينما وفقا لهذه التواريخ، فإن السيدة عزيزة أمير، التي أخرجت فيلم «ليلى» عام 1927، تصبح هي ثاني سيدة مخرجة في العالم أجمع، وقبل المخرجة الألمانية هيلينا رايفنشتال التي أنتجت أول أفلامها عام 1932.

هذا يعني أنه وفقا للتاريخ العربي، فإن الأمور تبدو مختلفة عما يتوقعه ويسجله التاريخ الغربي لفن السينما. ففي تاريخ السينما المصرية وفي مجال الإخراج بالذات نجد أسماء نسائية كثيرة اشتهرت في بداية القرن السابق، من قبيل فاطمة رشدى وبهيجة إسماعيل حافظ وأمينة محمد.

إلا أن التاريخ الذي يعاد كتابته في الغرب يتجاهل التجارب العربية وينتقص منها بشكل غير مبرر.

المستشرقون قادمون

بعد أن ينتهي التمهيد نجد أنفسنا أمام مبحث منفرد عنوانه: «تاريخ الكاميرا والحجاب». وفيه تربط المؤلفة هيلاور بين الرائدة النسوية هدى شعراوي وحركة خلع النقاب عام 1923 وبين فن استخدام الكاميرا. فهي ترى أن هناك فنا نسائيا لاستخدام الكاميرا يختلف عن الفن الذكوري لاستخدام الكاميرا. وأن استخدام الكاميرا بطريقة نسوية يهدف إلى تصوير وتسجيل ما يعتبره المجتمع العربي والإسلامي غير مباح للنساء. إذن فالكاميرا تعتبر أداة للتحرر النسوي، الذي اعتادت كبته المجتمعات العربية. وهذه ثانية فرضيات الكاتبة هيلاور.

تجهد الكاتبة الألمانية نفسها لتقرر بلهجة الوثوق أن الحجاب علامة أكيدة على القهر الذي يمارسه المجتمع العربي الإسلامي الذكوري والأبوي على المرأة العربية. ولذلك فهي ترى أن هناك علاقة وثيقة بين التمرد على الحجاب والتمرد على المجتمع العربي وفن صناعة الأفلام. وهكذا وبضربة تنظيرية واحدة تربط موضوع موسوعتها بكل المتوهمات الغربية الأخرى المرتبطة بالسياق العربي.

وتصل المؤلفة هيلاور في تنظيراتها إلى استنتاج مفاده أن القضية الأساسية لدى المخرجات العربيات هي «التمرد على واقع المرأة العربية وعلى المجتمع العربي الإسلامي وعلى القيم المجتمعية العربية السائدة». فهذه القيم العربية وفق ما ترى الباحثة الألمانية قد صاغها الرجال العرب. وبالطبع فإنهم حرصوا خلال صياغتهم لها على «تأبيد بقاء المرأة في دورها المتقلص والمفروض عليها كزوجة وأم فقط». إذن فبالضرورة من وجه نظر الكاتبة - لابد أن تكون الأغلبية العظمى من مخرجات الأفلام العربيات من المضطهدات وممن عانين الأمرين من تعصب وتخلف وتدين مجتمعاتهن، لدرجة دفعت بهن إلى هجر أدوارهن كأمهات وزوجات، فلم يجدن سوى أحضان الأفلام والكاميرات ليعبرن من خلالها عن تمردهن تمهيداً لتمرد النساء كخطوة مهمة على طريق انعتاق المجتمع العربي من أسر التقاليد الجامدة من خلال الفن السابع. ومن هنا يبدأ بالضبط طرف الخيط الوهمي الذي تصر المؤلفة هيلاور على تتبعه عبر صفحات موسوعتها، ظانة أنها ستصل إلى سبر أغوار صناعة الأفلام النسائية العربية.

