عبد القادر علولة.. تجارب جديدة في المسرح الجزائري

عبد القادر علولة.. تجارب جديدة في المسرح الجزائري
        

شهد المسرح الجزائري مجموعة من كبار المسرحيين دخلوا مجال التجريب, وبحثوا عن شكل مسرحي نابع من البيئة, ومتأثر بالتراث, وتقدم (العربي) في السطور التالية تجربة واحد من هؤلاء الروّاد.

          كثيرا ما نطالع في كتب التاريخ أن الأدب العربي لم يعرف للمسرح سبيلا, بل إن هذه الفكرة لا تزال صامدة في أذهاننا إلى اليوم. ولعلنا نعتمد في إصدار رأينا هذا على الدلائل التاريخية التي تشير بجلاء إلى أن الأدباء العرب لم يهتموا بترجمة أو دراسة الآثار المسرحية الغربية قبل القرن التاسع عشر. ومن الشائع في هذا المجال أن المسرحي المشهور(جورج أبيض) لما زار الجزائر في الربع الأول من القرن العشرين لم يلق الاهتمام اللائق, مما يدل على الفقر الشديد بأدنى أبجديات الأدب التمثيلي فيها, ولكن الحقيقة ليست كذلك إذ إن العروض المسرحية المشخصة للأحداث كانت عبارة عن وهم يبعث في نفس المشاهد الإحساس بالانفصال عن الواقع المعيش وعن المنطق السائد, وبالتالي الإحساس بالحيلة والخداع. وهذا راجع لطبيعة المجتمع الجزائري الذي يعتمد الكلمة الصادقة الحكيمة وسيلة للإقناع والتأثير والإمتاع, إذ كان ثمة عروض شبه مسرحية تستقطب الجماهير, وهي عروض الحلقة الأسبوعية التي يجسدها المداح أو الراوي الذي يجول في أساطير وتاريخ المجتمع وتراثه, فيحوله ببراعة إلى متعة فنية.

          إن عملية الربط بين الحلقة والمسرح كانت في وقت مضى ضربا من الخلط والتغليط ولكنه أصبح الآن حقيقة تاريخية, نظرا لما يعرفه المسرح الغربي نفسه من أنواع وأشكال مسرحية تشبه إلى حد كبير مسرح الحلقة, ومنها مسرح المقهى (كافي تياتر) الذي ظهر في النصف الثاني من القرن العشرين, فهو يعتمد على الممثل الواحد (ولا يتجاوز الممثلين) مع الاستغناء التام أو الجزئي عن الديكور..

          إن الممثل في مسرح المقهى يعرض على الجمهور قصصا أو قصة واحدة دون أن يكلف نفسه عناء التشخيص التام وتقمص الشخصيات تقمصا كاملا, ومع ذلك يحس الجمهور بمتعة العرض, فالعلاقة بين الممثل والجمهور علاقة تواطؤ, إذ ينتظر المتفرج متعة وفرجة والممثل يلبي له الطلب في حلة ترضي الجميع وهي الطرح الكوميدي التهكمي, فالضحك محل اتفاق الجميع .

          إن مسرح المقهى بشكله الحالي لا يختلف تماما عن المسرح الشعبي المغاربي الذي يعتمد الحلقة إطارا, ويمكن حينئذ أن نسميه مسرح السوق على غرار مسرح المقهى.

          والحلقة عرض قصصي في الأسواق التجارية الأسبوعية التي تعرفها أغلب مناطق المغرب العربي, حيث يتجمع الناس على شكل حلقة دائرية حول المداح الذي يحكي بنوع من المهارة السردية قصصا ملحمية ووعظية مازجا لوحاته الحكائية بأغان شعبية تعضد ما يسوقه من أخبار, وهنا يكمن التشابه بين النمطين ونعني مسرح المقهى ومسرح السوق, مع فارق في نوعية العروض وطبيعة الجمهور, فالمشاهد الغربي بفعل العادات المكتسبة يفضل القاعات المريحة, في حين كان ولا يزال يفضل العامة من شعوب المغرب العربي الأسواق, فالسوق إطار سحري غريب وعجيب يجمع بين المصلحة التجارية والترفيه .

          إنه من غير المعقول إذن تجاهل هذا الكم الهائل والمهم من تراثنا المحلي, بل علينا الاستفادة منه وتطويره, وكذا مقارنته مع تجارب الآخرين. ففي المجال المسرحي يبدو الميدان التجريبي خصبا وثريا مثلما نجد في محاولات كبار المسرحيين عندنا أمثال ولد عبد الرحمان كاكي والطيب الصديقي وعبد القادر علولة, بمحاولة المزج بين مسرح الحلقة وبعض الأنماط والنظريات المسرحية الغربية المختلفة.

