من داخل ستديو مصر يقدم
الكاتب رؤيته حول هذا المكان الذي كان واحدا من العاملين فيه. وكل باحث في تاريخ
السينما العربية لا بد أن يذكر بالتقدير دور هذا الاستديو في صياغة وتشكيل ملامح
هذه الصناعة وإسهامه في تطوير تقنيات هذا الفن في الشرق العربي.
كان ستديو مصر هو
المعهد الذي تخرجت في قاعدته معظم الطاقات الفنية والقدرات الحرفية، والمؤسسة التي
أسهمت في إنتاج مئات الأفلام الروائية والتسجيلية على مدى ستين عاما، مشاركا بذلك
في منظومة التثقيف الوطني والتأثير في رؤية الجماهير العربية لتاريخها القديم
والمعاصر من خلال الشاشة الكبيرة التي استحوذت على إقبال شعبي لا نظير له خلال
القرن العشرين. ولأن المجال لا يتسع لاستعراض جميع الجوانب التي تهم القارئ العربي
عن هذه المؤسسة العريقة، ولأنه في المقابل يتعذر أن نتجاهل ستديو مصر ونحن بصدد
تخصيص عدد من "العربي" عن السينما، لذلك لا يسعنا إلا أن نفرد صفحات قليلة نتعرف من
خلالها على بعض المعالم التاريخية والفنية لهذا الصرح العتيد.
وصلتني في عام
1962 عدة عروض من شركات كبرى وبنوك للعمل محاسبا لديها، لكن شيئا ما منعني من قبول
العمل في أي منها، وبقيت أنتظر ولم أكن أعرف بالضبط ما الذي أنتظره.. والمفروض أني
كنت أرغب في عمل يتلاءم وميولي الأدبية والفنية، إلى أن جاءتني رسالة من شركة مصر
للتمثيل والسينما يدعوني فيها مديرها المرحوم موسى حقي شقيق الكاتب الكبير يحيي حقي
للعمل بالشركة، فوافقت على الفور، وكانت هذه الشركة هي نفسها.. ستديو
مصر.
كنت مغرما
بالسينما، لذلك حرصت منذ أول يوم على التعرف على هذا النبع الذي يتفجر منه الفن
الجميل.
كانت جميع
الأقسام تعمل بلا توقف، لأن الاستديو كان ينتج أفلاما لحسابه، ويقدم خدمات فنية
لغيره من المنتجين، وينفذ أفلاما للتليفزيون الذي كان في أغلب برامجه لا يزال
يستخدم آلات السينما قبل أن يدخله الفيديو، كما كان الاستديو يستقبل كبار المغنين
لتسجيل أغانيهم في "الأوديتوريوم" المزود بأحدث أجهزة الصوت، وكان أيضا يشارك في
تقديم مختلف الخدمات الفنية للتصوير الخارجي والداخلي للأفلام الأجنبية التي يتم
الاتفاق على تنفيذها بمصر.
يتكون الاستديو
من الأقسام التالية:
* إدارة
الإنتاج.
* الاستديو رقم 1 (الكبير).
* الاستديو رقم
2.
* الاستديو رقم 3.
* حجرات الممثلين
والممثلات.
* قسم المكياج.
* قاعة التسجيل والمزج
(المكساج)
* قاعة تسجيل الأغاني والموسيقى التصويرية.
*
قسم التصوير ومعداته.
* قسم الصوت ومعداته.
* محطة
الكهرباء الخاصة بالاستديو.
* قسم النماذج المصغرة والخدع
السينمائية.
* معمل التحميض والطبع.
* قسم التوليف
السينمائي (المونتاج).
* قسم الخطوط والعناوين.
* قسم
أعمال الجبس.
* ورشة الحدادة.
* ورشة الكهرباء والأدوات
الكهربائية.
* ورشة النجارة.
* مخازن الملابس
والأزياء.
* مخازن الأثاث والملحقات (الإكسسوار).
*
مخازن الأفلام الخام.
* مخازن الأفلام المعدة للعرض.
*
قسم البحوث والدراسات.
* قسم الإخراج والسيناريو.
*
المطبعة.
* مركز الإطفاء وسياراته.
*
الجراج.
* المكاتب الإدارية والمالية.
تعرفت على أقسام
الاستديو وورشة ومساحته الخارجية التي تتحول في أحيان كثيرة إلى حارات وشوارع
وأسواق عامرة بالحركة والسلع، وتصبح في أحيان أخرى مسرحا للموالد والأفراح الشعبية،
وتجولت بين البلاتوهات تلك القاعات الضخمة التي تشبه العلب، والمجهزة بكل ما يلزم
للتصوير السينمائي الداخلي صوتا وصورة.