فكل ما تقوله المؤلفة هيلاور بعد ذلك هو من قبيل التنظير الوهمي للمستشرقين الذين يظنون أن بإمكانهم تصنيف كل المجتمعات التي لا ينتمون إليها على أنها أقل تحضراً وأكثر بداوة من مجتمعاتهم الغربية. فلما كان المستشرقون الغربيون على وتيرة هيلاور إنما يحترمون مجتمعاتهم التي يحيون فيها فقط، فإنهم يعتبرونها وحدها الأكثر عدالة والأكثر حرية والأشد إنسانية وديمقراطية. وهذا الظن لا يستقيم إلا إذا سانده ظن آخر يتمثل في أن كل المجتمعات الأخرى المغايرة إنما تقوم على الاستغلال والإذلال والانحطاط ومختلف المساوئ التي ينفونها عن مجتمعاتهم الغربية العظيمة. فتلك من قواعد لعبة الأنا والآخر: أن أكون أنا جميلاً لأن الآخر قبيح؛ وأن أكون أنا خيراً لأن الآخر شرير؛ وإلا فلن أكون حاملاً لأي صفة إيجابية، إذا ما صعب عليّ نفيها عن الآخر، ونسب السلبية إليه. تلك هي أصول اللعبة الاستشراقية التي يمارسها بعض المستشرقين في الغرب على الآخر نحن العرب - في الشرق، والتي فضحها بكل براعة إدوار سعيد.

كل نساء المؤلفة!

يقود التحيز الاستشراقي المؤلفة هيلاور عبر كل تحليلاتها لنفسيات ودوافع مخرجات الأفلام العربيات. فهي لا تميز بين المخرجات العربيات المهاجرات خارج أوطانهن والمخرجات المقيمات في أوطانهن. بل تخلط بينهن، فتفترض أن قضايا المخرجات العربيات المهاجرات هي ذات القضايا التي تتبناها المخرجات المقيمات والوطنيات. فلا تميز المؤلفة هيلاور بين المخرجات العربيات وفقاً لأسباب هجرتهن أو بقائهن في بلدانهن، كأنما يكفي أن تكون المخرجة قد ولدت في أرض عربية لتنطوي نفسيتها ودوافعها تحت فرضية القهر الرجولي والأبوي الذي يمارسه عليها المجتمع العربي.

فمثلاً في صفحة واحدة هي رقم 13 تقوم الباحثة هيلاور بالانتقال من المخرجة الفلسطينية عزة الحسن التي تتكلم عن تقديسها لأرض وطنها الضائع ودفاعها عن قضيتها؛ لتنتقل إلى مخرجة أخرى هي نادية الفاني التونسية التي هاجرت إلى فرنسا، والتي تصرح بأنها تتمنى لو تجد متحف اللوفر في تونس لتعود إليها، لأنها لا تريد أن تفتقد باريس إذا عادت إلى تونس، وتتحدث عن تأرجحها العاطفي بين وطنها العربي وبلد هجرتها المختارة، فرنسا. ورغم الفارق البيّن بين الحالتين والذي قد يصل إلى درجة التناقض، إلا أن «هيلاور» تصر على القفز بنا إلى نقلة أكبر، بإعطاء خيط مسار الكتابة والحديث على نفس الصفحة لمخرجة ثالثة هي «هيني سرور» وهي عربية يهودية من لبنان، والتي تصرح بأنها تركت بيتها لخلاف مع والدها. وهو ما تستخدمه المؤلفة لإثبات السيطرة الأبوية الذكورية في المجتمع العربي.

إن التباين بين الحالات الثلاث في أسباب الهجرة واضح جداً، وكان يستدعي تمييزاً موضوعياً بين حالة كل منهن. فالمهجّرة تختلف عن المهاجرة وتختلف عن المطرودة. ومن غير الموضوعي الخلط بين هذه الحالات في سياق واحد تهدف منه المؤلفة «هيلاور» إلى تصوير المأساة التي تعيشها المرأة العربية عامة.

تلابيب قضية المرأة العربية

تمارس هيلاور قدرتها على الاختزال في موسوعتها مرات كثيرة دون أن يطرأ على ذهنها السؤال عن تأثير ذلك على درجة موضوعية الموسوعة. فهي تختزل المرأة العربية التي تمثل نصف المجتمع العربي، في مجموعة المخرجات العربيات اللاتي يردن في موسوعتها، ثم تختزل مجموعة المخرجات العربيات، بحركة تسلل غير علمية، في مجموعة المخرجات المهاجرات، ثم تختزل المخرجات المهاجرات في المطرودات وحدهن. وفي النهاية تظن أنها أمسكت بتلابيب قضية المرأة في المجتمع العربي الأبوي القاسي.

