محمد شكري وجهاد فاضل

محمد شكري وجهاد فاضل

  • نحن نتحدث عن الديمقراطية لكننا نعيش القمع ونمارسه
  • الكتابة متعة ولولاها لشخت قبل الأوان
  • الحب تعرى كثيرا وفقد سحره في هذه الأيام

يؤلف القاص والروائي المغربي محمد شكري ظاهرة أدبية لافتة للنظر، فهو يستمد مادته الكتابية من عالم الليل أكثر مما يستمدها من عالم النهار، من عالم لم تألف الكتابة العربية التعبير عنه بصراحة، كما لم تألف مجتمعاتنا العربية معالجته معالجة مكشوفة وعلمية في آن، ولذلك ينظر الناس إلى محمد شكري على أنه كاتب خارج على شرعة الآداب السائدة، وهو كاتب جاء متأخرا نسبيا إلى الكتابة، فحتى الواحدة والعشرين من عمره لم يكن محمد شكري يعرف القراءة والكتابة، كما لم يكن يعرف من هذا العالم سوى عالم الليل في مدينة طنجة المغلفة بالأسرار والغرائب، ولكنه ما أن عرف كيف يفك الحرف حتى أقبل على القراءة بنهم، فقرأ بالعربية كما قرأ بالفرنسية حتى أصبح بعد ذلك كاتبا مشهورا، خارقا بذلك طبقة المثقفين المتخرجين من جهاد فاضل المدارس والجامعات التي لم تطأها قدمه يوما، ومتفوقا على الكثيرين منهم بذلك المخزون الشعبي الذي حصله من خلال معاشرته للفئات المهمشة التي تجد في حياة الليل ملاذها الحقيقي. لمحمد شكري كتب كثيرة، روايات أو قصص قصيرة أشهرها "الخبز الحافي" التي روى فيها بعضا من سيرته الذاتية، وكتبه كثيرا ما تصادر، ولكنه يعيد طباعتها سرا كما يتولى تصريفها بنفسه أحيانا، وهي كتب تلقى رواجا كبيرا، كما تلقى عناية خاصة لدى الأجانب الذين اطلعوا عليها مترجمة إلى لغاتهم لأنهم وجدوا فيها مدخلا إلى دراسة اجتماعية اقتصادية لمجتمعاتنا. وفي هذه الكتب يسمي محمد شكري الأشياء بأسمائها، فلا لف ولا دوران، ولكن دون التضحية بالمستلزمات الفنية للكتابة، وفي هذه المواجهة يحاوره الكاتب اللبناني جهاد فاضل.

قال محمد شكري عن سبب الاهتمام بأعماله: - سبب الاهتمام بـ "الخبز الحافي"، وبسواها من أعمالي هو أن السيرة الذاتية في العالم العربي محدودة جدا، كتبها طه حسين وأحمد أمين وعبدالمجيد بن جلون، وهو مغربي، ولكن هذه السير الذاتية الثلاث كتبت بشكل يطغى عليه الإنشاء، أو كتبت بأسلوب كلاسيكي، أما سيرتي الذاتية فهي أكثر من سيرة ذاتية، فيها نوع من الاعترافات، وهذا موجود طبعا في الأدب العربي ولكن كشذرات فقط، أما كعمل مكتمل بذاته فهو غير معروف، وربما أولى الكاتب الغربي هذه الأهمية لكتاباتي لأنه تعجب أن يكون هناك كاتب عربي استطاع أن يقول ما قاله عن نفسه وعن أسرته وعن مجتمعه.

  • وكم بلغت نسبة الصراحة والاعترافات فيما كتبت؟ هل أخفيت؟ هل خجلت من كتابة شيء حين فكرت للحظة أن تحجبه؟

    - عندما كتبت "الخبز الحافي " كنت متأثرا بالسير الذاتية الغربية، قرأت طبعا اعترافات جان جاك روسو، والكتابات الذاتية لسيمون دي بوفوار في "قوة الأشياء"، "مذكرات فتاة رصينة"، وقرأت لجيمس جويس "صورة الفنان في شبابه "، ولسومرست موم "عصارة الأيام"، ولكولن ولسن "رحلة نحو البداية"، وقرأت سواها، وهذه السير مكتوبة بجرأة، أنا حاولت أن أتحرر من "التابوهات" المحرمات المفتعلة، التي تشكل سلطة علي رقبة الكاتب، ومادام الأمر كذلك فالكاتب لا يستطيع أن يبدع، تأمل الفرق بين جان بول سارتر وتوفيق الحكيم، لو كان توفيق الحكيم متحررا من سلطة هذه التابوهات لأصبح من كبار المفكرين أو الفلاسفة، ولكنه عاش في مجتمع يفتقر إلى الديمقراطية، نحن نتحدث عن الديموقراطية ولكننا نعيش القمع ونمارسه.

