الأساس الاجتماعي للغة أحمد علبي

إن اللغة حاجة إنسانية، لا تعادلها حاجة أخرى في الأهمية والخطورة، لأن القوم المتكلمين بها يفكرون بواسطتها وينفعلون. إنها عالمهم الروحي والاجتماعي، ومفرداتها هي تمتمات نفوسهم في حالات الفرح والأرَق، الطمأنينة والهياج، والإبداع والنَّكَسات. لذا فإن الدارسين للقومية عوّلوا على هذا العنصر، كمقوّم أساي يميّز أمّة عن أمّة.

لا لغة من غير فكر، كما أنه لا فكر من غير لغة. إنها الوعاء الحامل لأفكارنا وخَلَجاتنا، ولكنها ليست مجرد وعاء محايد يتشكّل وَفْقَ ما يُصَبّ فيه، ويتلوّن بحسب المادّة التي يحتضنها. فعندها تصبح اللغة حقيبة حمّالة، في حين أن هناك عملية تجاذب وجدل حميمين، بين اللغة والفكر، يأتلفان عبرها، بحيث يصير الفكر لغة وتغدو اللغة فكراً، ولا أسبقيّة لأحدهما على الآخر.

اللغة للإبانة والإيصال

تحتضن اللغة كل جديد يطرأ على الحياة، واللغة الحيّة هي التي تفتح صدرها لتلقّي هذا الجديد الدائم، سواء نزل ساحتها في لّبُوسه الأصلي أو المعدَّل، أم ارتدى لباس تلك اللغة المستقبلة. وفي الحالين فإن اللغة، ذات الديناميّة، لا تضيق بأيّ مصطلح أو لفظ أو عبارة، لأن اللغة وسيلة وليست غاية في حد ذاتها. إنها وسيلة للإيصال، وللإفهام، وللتواصل الفكري والوجْداني. فكما قال ابن خَلْدون، في معرض كلامه على اللغات: " وكل منهم متوصّل بلغته إلى تأدية مقصوده والإبانة عماّ في نفسه، وهذا معنى اللسان واللغة". لهذا فإن اللغة، ذات الحضور والفاعليّة، تقبل كل وافد جديد عليها وتهضمه، وذلك حَسب طبيعتها وقوانينها المتواترة، لأن لكل لغة خصائص تكوينية لا مفرّ من مراعاتها. وما قد يصحّ على لغة، من حيث النحو وتركيب الجملة والكلام، قد لا يتلاءم مع "سانتكس" لغة أخرى. فكما أن لكل إنسان إطلالة متفرّدة ولون عينين ونبرة صوت نعرفه بها، هكذا اللغة تتمايز عن غيرها بإيقاعاتها وجمالاتها.

إن اللغة أداة مشتركة للنطق، متعارَف عليها، يخضع لها الجميع في مخارجها وطريقة تأديتها، وفي حركات إعرابها، كما في العربية وهي اللغة المعرَ َبة. لذا فمن خرج على هذا السياق- عن جهل، أو لأنه عيي قد أصابه خلل في لسانه- فإنه يكون عرضة للهزء ولألوان المكر به. وكان العرب يعتبرون مَنْ يلحَنُ - أي يخطئ في حركات الإعراب - كأنه يطعن في كرامته. واللغة لا تخضع لمشيئة هذا أو ذاك، مهما علت رتبته وبلغت سطوته، لأنها، تاريخياً وعَبر مئات السنين من التطور الداخلي، استقامت لها صيَغ وقوانين ينبغي مراعاتها والأخذ بها. أما التطَور فمحتوم، ولكنه حاصل من داخل اللغة ووَفْقَ ما انتهت إليه من آليّة.