          لقد نبه ولد عبد الرحمان كاكي إلى ضرورة الاتكاء على التراث المحلي لإنتاج نمط مسرحي جديد يتوافق مع ميول المتفرج العربي وفكره من خلال مسرحية (القراب والصالحين), أما الطيب الصديقي فقد حاول في البداية إثبات أن مسرح الحلقة يعد نمطا مسرحيا متميزا في التراث المغاربي ليصل في الأخير إلى محاولة جادة تثبت وجود مسرح عربي أصيل يعود تاريخه إلى العهود الإسلامية الأولى, متمثلا في المسرح الحكائي, فقد أثبت من خلال مسرحيات (مقامات بديع الزمان) و(الفيل والسراويل) أن المقامات العربية والحكايات التراثية الموروثة لها طابع مسرحي يتحكم في تبليغه للمتفرج الحكواتي من خلال السرد الممسرح والإلقاء المشخص للحدث..

          وهذا يؤدي بنا إلى محاولة التقريب بين المسرح العربي الحكائي وبين مسرح الحلقة وفي الأخير مسرح السوق.

بريخت في المغرب

          كما أن أهم تجربة مسرحية في هذا المجال قام بها الكاتب الدرامي عبدالقادر علولة (1939-1994) فقد مزج بين المفاهيم البريختية (برتولد بريخت 1898 -1956 ) وبين مسرح الحلقة بتوظيف  القوال (الحكواتي) مع الحفاظ على عنصر الفرجة المتمثل في المشاهد المسرحية التي يجسدها الممثلون والتقمص التام للشخصيات, وهذه ميزة مهمة جعلت المسرحيات تحافظ على بنائها الدرامي.

          كما يستعين الكاتب الدرامي عبد القادر علولة بمشاهد مونودارامية في ثنايا بعض مسرحياته تشبه إلى حد بعيد البناء الدرامي لمسرح المقهى, حيث يتجلى لنا هذا في اللوحة الأخيرة من مسرحية (الأجواد) مع جلول الفهايمي, فهو مشهد يمكن الاستغناء فيه تماما عن الممثلين المساعدين مع الحفاظ على الممثل الواحد.

          يقول جلول الفهايمي أحد الأجواد في نظر علولة والعامل البسيط في أحد المستشفيات:

          (كنت أعمل داخل المصلحة أين يوجد الموتى بقاعة التبريد الكبيرة, كنت أنظف الأنابيب, فأحيانا يغلفها الجليد, كنت في جهة من القاعة وحيدا أطرق الأنابيب, في ذات الحين كان عباس الغسال في الجهة الأخرى وحيدا كذلك ينظف الرخامة, وأنا أطرق بالمطرقة إذا بي أبصر رجلا يخرج وسط الضباب, نحيف الجسد, أخضر اللون وعاريًا كما ولدته أمه ..ارتبكت ولم أنطق بكلمة.. ففي مثل هذه المواقف أول ما يتذكره المرء الشهادة, وإذا بي أنسى كل شيء ..اجتهدت في تذكر الشهادة والكلام بلساني لكنني فقدت القدرة على النطق.. ..و الرجل أمامي يرمقني ..بينما كنت مشغولا بالبحث عن تعاويذ أنطقها فإذا بي أصرخ: الحمد لله نحن في حالة جيدة, لقد منحونا كل شيء حتى الأكل يحضرونه لنا من الخارج..) وأحسست بالخوف.. حدثتني نفسي بأن أضربه بالمطرقة لو يجرؤ على لمسي ظل يرمقني بنظراته الحادة وأنا كذلك . .ثم قلت: له فجأة: إذا اقتربت أسقط لك أسنانك .. لا أدري كيف تفوهت بهذه الجملة.

          سمع عباس صراخي فسأل من بعيد ما الخبر? فلت أمامي شخص من الذين لم يغسلوا يريد الخروج, قال : أتذكر جيدا الآن ..بعد العصر مر بقربي ..لم أره أحسست بخياله فقط..

          اتكأ الشخص ذو الصفة الآدمية على الحائط وقال بمشقة (السلام عليكم) قلت : ماذا تريد?..

          أنا جلول الفهايمي وأنت من تكون?.. إنسان أم جان? عندئذ هدأ روعي.. فبادرني قائلا : أعطني سيجارة قلت لا أدخن ....