    هناك من يقول إننا نستورد تقنيات لا تلائم مجتمعاتنا لأن العالم العربي يتشكل من يوم لآخر، وفي نفس الوقت نحن نستورد البنيوية والأسلوبية والألسنية وكلها أشياء لا تلائم المرحلة التي نعيشها.

  • هل تشكل الكتابة صورة صادقة لحياتك؟

    - بالنسبة لي نعم، معظم كتاباتي أستمدها من نوعية الحياة التي عشتها أو أعيشها، ولكن هذا لا يعني أن كل حادثة أعيشها أكتبها كما هي، لا بد من تراكم التجارب، أن تكون لدي تجارب لا تحصى، يلزم الكاتب ألف تجربة، لكي يكتب عن تجربة واحدة، أنا لا أعيش اللحظة ثم أكتبها في اليوم التالي، هذه ليست كتابة، لا بد من تراكم، لا بد من تخزين وتكثيف التجارب في عمل واحد، ولا بد من فنية واحدة يختارها الكاتب بعد أن يكون قد تمثل أساليب عدة، لا أستطيع أن أقول إنني متأثر بهذا الكاتب أو بذاك، ربما في المراحل الأولى التي كنت أحاول أن أكتب بها قلدت بعض الكتاب ولكني تخلصت بعد ذلك من التقليد واحتفظت بما يسمى الإعجاب، أنا أعجب بكتاب كثيرين، ولكني لا أقلد أحدا.

    ملاحظات على الرواية

  • هل لك ملاحظات على الرواية العربية؟

    - معظم الروائيين العرب وقعوا أسرى الالتزام، والتزامهم يتضمن الكثير من المباشرة، هم يعالجون موضوعاتهم بطريقة مباشرة طاغية، ولا يولون الأهمية للتقنيات الرفيعة، أنا أفضل التقنية على التطرق إلى الموضوع بصفة مباشرة، وهناك كلمات لا يمكن أن أستخدمها في قصة أو رواية، تقرأ رواية عربية فتجد فيها مثلا: "خصوصا وأن.."، أو "نظرا لأن.."، وهناك أيضا طريقة الحوار أو السرد، قلة هم كتاب القصة أو الروائيون الذين يجسدون اللحظات، هناك الكثير من السرد والوصف والتقرير، بينما الرواية المعروفة في تقنياتها المتقدمة عند الغربيين، هي غير ذلك تماما، أما الأساليب المستخدمة عندنا اليوم فقد أصبحت متجاوزة عندهم منذ زمن بعيد.

    لم تصل الرواية العربية بعد إلى مستواها الرفيع، إنها ما زالت تجري وراء التقليد، ما زال الكاتب العربي يكتب وهو يحاول أن يقلد تقنية كاتب آخر.

  • وهل تعتقد أن علينا أن نصل يوما إلى رواية عربية كما يقول بعضهم؟

    - طبعا، ولكني لا أستطيع أن أحدد تماما، ومنذ الآن، عروبة هذه الرواية، الرواية العربية ستصل يومان وبنفسها إلى مستواها العالي فتكون لها خصوصية عربية وتقنية عربية، لماذا لا، أنا أعتقد أن الشعر في العالم العربي هو من حيث التقنية والأساليب المتنوعة، متقدم على القصص والروايات رغم أنه ليس مقروءا بكيفية شعبية كما هي الرواية أو القصة، إن تقاليد الشعر أعمق من تقاليد الرواية عندنا.