الأساس المادي للغة

إذا ما تتبّع المرء العبارات الشائعة في لغة ما، يجد أنها نتاج أوضاع اجتماعية وجغرافية وثقافية، عاشتها هذه اللغة في محيطها الذي شاعت فيه. مما يعني أن اللغة لصيقة بالحياة، وبحركة المجتمع، وبالنشاط الاقتصادي للإنسان. من الشائع في العربية أن تقول لأحدهم، متمنياً له الطمأنينة والسرور: أثلجَ اللهُ صدرك. وقد أثلجَ صدري خبر وارد، أي جلب لي الشفاء وسكنني. وثَلَجَتْ نفسي به أو إليه، أي وجدت الراحة والاطمئنان وسكن قلبي إليه ووثقت نفسي به. وفي حديث لعمر بن الخطّاب : حتى أتاه الثَّلجُ واليقين. وأثلجَه بمعنى فرّحه، والثُّلْجُ أي الفرحون بالأخبار. ولكن هذا التمنّي المُثْلج انبثق من محيط حارّ في الجزيرة العربية، وهو يتفق والمَناخ الصحراوي، ويعبّر عن هذا التَوْق الملهوف إلى البرودة وعماّ يرطّب الصدر الذي يزفر أنفاسًا حرّى. ونخال أن هذا الدعاء للمرء ينقلب دعاء عليه في بيئة تعمر بالبرد والثلوج، ولكان من المفترض أن تغدو الصيغة على نحو عكسيّ، كأن نقول: أسخن اللهُ صدرك، لأن النار والحرارة والدفء هي ما تتشوّق إليه النفس المقرورة. في حين أن في كلام العرب: أسخنَ اللهُ عينه، أي أبكاها من الحزن بدموع حارّة، مشتقا من السَّخُون أي الماء الحار. فكل ما هو حارّ، في بيئة العرب الأوائل، يُسخط ويُبكي، ولا يشير البتّةَ إلى اغتباط وحبور.

فاللغة ظاهرة اجتماعية صميمة، وهي تتأثر، تلقائيًا، بما يتوالى على المجتمع من تبدّلات وتحوّلات، لأنها تسري على الجميع فيشتركون بالاستعانة بها في مختلف مجالات حياتهم. حتى ليمكننا القول إنها مشاع عام، لا يحق لشريحة اجتماعية أن تدّعي ملكيتها لها دون غيرها من شرائح المجتمع، وذلك لأن اللغة، بطبيعتها وبدورها وبالوظيفة التي تؤديها، تشمل الناس كافّةً، وضيعهم ونبيلهم، مرءوسهم ورئيسهم، فقيرهم وغنيّهم. فيا لها من أداة حققت المساواة، في حين سعى الإنسان الناطق بها، وبدوافع طبقية، إلى محاولة الخروج على هذه المساواة، في بعض بقاع الأرض، كالهند واليابان وبورما، إذ أنفَ هذا الإنسان، وهو الذي يعتبر نفسه سيّداً إلهًا، أن يتساوى، في بعض ضروب النطق والكلام، مع من ينظر إليهم على أنهم خدمه وعبيده. وحتى في هذه النقطة الرافضة يتضح لنا كيف أن تاريخ اللغة من تاريخ الإنسان وقواه المنتجة وأدواته التي توسّل بها في صيده ورعيه وزرعه وتجارته وصناعته، ومن تاريخ تقاليده التي تقلّب فيها بين حال وحال. فاللغة سجلّ لظروف الإنسان الدينية والحضارية، ولما توالى عليه من حالات اجتماعية وذهنية ومن ضروب النفسيات والمعتقدات.

ديناميّة العربية وديمومتها

وهذه العربية نشأت في مهاد الجزيرة، ثم ارتحلت مع الفاتحين إلى أقاصي المعمورة، وورثناها نحن في العصر الحديث لغتنا الأم التي نتكلم بها ونفرح ونغضب ونبوح ونسطّر أرقّ الشعر وأعذب النثر. ونلتفت إلى تراثنا الثقافي، منذ امرئ القيس إلى نجيب محفوظ، فنجد في مرآته أنفسنا، ونلاحظ أن هذه اللغة ما زالت، كما كانت في جاهليتها الأخيرة، وبرغم كرور القرون، مفعمة بالديناميّة، نضرة، جيّاشة بالحياة. أدركت البداوة، بحضرها ووبرها، فنهضت بالمعاني وعبّرت عن نمط المعيشة وعن خَلَجات النفس وقلق الروح. ثم امتُحنت هذه العربية امتحاناً تاريخياً جليلاً وعسيراً، فلفد جاءها الإسلام حاملاً القرآن، فتدفقت في جنَبَاتها معان لا حصر لها من حيث السَّعَة والدلالة ومجالات التعبير. وفُتحت قنوات عديدة لفهم كتاب ألدين وتفسيره، وتدبرّ أمر الحديث وضبطه، فكانت علوم العربية ثروة علمية تضاف إلى خزّان لا ينفد له مدَدَ من حيث القابليّة على الأخذ والعطاء والتجدد والتلاؤم.