          أخذ بدلة الغسال بعدما تأملها مليا ثم قال (سلعة فرنسا أليس كذلك ?) حاول الاقتراب مني لكني أخذت المطرقة ورفعتها إلى الأعلى وقلت له: قف مكانك ..قال: من فضلك أين جهنم?

          - يا لطيف .. قلت له.. من هنا تقلع إلى هناك... هذا المستشفى ..)..

          لقد أثرى الكاتب الدرامي عبد القادر علولة الساحة المسرحية المغاربية في الثمانينيات بثلاث مسرحيات متميزة هي (الأقوال) 1980 و(الأجواد) 1985 و(اللثام) 1989, عدها بعضهم ثلاثية لترابط الحدث فيها في العمق.

          والحقيقة أن الأحداث التي عرفتها الجزائر في تلك الحقبة وتداعياتها على المجتمع أدت بالمؤلف ولو بطريقة غير واعية إلى الربط بين أعماله عن طريق الأحداث دون الشخصيات . .

          ومع أن الاهتمام بالقوال ظهر في فترة سابقة عند علولة مع مسرحية (الخبزة) 1970) إلا أن (الأقوال) كانت مرحلة تأسيسية لنوع جديد من المسرح يجمع بين القوال كعنصر تبليغي للأحداث و بين المنهج البريختي المعروف .. وكان القول عندئذ هو العنصر الجامع للوحات المسرحية, إذ جمع بين ما حدث لقدور السواق وغشام ولد داود ثم الجيلالي خال زينوبة بنت بوزيان. وقد كان الجود في مسرحية (الأجواد) هو العامل المشترك والصفة الجامعة بين الشخصيات ومنهم الربوحي الحبيب وعكلي ثم جلول الفهايمي. إلا أن مسرحية اللثام هي التي اكتمل فيها جهد علولة في تأسيس نوع مسرحي جديد يعتمد على القوال كعنصر أساسي وفعال في العرض المسرحي, إذ تجلى فيها بوضوح إمكان التزاوج بين القوال والنص المسرحي الموحد الحدث, حيث جسدت المسرحية منذ بدايتها إلى نهايتها مأساة برهوم ولد أيوب دون الفصل بين الأحداث والشخصيات مثلما وجدنا في الأقوال والأجواد.

المسرح والمجتمع

          تبدأ مسرحيات علولة بملاحظة الحدث الاجتماعي لتنتقل إلى تعريته وتنتهي بتكهن لمصيره ومستقبله,  ففي كثير من الأحيان كان علولة يصرح بأن الشخصيات والوقائع في مسرحياته ليست مبتكرة ولكنها حية تعيش حواليه في المجتمع..

          بيد أن الكاتب الدرامي علولة حين يعرض علينا شخصياته البسيطة في ظاهرها يبرز خصوصياتها الجوهرية التي لا يدركها إلا ذو عقل رزين وملاحظ نبيه, ويرمي من خلال مسرحة الحقيقة إلى التسامي بالواقع إلى رحاب الفن, فالفنان الذي لا يتمكن من الارتقاء بأعماله الواقعية لتحويلها إلى أعمال فنية هو مجرد ناقل للأخبار والوقائع, وإذا كان الفن انعكاسا للواقعي والحقيقي فلابد أن يكون انعكاسا جميلا أو ساحرا.

          إن شخصيات عبد القادر علولة البسيطة تتجلى للمتفرج بصفاتها المتميزة منذ بداية المشاهد المسرحية, ثم تعرض الأحداث كدلائل على الحكم البدائي وفي ختام العرض يترك الحكم الأخير للمتفرج .

          فالربوحي الحبيب في (الأجواد) مشروح الخلق, ومحبوب كثيرا عند أقرانه العمال بالميناء والبلدية والوحدات الصناعية, حيث يعزونه كثيرا.

          (الربوحي) الأسمر حديثه معطر كأنه ماء زهر مقطر.

          أما عكلي (الأجواد) فقد كان طويل القامة وسمينا قليلا.. شواربه مفتولة وصوته عال والكلمة تخرج من فيه صافية موزونة, . أما صديقه منور فهو قصير القامة وأصغر منه سنا -بقرابة عشر سنوات تربى في البادية ولا يزال يحافظ على القيم التي شربها في صغره.

          كما أن جلول الفهايمي (الأجواد) كريم ويؤمن كثيرا بالعدالة الاجتماعية,ويحب وطنه بإخلاص, متمنيا أن تتطور بلاده بسرعة, وأن تزدهر فيها حياة الأغلبية, فزوجته وأولاده يحبونه ويجلونه ويعرفون بحق أنه حنون وكريم ويرشد للطريق المفيد.