  • وتقاليد الكتابة؟

    - الكتابة متعة، ولولا الكتابة لشخت قبل الأوان، هي نوع من التسامي إذا شئنا، لأن العالم مملوء بالقذارة، وهي نوع من التسامي لكي ينظف الإنسان نفسه من هذه القذارة، ومن التكالب على الماديات. في الكتابة يستمد المرء الكثير من السمو لمواجهة ما لا يحتمل، الحقيقة أن الحياة لا تعاش إلا باحتمال مثير، لا تعاش بنفس الشهوة التي يريدها الإنسان، المنغصات كثيرة جدا في حياتنا، ولكي يتجاوز المرء هذه المنغصات فإن الكتابة هي أفضل نحرج، إنها نوع من الإنقاذ، بواسطتها ينقذ المرء نفسه من التلوث.

  • أحد الروائيين اللبنانيين، وهو توفيق يوسف عواد، كان يقول: إنه يعامل "الكلمة" كما يعامل المرأة، ويدللها كما يدلل المرأة، يعاملها برفق، يقلبها بين يديه، يختار هذه ويدع تلك، وكان كاتب لبناني آخر هو أمين نخلة يقول: إن على الكلمة أن تنزل منزلها فلا تكون قلقة في موضعها..

    - ولماذا نعامل الكلمة كالمرأة؟ وهل المرأة تحتاج أصلا إلى تدليل الرجال؟ إن معاملة الرجل للمرأة بهذا النوع من التدليل واللطافة، تنقص من قيمتها الإنسانية، هناك نساء أعرفهن، لا يردن أن يعاملن بهذا التدليل لأن فيه إنقاصا للشخصية، ليست المرأة مكنسة من زجاج يخشى أن تنكسر إذا شطرنا بها الغبار.

    أنا أختلف مع توفيق يوسف عواد في رأيه، أنا لا أعامل الكلمة ككائن ينبغي أن أربيه، لأن الكلمة ينبغي أن نتعامل معها على أنها شيء حي، أن نعطيه أفضل ما يستحق من التربية والعناية، ولكن التربية والعناية لا تعني التدليل، في التدليل ميوعة وخنوع، أنا أتعامل مع المرأة كما يتعامل المثال مع تمثاله، أتعامل مع الكلمة بنوع من النحت، أنحت الكلمة بكلمة أخرى، أحاول أن أكتب بأقل ما يمكن من الكلمات مع منتهى التفكير والروية، وفي أقل ما يمكن من الكلمات، على الكاتب أن يختزل خمس سنوات من التجربة في جملة واحدة، الكتابة هي نوع من تجميع عدة تجارب في تجربة واحدة.

  • هناك نوعان من الكتابة الروائية العربية الآن: كتابة روائية تهتم باللغة، بموجبات الأدب والفن، وكتابة أخرى خالية من كل موجبات الأدب والفن، كأن هذه الكتابة الأخيرة تعتمد منطق: اكتب كما تتكلم، أو كما تثرثر على الأصح.

    - هذه الكتابة الأخيرة كتابة فقاعية.. كتابة تتخلق بسرعة ثم تنطفئ بسرعة، في رأي أنه لا يمكن أن نقول "كتابة" إلا ونذكر اللغة، أنا لا أتعامل مع اللغة كتفسير، ولا أخاف من القواعد العربية المضبوطة في القواميس والكتب النحوية، التعامل مع الكتابة كتفسير أو كتبليغ، هو نوع من الكتابة المرحلية، تنتهي بنفس السرعة التي نشأت بها، هناك مبدعون يظلون يبحثون عن صيغة لجملة واحدة مدة أيام، الكتابة بهذا النوع الفوتوغرافي تدغدغ المشاعر، لكنها لا تعمق لك الفكرة التي تبحث عنها.

    ما يحكى وما يكتب

    هناك قصص أعرف كيف أحكيها، ولكنى لا أعرف كيف أكتبها، ثمة قصص تحكى ولا تكتب، ثمة قصص أو روايات تكتب ولكني لا أعرف كيف أحكيها، لأنه ليس فيها طريقة حكي، حيث تكون ذهنية او تداعيات، هذا النوع من القصص يكتب ولا يحكى، وأنا عندي، عشرات القصص في ذهني أحكيها، ويقولون لي لماذا لا تكتبها، وأقول لهم إنني لم أجد بعد التقنية لكي أعبر عنها..