ولعل ما يستوقف النظر هذه الديمومة التي ما برحت تطبع العربية، في حين أن أخواتها من اللغات السامية أتى عليها ما يشبه الانقراض وصارت في متحف التاريخ. وما زالت العربية منفتحة، يعينها على ذلك اشتقاق قائم في صُلْبها. ولقد أتى عليها حين من الزمن أضحت فيه لغة العلم في العالم القديم، فاستوعبت، إبّان المرحلة العبّاسية الذهبية، علوم زمنها، عَبر الترجمة، ثم تجاوزت النقل إلى الإبداع. فما بالك بلغة كانت بدويّة المنشأ، وبها كان الحدث الكبير، القرآن، تغدو من جديد لابسة حُلّة زاهية، فتنطق بالفلسفة والفقْه والكلام والعلوم البحتة، وتدخلها الكلمات المستَحدثة أفواجًا، وهي في ذلك كله لا تضيق ولا تقعد ولا تتبرم ولا تتعصب ولا تصد عن الجديد. واليومَ، والعربية أداة شائقة في التعبير عن الحداثة شعراً ونثراً، يخبرك المغرضون والضّالون أنها قد لا تصلح لتأدية العلوم العصرية، وأنه من الخير لنا أن ندرسها باللغات الأجنبية الحيّة. ولكن العربية لم تمت، بدليل هذه الحيوية الأدبية التي تعمرها، وإذا نهضت اللغة ووفّت الذات المنفعلة حقها الراقي في أن تفضي بمكنونها، فكيف تخفق في إيفاء العلوم ما تتطلبه من مصطلح وتركيب؟ إن العلم، من حيث التعبير، أدنى مستوى وأيسر منالاً وأبسط صياغة، من النص الأدبي وما يفترضه من صعوبات وما يستدعيه من عراقيل. الأدب هو الذاتية، والعلم هو الموضوعية. والذاتية بلا شطآن، والعلم محدَّد مقنن. والعربية مقتدرة، ولكن أهلها، في زمننا، غير مقتدرين، بسبب عوارض التخلف، والتبعيّة، واستسهال الأمور، وتخلخل الحس القومي السليم. إن تاريخ العربية من تاريخ العرب أنفسهم، وإنْ كان هناك، في يومنا، من مشكّكين في أهليّتها فإن شكّهم يصب، بالتالي، في قومهم المتفرقين وفي تاريخهم المعاصر المتفسّخ.

من المحسوس إلى التجريد

وعبر هذا التاريخ العربي المديد يتبين لنا كم أن لغتنا لصيقة بالحياة العربية، أن كل لغة فوق كوكبنا، وكم أن اللغة، في أساس تكّونها، ذات جذْر ماديّ. فنحن نتوسّل بمفردات كثيرة، من غير أن نلتفت إلى أساسها المادي الذي نشأت عنه. من ذلك قولنا عن الرجل إنه بنى على أهله، أي زَف عروسه ودخل بها، وذلك أن العربي قديماً كان إذا ما اعتزم زواجاً يبتني قُبّة، يستعين بها ليلة زفافه، ليتم تحتها أمر زواجه بامرأته. ومن هنا يأتي في العربية البناء والابتناء، بمعنى الدخول بالزوجة، والباني هو العريس (ابن منظور: مادة "بني"). والمثال الأيسر أننا كنا نقول، لزمن قريب: كتب بالريشة، نعني بها هذه القطعة المعدنيةّ ذات الفم المضموم الذي نغمسه في الحبرْ. أما أصل منشأ هذه المفردة فهو الريشة الحقيقيَه للطائر (plume) التي كانت مسكة وريشة العصر الوسيط الأوروبي. في حين استعنّا نحن، عهد ذاك، بقلم القصب، ولأنواعه وطريقة استعماله عندنا مصطلحات شائعة في الكتب التي تتناول أدب الكاتب العامل في الدواوين. وما زال هذا القلم، من قصب الغزّار، وسيلة خطّاطينا أحياناً حتى يومنا هذا.