لا شك أن قضية المرأة العربية الحقيقية بها قدر كبير من المصداقية والحق المهدور والذي يجب استعادته لمصلحة المرأة وضد تحيزات ذكورية كثيرة. لكن اختزال الأمر في مسائل أخلاقية على المستوى الجسدي، مثل المعارضة الحتمية بين الحجاب والسفور، لا يفيد كثيرا قضية المرأة المعاصرة. بل يعبر عن انشغال بقضايا قديمة تجاوزها الزمن.

الوظيفة الحقيقية لصناعة الأفلام العربية

من العجيب أن «هيلاور» لا ترى في قضايا أفلام المرأة العربية سوى الموضوعات التالية: الحمل خارج الزواج الخوف من الاغتصاب زنا المحارم الزواج القسري الهروب من بيت الأب الخروج عن طاعة الزوج. وهي نفس القضايا التي تذكر المؤلفة أنها محور تركيز أغلب المخرجات العربيات، والتي تحرص «هيلاور» على التركيز عليهن أكثر من غيرهن. السؤال هو: من أين أتاها الاعتقاد بأن هذه القائمة وحدها هي التي تمثل جل القضايا التي تشغل ذهن المرأة العربية؟ وهي تقدم الإجابة التالية: إنها استعرضت الأفلام التي صنعتها النساء العربيات فوجدت أن هذه هي القضايا الأساسية بها.

إلا أن الحلقة المفقودة هي الافتراض القائم لدى المؤلفة هيلاور بأن موضوعات أفلام المخرجات العربيات إنما تعبر بدقة عن أهم القضايا الحقيقية التي تشغل بال المرأة العربية. وهنا بالضبط يكمن خطأها!

فمن عرف وألِـف وتابع الأفلام العربية في مختلف عصورها يعلم جيداً أن قضايا كثير من هذه الأفلام على عكس ما يحدث في الغرب - لا يعبر عما يشغل بال العرب، إلا فيما ندر. فالأفلام العربية تعبر فقط عما يظن صانعوها أنه يمكن أن يجتذب جمهور المشاهدين لدفع ثمن التذكرة في الشباك، أو لشراء نسخة من الفيلم، كي يكسب المنتج إيراداً جيداً.

إذن فالهدف الحقيقي لصناعة الفيلم العربي، بوضعه الحالي وفي الفترة التي تتناولها المؤلفة هيلاور، ليست التعبير عن قضايا المجتمع ولا قضايا صانع الفيلم، بل جذب المشاهد المشتري. ولما كان المجتمع العربي كغيره من المجتمعات ينجذب إلى غير المألوف وغير المعهود لديه، فهو للأسف ينجذب إلى أمثال هذه الموضوعات، وذلك ليس لانحلال كامن فيه، بل لعدم وجود موضوعات بديلة ذات أهمية أكبر أو أولوية أكبر ينشغل بها ويرجع ذلك بدوره إلى تاريخ طويل من التجهيل وانعدام الهادفية، مما لا مجال للحديث عنه هنا.

إذن فقضايا الأفلام العربية هي أبعد ما تكون عما يشغل بال أو ذهن الرجل أو المرأة العربية، بل على العكس تمثل قضايا الأفلام العربية ما يلهي بال العرب، وما يفكههم لفترة من الوقت بعيدا عن الانشغالات الحقيقية لهم.

هذه الحقيقة تجهلها بالطبع المستشرقة الألمانية «هيلاور»، ولكن أغلب العرب المعتادين على مشاهدة الأفلام العربية يعلمونها تمام العلم، ويرفضون أن يتم تكريس حقائقنا التافهة من أجل الوصول إلى استنتاجات غير حقيقية، كما تفعل «هيلاور» في موسوعتها.
---------------------------------
* الألمانية «ربيكا هيلاور» باحثة في علم الاجتماع وتكتب بشكل حر في عدد من المجلات الألمانية.

 

 

 

ربيكا هيلاور* 




 





المخرجة المصرية عزيزة أمير





المخرجة الفلسطينية عزة الحسن





المخرجة التونسية الفرنسية نادية الفاني