بهرتني في ذلك
الوقت كشافات الإضاءة الكثيرة والمتعددة المحلقة في الأسقف ويسهل تحريكها حسب
المناظر وحسب رغبة مدير التصوير الذي يضبط تأثيرها على وجوه الممثلين، وكان باهراً
أكثر رؤية "الكرين" وهو ونش صغير يحمل المصور أو المخرج عاليا، ويهبط به ليدنو من
الممثلين، ثم يبتعد عنهم متحركا فوق سكة حديدية، ويتم كل ذلك في نعومة ورهافة تقدم
في النهاية للمتفرج صورة جذابة، ومشاهد متجدد، من زوايا عديدة دون تغيير
اللقطة.
أحببت الاستديو
وعماله وفنانيه وضيوفه ونظم العمل به، وأساليب التعامل بين الممثلين والفنيين، وكان
كل ما فيه يوحي بالبهجة، ويحفز للإقبال على العمل، حتى أني كنت وزملائي نقضي فيه
عدة ليال دون أن نعود إلى بيوتنا، نمسك الدفاتر ونعد الميزانية بالنهار، ونسهر
بالليل مع التصوير والتسجيل والمكساج والمونتاج وتجذبنا الديكورات التي تجهز وتركب
في آلية وسرعة، ونأسف عندما ينتهي التصوير، ويتحتم هدم الديكور الذي يتكلف عشرات
الآلاف من الجنيهات.
طلعت حرب المؤسس
الأول
كنت قد قرأت عن
الاقتصادي الكبير محمد طلعت حرب (1867 - 1941) الذي اهتم بالشئون الاقتصادية فور
تخرجه من الحقوق عام 1989، برغم أنه كان يعمل مترجما: بقضايا الدائرة السنية خلفا
للزعيم الوطني محمد فريد.. كان طلعت حرب يزداد سخطا كلما علم بأن النشاط الاقتصادي
ورءوس الأموال في أيدي الأجانب.. لذلك فقد وهب نفسه لقضية واحدة ووحيدة هي القضاء
على الاحتكار الأجنبي، وكانت باكورة اهتماماته الفعلية تتمثل في كتابه "علاج مصر
الاقتصادي" الذي أصدره عام 1910.
ثم سعى لجمع
المساهمين لإنشاء بنك مصر برأسمال متواضع، لم يزد على 80000 جنيه مصري وصدر المرسوم
الملكي بتأسيسه في 3 إبريل 1930 وفي نفس العام أنشأ شركة ترقية التمثيل العربي
وأقام لها مسرح الأزبكية (المسرح القومي بعد ذلك) لتقدم أعمالها عليه.
وفي عام 1925
أنشأ شركة مصر للتمثيل والسينما، وهذا العام (1995) تمر على إنشائها سبعون عاما
كاملة، وفي السابع من مارس عام 1934 وضع حجر الأساس لبناء ستديو مصر، وفي الثاني
عشر من أكتوبر عام 1935 أي منذ ستين عاما تم افتتاحه، وكان تابعا لشركة مصر للتمثيل
والسينما إحدى شركات بنك مصر، وهي مجموعة شركات وطنية أخرى مثل شركة مصر للغزل
والنسج بالمحلة الكبرى، وشركة مصر للطيران، وشركة مصر للسياحة وشركة مصر للبترول،
وللفنادق، وللأغذية، والألبان، ولمصايد الأسماك، ولأعمال الأسمنت المسلح،
وللمستحضرات الطبية، ولحلج الأقطان، ولغزل الحرير، والزيوت والتأمين وصباغي البيضا
وغيرها، وكانت جميعها تستهدف جمع أموال مصرية وتوفير خبرات مصرية، وإنتاج سلع مصرية
وتقديم خدمات مصرية.
منطقة هادئة أمام
الأهرام وكان طبيعيا أن تفكر شخصية وطنية تتميز بسعة الأفق وعمق التفكير في
المستقبل أن تحسن اختيار المكان والإمكانات.. يقع الاستديو بين المزارع في منطقة
هادئة بالقرب من أهرام الجيزة على مساحة قدرها ثمانون ألف متر مربع، وهو يضم كل
الآلات والمعدات الحديثة اللازمة لتنفيذ جميع العمليات الفنية.
ولكي توفر الشركة
الخبرات الوطنية أوفدت كوكبة من الشباب المصري لينالوا من منابع الفن في أوربا
وليكونوا دعامة قوية تقوم بها صناعة السينما في مصر على أساس من العلم والخبرة
والمران، ففي عام 1933 انطلقت أول بعثة سينمائية إلى الخارج وتتكون من أربعة أفراد
هم: أحمد بدرخان وموريس كساب لدراسة الإخراج في باريس، ومحمد عبدالعظيم لدراسة
التصوير في برلين، وتبعهم حسن مراد لدراسة فنون إعداد الجرائد السينمائية في فرنسا
وإيطاليا وألمانيا، وانضم إليهم بعد ذلك المصريون الذين يدرسون السينما بالخارج على
نفقتهم الخاصة ومنهم نيازي مصطفى ومصطفى والي، وقد عين الممثل المعروف في ذلك الوقت
أحمد سالم أول مدير للاستديو.