وكيف لا تكون اللغة، في أصل منشئها، ماديّة الجذور، وقد انطلقت من المحسوسات المتوافرة في محيطها الطبيعي، ثم جرت عليها، مع الزمن، عملية تصاعدية، فتجردت معانيها وداخلها المجاز. وهو أمر نتبينه بوضوح من خلال الكثير من مفردات لغتنا، ذات النشأة البدوية. والجمّ من المفردات تبتعد، مع التطور الاجتماعي، عن المعنى المحسوس المادي الذي وُضعت من أجله، وتكتسب معاني جديدة طارئة، على سبيل المشابهة. وهذا الطارئ يصير بمنزلة المعنى الشائع المتداول، في حين يهجر المعنى القديم، لزوال الظروف المجتمعيّة التي أدت إلى ولادته. وهذه العملية الانتقالية من المحسوس المادي إلى التجريد المعنوي يدعوها المشتغلون باللغة " التصعيد"، وهي سمَة اللغات المكتملة الراقية. ليس يدور في خَلَد أحد، وهو يقوم بواجب التبريك ويدعو بالبركة ويرجو الأمر المبارك ويأمل بالسعادة المباركة ويتبرك بفلان أي يجد فيه اليُمْن، أن الأصل في هذا كله يعود إلى " بَرَك البعير" بمعنى أناخ في موضع وألقى بَرْكَه بالأرض أي صدره. والبركة تعني إًدرار لبن الناقة وهي باركة، والبركة أيضاً هي الشاة الحلوب (ابن منظور). والمجد الذي صار إليه ما صار من معاني الامتلاء بالشرف والسخاء والذّكْر والعظمة، يعود إلى " أمجدَ الإبلَ" أي ملأ بطوَنها بالعلف وأشبعها، ومجَدَت الإبل إذا وقعت في مرعى كثير واسع. والعقل الذي نتغنّى به إنما أصله في اللغة من عَقَل البعير أي جمع قوائمه، والرجل العاقل هو الجامع لأمره، ودعي العقل عقلاً بسبب أنه يعقل صاحبه، أي يحبسه عن أن يتورّط في المهالك، والعقال هو الحبل.

اللغة والعمل

هذه الصلة الحميمة بين اللغة والحياة حملت الباحثين في علم الاجتماع على أن يولوا اللغة مكانة مرموقة، ما دامت ظاهرة اجتماعية، فذهنية أمّة ما تنعكس في تراكيب لغتها وفي مصطلحاتها واستعاراتها. وقد عُرف الإنكليز بحسهّم التجاري، وصارت لغتهم هي الأداة الشائعة في العالم لتعاطي هذه المهنة. وإنّا لنلمح في تضاعيف عباراتهم الاجتماعية، هذه الحاسّة المتوقّزة. فانتبه في الإنكليزية هي (pay attention)، أي من حيث حرفيّة التركيب " ادفع من انتباهك ". وهم يقولون لشكران أحدهم على أفضاله how can I pay you for all your) (goods، أي " كيف أكافئك أو أجزل لك ". الدفع والمال والمكافأة تتسرب من التجارة إلى العلاقات الاجتماعية واللياقات. ونرى أن النشاط المادي والاقتصادي هو الذي يؤدي، في الأساس، إلى نشوء اللغة على كيفيّة معيّنة، وقد لمسنا ذلك في الأمثلة المتقدمة المتعلقة بالعرب، وهي أمثلة محدودة سقناها للتدليل على الفكرة، في حين أنها تشمل حياة بدوية بأكملها عاشها أجدادنا القدامى. واللغة ما أن تشبّ، على النحو التاريخي الذي تنشأ عليه، حتى تفرض وجودها على عقول الناس المتعاطين لها، لأنها وسيلتهم الوحيدة إلى التواصل والتكيّف والوجود والإطلالة على الآخرين. " ولكنهم، في الواقع، واقعون تحت رحمة تلك اللغة المعيّنة التي اتخذوها وسيلة للتفاهم في مجتمعهم. فالعالم الحقيقي مبني، بلى حد كبير، على العادات اللغوية لمجتمع معين "- على حد تعبير اللغوي الأمريكي " سابير " (Sapir)، أحد رواد الألسنية المحدثين.

وهذه الصلة الاجتماعية الوثيقة بين الإنسان واللغة تعلن عن نفسها في شتّى شئون حياته، بل لعلها خير مظهر منفعل، على نحو تلقائي وسريع، بمختلف نشاطاته وتطلعاته ومعاملاته والمهن التي يتعاطاها. إن تأثير المهنة واضح بين في مفردات المرء وتعابيره وردود فعله، بل لعل لكل مهنة، يدوية أو ذهنية، مصطلحات نراها تجهر في كلام صاحبها وصوره وتشبيهاته. ويتعدى الأمر، أحياناً، الكلام إلى الحركات الصادرة عنه، سواء ما يبدو في سيماء الوجه أو ما يبدر عنه من إشارات جسمانية متصلة بنشاطه المهني. بل لقد ذهب البحث، في هذا النطاق، إلى أن مظاهر النشاط الاقتصادي الإنتاجي، من حيث تأثيرها على اللغة، تبلغ شأواً عظيماً. " وقد تؤثّر هذه المظاهر في أصوات اللغة نفسها. فقد يؤدي نوع العمل الذي يزاوله سكان منطقة ما إلى تشكيل أعضاء نطقهم في صورة خاصة، تتأثر بها مخارج الحروف ونَبرات الألفاظ ومناهج التطور الصوتي".