  • عندما تكتب هل تختار كلماتك بعناية؟ هل تختار هذه الكلمة وتدع تلك؟

    - طبعا أختار هذه الكلمة وأدع تلك، وأنشغل كثيرا بالقواميس للدقة، لدقة التعبير عن شيء ما، مثلا أنا كنت منذ فترة أريد أن أعبر عن وردة ما ولم تكن في ذهني فعبرت عنها باللثينيات "عبارة عن لثينيات الزهرة"، بحثت في القاموس فوجدت أسماء النوريات وسواها، كل كلمة كنت أحاول ما أمكن أن أبحث عن أصلها الدقيق، اللغة العربية معروفة بهذه الدقة في التعبير، أقول شربت كأسا ولكن لا أقول شربت قدحا لأن القدح يكون فارغا ولا يصير كأسا إلا إذا ملئ حسب ما عرفت وسمعت. اللغة تتطلب الدقة والكتابة هي تصحيح مفاهيم الحياة، الكتابة لا تأتي هكذا للتسلية، إن فيها نوعا من التصحيح، إعطاء مفهوم نظيف لطيف للحياة.

  • ولكني لاحظت أنك تكتب بلغة هي وسط بين الفصحى والدارجة، لغة شبيهة بلغة ألف ليلة وليلة في القديم، وهي لغة وهب لها حظ البقاء في حين أن الذين كتبوا بلغة رفيعة وأنيقة كالهمذاني والحريري لم يصادفوا الرواج والنجاح المطلوبين.. فهل تعتقد أن الكتابة "الرسمية" الرفيعة المعاصرة ستتهافت مع الوقت لحساب اللغة الوسط أو اللغة السوقية؟

    - دانتي كتب الكوميديا الإلهية بلغة إيطالية كانت تعتبر في زمانه دارجة، ولكنها أصبحت هي نفسها كلاسيكية، لغة ألف ليلة وليلة الآن أصبحت لغة كلاسيكية بالنسبة إلينا.

    أنا حاولت ما أمكن في بعض الكتابات أن أكتب بلغة ثالثة، وهذا المصطلح أطلقه توفيق الحكيم على كتاباته، هذه اللغة لا هي فصيحة ولا هي دارجة، إنها لغة الوسط، ولذلك أقول لهذا السبب بعت في حوالي سنة ونصف عشرين ألف نسخة، وهو أمر نادر أن يبيع كاتب في المغرب عشرين ألف نسخة في سنة ونصف سنة، لماذا؟ لأن اللغة التي كتبت بها هي في مستوى إدراك الجميع، يقرأها المطرود من المدرسة، ماسح الأحذية، المرأة التي سبق لها أن درست سنتين أو ثلاث سنوات، يقرأها المهندس، والطبيب، إلى آخره.. فئات متعددة، أسلوب هذه الكتابة سهل، ولكن تجربته لا أقول عميقة، بل مهمة، لا تنس أن الحياة التي تبحث فيها هذه الكتابة هي الحياة المهمشة تلك الحياة التي كتبت عنها كانت حياة مشتركة، كلنا أولاد دور صغيرة، وأصحاب الفيلات أو أبناء الباشوات أو عملاء الاستعمار، كانوا قلة، اليوم هؤلاء الذين كانوا يسكنون في الحارات البائسة، أو في الدور الصغيرة، هم الذين أصبحوا مهندسين وأساتذة وأطباء ومحامين إلى آخره.

    الفقر تغير

    كتبي لم تكن غريبة عن مجتمعي، وتجارب الطفولة والمراهقة، تجارب الفقر، طغيان الأبوية في كتاباتي، أي الخلافات العائلية، كنا نعيشها بكيفية مشتركة، وما زلنا نعيشها، إنما الفقر تغير، لم يعد فقرا مدقعا كما كان، كان الناس يأكلون الأزبال، كنا نأكل قشور البطيخ وما إليها، اليوم صدقني إذا قلت لك إنه لم يعد أحد يطلب خبزا، بل أصبح السائل يحدد لك نوع الصدقة، فيقول لك أعطني درهما، أو درهمين، أو خمسين سنتا.. لم يعد الفقراء يدقون على الأبواب طلبا للخبز والأكل، هم يطلبون النقود. الفقر تغير.. ولكنه مازال موجودا، ما زال الجهل موجودا، البطالة كذلك، ولكن الناس يعيشون، كيف؟ الله أعلم.. كل له طريقته..