وقد كانت السينما
قبل ستديو مصر مجرد جهود فردية متناثرة وعاجزة وإن تمتع أصحابها بالارادة والإخلاص
وحرارة الموهبة، لكن المؤكد أن الامكانات كانت محدودة والاستديوهات بدائية، فقد
صورت عزيزة أمير فيلمها الثاني "بنت النيل" في فيلتها، وسمتها ستديو هليوبوليس،
وقام توجو مزراحي بتحويل صالة عرض سينما باكوس بمدينة الاسكندرية إلى بلاتوه
للتصوير عام 1929، لكن الحافز الأساسي الذي دفع طلعت حرب إلى التفكير في ستديو مصر
هو غلبة العناصر الأجنبية العاملة في هذا الحقل وهو يريده أن يكون مصريا من الألف
إلى الياء ولو على مراحل.
ومن أبرز رجالات
السينما المصريين قبل إنشاء ستديو مصر محمد بيومي الرائد الحقيقي للسينما في مصر،
وتحتاج جهوده إلى وقفة خاصة.
بدأ ستديو مصر
بإنتاج أول أفلامه بقصة مصرية هي "وداد" بطولة أم كلثوم وأحمد علام، واخراج
الألماني فريتز كرامب، ولم ثمة مفر من ذلك لأن الاعتماد على مخرج مصري في ذلك الوقت
المبكر وفي أول أعمال الاستديو ربما بدا للبعض وخاصة من المساهمين برءوس الأموال
أمرا يصل إلى حد المخاطرة. على أية حال كان المساعد الأول للمخرج الألماني المخرج
المصري جمال مدكور، وقد مثل الفيلم مصر لأول مرة في مهرجان فينيسيا الدولي (1936)،
وتناهى إلى الأسماع أن بمصر إنتاجا سينمائيا وصل برغم بدايته المتواضعة إلى
المشاركة في مهرجان عالمي، وبهذا يعتبر افتتاح ستديو مصر بداية عهد جديد في تاريخ
السينما العربية.
وقد بدا واضحا ما
يتميز به القائمون على الأمر في ستديو مصر من الوعي الفكري والفني الذي ساعد في
تشكيل رؤيتهم لطبيعة الدور الذي يتعين أن ينهض به الاستوديو كمؤسسة من المؤسسات
الثقافية والفنية ذات التأثير الواسع في الجماهير، لذلك حاولوا تقديم أفلام تتناول
المشكلات التي تؤرق الناس وتكبل خطوات الأمة التي تحلم بالتقدم والحرية.. نذكر من
نوعية هذه الأفلام: لاشين، العزيمة، سيف الجلاد، الحياة كفاح، السوق السوداء، أرض
النيل، البيت الكبير، أولاد الشوارع، وغيرها.
وحاول ستديو مصر
تشجيع الطاقات الفنية ذات الخبرة والتجربة واكتشاف المواهب الجديدة، والاستعانة
بكبار الأدباء والفنانين لتقديم أعمال أقل ما تتسم به الجدية والحرص على القيم
ومعالجة الكثير من أوجه القصور في حياتنا الاجتماعية، ومن أهم الأفلام التي أنتجها
الاستديو:
اسم
الفيلم |
إخراج |
السنة |
سلامة في
خير |
نيازي
مصطفى |
1937 |
لاشين |
فريتز
كرامب |
1939 |
العزيمة |
كمال سليم |
1939 |
سي عمر |
نيازي
مصطفى |
1941 |
سيف الجلاد |
يوسف وهبي |
1944 |
غرام
وانتقام |
يوسف وهبي |
1944 |
السوق
السوداء |
كامل
التلمساني |
1945 |
النائب
العام |
أحمد كامل
مرسي |
1946 |
شبح نصف
الليل |
عبدالفتاح
حسن |
1947 |
فاطمة |
أحمد
بدرخان |
1947 |
الكبير |
أحمد كامل
مرسي |
1948 |
بيومي
أفندي |
يوسف وهبي |
1949 |
الصقر |
صلاح
أبوسيف |
1950 |
لحن الخلود |
بركات |
1952 |
قطار الليل |
عز الدين ذو
الفقار |
1953 |
الله معنا |
أحمد
بدرخان |
1955 |
ومع نهاية
الخمسينيات من القرن العشرين بدأت الخسائر تتوالى عاما بعد عام وفي عام 1960 توقف -
تقريبا - ستديو مصر عن إنتاج الأفلام، ولكنه لم يتوقف عن تقديم الخدمات لشركات
الإنتاج الأخرى التي بدأت في الظهور بكثرة وقوة. وفي أوائل 1962. تقرر تصفية
الاستديو وتحديد وضعه المالي، ثم تسلمته شركة حكومية وليدة في يناير 1963 هي الشركة
العامة لاستديوهات السينما، تمتلك استديو مصر وغيره من الاستديوهات..
وتمر الأيام
وستديو مصر يواصل دوره الفني وعطاءه في حقل السينما العربية التي أصبحت تغذيها
وتنهض بها ستديوهات أخرى كثيرة خاصة وعامة.. لكنها - جميعا - تشعر أنها امتداد أصيل
وطبيعي لنهر كبير هو.. ستديو مصر.