علم الاجتماع اللغوي

ولا لغة من غير مجتمع، كما أنه لا مجتمع من غير لغة. وهذه اللغة قد تكون متكاملة تعبر عن مختلف حاجات الإنسان ومشاغله الروحية، فتغدو عندها لغة حضارية، ويغتني متنها وتغزر تراكيبها، وتصبح طيّعة لأن يُفصح بواسطتها المرء عما يختلج في مشاعره وعما يضطرب في ذهنه. والعربية التي ورثناها، والتي نجهل مع الأسف حَلقاتها الأولى، لأننا ورثنا لغة مكتملة قد توالت عليها القرون حتماً، بحيث صارت إلى النّضج الذي عهدناه فيها، هذه اللغة، التي صال فيها النّحاة في العصر العبّاسي وجالوا، هي حضارية الطاَبع، وليست قاصرة في تأدية المعاني، ملتبسة يخالطها الإبهام. فاللغات البدائية التي لم يسعفها التطور ولم يلحق بها التجريد، تظل فقيرة مضطربة، فُيضطر أهلها، وهم في وضع قبلي متخلف، إلى التوسل بالحركات والإشارات للإفضاء بما في نفوسهم من معان. من ذلك ما يُروى عن قبائل البوشيمان، في جنوب إفريقيا، من أنها توقد النار ليلاً إذا رغبت في الكلام، وذلك لأن كلامهم مصحوب بإشارات مكملة، لأن دلالة اللغة عندهم لا تكفي لتأدية المدلول. من ذلك أيضاً ما يُنسب إلى سكان جزيرة تسمانيا، الذين يحلّون بالقرب من أستراليا، من أن الصفة المجرّدة لا تتوافر في لغتهم، فإذا راموا صفة معيّنة، كالطول مثلاً، استعانوا بما يشبهها، كأن يقولوا: إن الرجل الفلان كالشجرة كذا (وافي: اللغة والمجتمع).

وهذه العلاقة الصميمة، القائمة بين اللغة والمجتمع، أدّت إلى ترابط هذين الطرفين واشتراكهما فيما ندعوه علم الاجتماع اللغوي. وفي هذا العلم يتجلى "مدى تأثر الأشكال والأساليب اللغوية بالمعطيات الاجتماعية التي تُستعمل اللغة ضمنها " (مصطفى لطفي: اللغة العربية في إطارها الاجتماعي). وارتبط نشوء هذا العلم الحديث بالألسنيّة العصرية، وما طرحته من موضوعات خرجت بها على النمط التقليدي في النظرة إلى اللغة وقواعدها. ولم يعد الاهتمام محصوراً باللغة الأدبية، بل بهذه الأداة الموزَّعة في كل شرايين المجتمع والمكيفة لمختلف أغراضه. لم تعد اللغة، من حيث النظر إليها، جزيرة منكمشة معزولة، ولكن خاض بها الدارسون إلى محيطها الأكبر المتمثل في المجتمع ومعطياته. فلا شكل لغوياّ مجرّد عن أي عامل اجتماعي، منبعث من فاته، سابح في الهَيُولى. الموضوع ليس ذهنياً صرفاً كمعادلة رياضية، ولكن اللغة هي المجتمع في غمرة نشاطه وتدفّقه. هي شكل ومحتوى معاً. وباتت اللغة- أكانت بدائية أم متحضرة - جزءاً نابضاً من أي دراسة اجتماعية. وفي لغتنا العربية نلحظ هذا الأمر على نحو جلي، إذ إن مفرداتها وعباراتها، دعك الآن من أمثالها، والتي جاءتنا من مجتمع أضحى الآن قديماً، وسرت في مجتمعنا الحالي الذي أصبح مغايراً لما كان عليه أجدادنا الذين أورثونا هذه اللغة، هذه المفردات والعبارات تقبع الحياة الجاهلية في خلفيتّها ومفاصلها. بل لعل خصائص العربية في التصريف والاشتقاق هي ابنة هذا المحيط الذي كان على قسط وافر من التحضر، وإلا لما كان بطَوْقه أن يتمرس بلغة راقية كهذه.