  • هل تجد فرقا بين الحب السائد في عصرنا اليوم والحب كما كان سائدا من قبل؟

    - من قبل كان الحب يتم بشكل أكثر صفاء ونقاء من اليوم، كان المرء يهيئ نفسه لحب امرأة بشكل يختلف عما نراه اليوم، اليوم الحب ينشأ بسرعة كبيرة جدا، ينشأ في المقهى وفي السينما ثم يزول بسرعة، من قبل كان أكثر نقاوة، أكثر صفاء، كان ينشأ بين الطبيعة، تحت شجرة في الحقل، في الدروب الخفية، الحب تعرى كثيرا، ولم تعد علاقة الرجل بالمرأة علاقة حب، لم يعد لتلك العلاقة نوع من السحر، ذلك السحر اختفى، العلاقة تتم بشكل فقعي، إنها علاقة فقعية، تشتعل بسرعة وتنطفئ بسرعة، معظم العلاقات بين الرجل والمرأة تتم لمصلحة، هناك مثل إسباني تعريبه هو: أنا أخلق فيك مصلحتي وأنت تخلق في مصلحتك.

    إن الكثير من حالات الزواج تتم لمصلحة، أجر يتزوج بأجر، وسلطة اجتماعية تتزوج بسلطة اجتماعية، لقب عائلي يتزوج بلقب عائلي، هناك حالات لا تحصى من الزواج قائمة على المصلحة الشخصية، المادية أقصد، وليس عن حب من غير مصلحة، في معظم الحالات، هناك طبعا حالات استثنائية، وهذه الحالات الاستثنائية هي ما يطلق عليها اليوم الحالات الرومانسية، عندما نرى شخصا يهتم بامرأة بشكل نقي نظيف نعتبره متخلفا أو رومانسيا.

  • هل أشقتك المرأة أكثر أم أسعدتك؟

    - من حسن حظي أنني لما بلغت المرحلة التي كان لا بد لي فيها أن تكون لي علاقة، لم تكن المسألة معقدة جدا، أنا لم أشق مثلا في قصة حب.

    قضية الحب أنا لم أنشغل بها كثيرا، بصراحة، ولكن عندي علاقات ودية، أو علاقات صداقة مع نساء، لكن بدون شقاء، بدون تعذيب، لا بالنسبة إليها ولا بالنسبة لي، مسرحية التعذيب انتهى أمرها، يريد المرء أو لا يريد، وهذا هو الموضوع، فلماذا التعذيب، تلك المتاهات، البحث بشقاء، تلك قضايا عفا عليها الزمن أو العصر، العلاقة إما أن تنتهي بحب وبسهولة، وإما ألا تأتي، لا أشقى، قلبي لم ينبض كثيرا تجاه امرأة بهذا النوع من التعذيب.

  • هذا الحب الذي ترسم صورته هو الحب الشائع اليوم، هو الحب العصري..

    - الحب ضعف بشري يتناوب الرجل والمرأة، أنا أذهل عندما أرى شخصا يبكي أو ينتحر أو يتعذب أو يضرب عن الطعام من أجل قصة حب، هذا النوع من الحب أعتبره ضعفا، نوعا من الماسوشية ينبغي للإنسان أن ينتصر عليه..العلاقة بين الرجل والمرأة ينبغي أن تكون قائمة على صراحة، على قوة، وليس على ضعف.

  • هناك من يعقد صلة بين بودلير وبين أبي نواس، أنا الآن أعقد صلة بين بودلير وأبي نواس ومحمد شكري، أبونواس كان ابن مدينة، بغداد في عصر ازدهار وحضارة، بودلير ابن باريس في فترة صعودها ونهضتها المعاصرة، لم يكن الاثنان من الشخصيات الريفية، كانا من أبناء المدن، محمد شكري الآن هو ابن طنجة المدينة المعاصرة الواقعة على مفترق قارات والتي فيها من الحضارة الحديثة الكثير، في حين أن جذوره الريفية قد انقطعت وتلاشت.

    - المقارنة صعبة جدا، صحيح أن أبا نواس ابن بغداد وبودلير ابن باريس، وأنا ابن طنجة، لكن لا أرى أن هناك علاقة منسجمة بين هذه الأسماء، مع الأسف إن الناس يتعاملون معي كظاهرة، وليس كقيمة أدبية، وهذا خطأ، فأنا لست بهلوانا وينسبون إلي كثيرا من الأشياء التفسخية والإباحية والخلاعية أنا بريء منها، أنا قد أعاشر فئة إباحية متفسخة منحلة أخلاقيا، ولكني في الواقع في حياتي الشخصية لا أمارس هذا النوع من الخلاعة ومن الإباحة، على الإطلاق، وإذا كان هناك أناس يبالغون في تفسير هذا النوع من الكتابة، فأنا بريء من اتهاماتهم.

    لكن لا أرى هذا النوع من العلاقة بيني وبين أبي نواس وبودلير، كوني أصبت بهذه المشكلة أو تلك، فهذا لا يفسر على ضوء المقارنة مع حياة أبي نواس أو بودلير.

  • ولكن الصلة يمكن أن تنعقد في السيرة، وكذلك في الأدب.. بودلير تحدث عن جماليات القبح، أبونواس كذلك وأنت أيضا، من الناحية الأدبية والفنية، المقارنة ممكنة كما ترى..

    - ولكني لا أريد أن أقول هذا الكلام عن تواضع زائف، أنا لست في مستوى أبي نواس ولا بودلير، هما أكبر مني بكثير، أنا قد أكون كبيرا بين الصغار، أو قد أكون صغيرا بين الكبار، ولكن أنا- قطعيا- لست بقيمة بودلير أو أبي نواس، حتى الكتابة جاءت مصادفة، أنا لم أخترها، بينما هم اختاروا أن يكونوا أدباء وشعراء، هم أكلوا حساءها وهم يقرأون ويكتبون، بالنسبة لي جاءت الكتابة نوعا من التحدي للخروج من فئة معينة كانت جاهلة، أردت أن أتعلم كيف أقرأ وأكتب، قرأت الجرائد والمجلات والكتابة جاءت مصادفة، جاءت أيضا كتحد، كنت أجلس في المقهى وكان يدخل شخص أنيق جدا اسمه محمد الصباح، فسألت شابا كان يجلس إلى جانبي، من هو ذلك الشخص قال لي إنه كاتب، اشتريت كتيباته الأربعة الصغيرة، قرأتها في ليلة واحدة، وفي الصبيحة قلت إذا كانت الكتابة بهذا الشكل، فأنا سأصبح كاتبا، وبدأت أكتب بعض الخربشات، وتعرفت على هذا الكاتب وكنت أعطيه بعض كتاباتي، فشجعني على المضي في الكتابة وأدركت بما أننا كنا نسكن في كوخ وأسرتي لم يكن لها اسم عائلي معروف، فقلت: إذن الكتابة امتياز، إذا صرت كاتبا..إذن الناس سيحترمونني.

    الكتابة أنثروبولوجيا

    الكتابة كانت نزوة، لكن فيما بعد أدركت أن الكتابة يمكن أن تكون قضية مرفوعة ضد المستغلين في المجتمع. لكن فيما بعد أدركت أن الكتابة ينبغي أن تستغل ضد المستغلين.

  • - ثم سرت في تيار "الالتزام"..

    - طبعا أنا لا أدافع عن كل القضايا، أنا أعتبر أن الكتابة طبقية، أنا لا أستطيع أن أكتب مثل مارسيل بروست أو همنغواي أو مالرو أو سارتر، هؤلاء لهم شروطهم، أنا شرطي الاجتماعي أو قضيتي أو طبقتي تختلف عن شروطهم وقضيتهم وطبقتهم، أنا لا أستطيع أن أكتب كتابة مثل جويس مثلا أو فرجينيا وولف.

  • ولكن كتابتك وإن عبرت عن طموح طبقة، فهي تعبر أيضا عن نقلة جديدة للمجتمع المغربي النامي..

    - طبعا، أي كتابة فيها نوع من الأنثروبولوجيا، دراسة الإنسان في مكان معين، في زمان معين، في حضارة معينة هي نوع من الأنثروبولوجيا، والكاتب عندما يكتب لا يكتب عن الإنسان فقط، بل يكتب عما يحيط بالإنسان من الأشياء، كيف يلبس، كيف يأكل، نوع من الأنثروبولوجيا.

 



أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




محمد شكرى





جهاد فاضل





جان جاك روسو





سيمون دي بوفوار





أحمد أمين





طه حسين





توفيق الحكيم