مسرحية (الأقوال)

          تمثل مسرحية (الأقوال) بداية النضج والوعي الاجتماعي الحقيقي من خلال شخصية قدور السائق الذي يقدم استقالته لمدير المؤسسة التي يشتغل بها منذ أكثر من خمس عشرة سنة, فبعد ما كان تابعا لمديره في كل شيء يدرك في الأخير حقيقته بأنه كان ينهب أملاك المؤسسة ويعيث فيها خرابا.

          (سي الناصر خذ اقرأ هذه الرسالة.. رسالة موجهة إليك يا حضرة المدير نعم فيها استقالتي..)

          والاستقالة في الحدث هي انفصال شخصية قدور عن شخصية الناصر مدير المؤسسة, مع أن الرابط التاريخي كان قويا بينهما, فكلاهما شارك في الكفاح المسلح ضد المستعمر إلا أن ذلك لم يمنع الناصر من تخريب ممتلكات الشعب.

          (واحسرتاه على سي الناصر الشاب البطل.. الشاب الذي كافح من أجل العدالة الاجتماعية..أين ذاك الشاب? السي الناصر - رحمه الله).

          (إن تبعية قدور لمديره الناصر كانت تبعية مطلقة, وسببها الثقة العمياء والصداقة المخلصة, إلا أن إدراك قدور الحقيقة جعله يمقت مسئوله وأعماله الشنيعة مما جعل الثقة تنعدم بينهما).

          (بعدما أخرج من هنا.. أرجوك لا تبحث عني ياسيدي..فطريقنا من اليوم لم يعد واحدا.. وربما يكون اختلافنا إلى الأبد..).

          إن ما جرى لقدور يمثل لحظة وعي تام لأحد أفراد شعب أدرك من متناقضات الحياة أن الخطابية الأيديولوجية لا تكفي بل يجب تدعيمها بالأفعال.

          تلفت مسرحية (الأقوال) الانتباه إلى بعض المشاكل الاجتماعية العويصة التي سيواجهها المجتمع الجزائري ومنها الفقر والبطالة الناجمة عن تسريح العمال وطردهم, وهذا ما شهده المجتمع الجزائري وعايشه بعد ذلك بصفة رهيبة., وهذا ما تصوره قصة غشام ولد داود الذي يحال على التقاعد مرغما جراء مرضه المزمن الخطير..

          (ودخلت المعمل, كانت أصعب لحظة بالنسبة لي حين وصلت الورشة التي أشتغل بها.. كل الزملاء كانوا على علم بالخبر ويتألمون لذلك, ولكنهم يكتمون ألمهم..أخبرهم بوعلام النقابي بلا شك, وأوصاهم بأن يحسنوا الكلام معي, لمحت في وجوههم وسكوتهم الموت..).

          ويطرد الجيلالي خال زينوبة بنت بوزيان العساس كذلك من العمل جراء إضراب قام به ليعيش حالة فقر فظيعة.

          (جمعنا العمال في جمعية عامة وأنشأنا نقابة ثم انتخبنا المكتب, كنت أنا وستة أشخاص من الأعضاء.. بعد ثلاثة أشهر طردت من العمل ولم نحقق أي شيء للعمال..).

(الأجواد)

          تمثل مسرحية (الأجواد) بالنسبة لعلولة مرحلة المقاومة للدفاع عن المكتسبات الشعبية, وهذه المقاومة يقودها أفراد من الشعب لمجابهة التخريب والمساس بالثوابت, فالأجواد: الكرماء, والجود صفة تميز الأثرياء من أفراد المجتمع, بيد أننا نجد أجواد عبد القادر علولة من الطبقة البائسة المعدمة فالربوحي الحبيب حداد بالبليدة, له دخل محدود ولكنه بفعل تكوينه الاجتماعي والفكري جواد كريم, يجود على المجتمع بجهده ووقته وحكمته وشجاعته وأفكاره ويواجه مصاعب البلدية.

          الربوحي الجيب الحداد تحمل القضية, قال لهم: (من أجلكم وفي خدمتكم ولو بقطع الرأس أتجند وألتزم بالمهمة).

          كما أن عكلي يجود بجسده أي بهيكله العظمي للثانوية التي يشتغل بها, إنه بفعل ثقافته المتبصرة وفكره النير يدرك جيدا أن الفرد لا قيمة له في المجتمع, ولكن التغيير في نظره وليد المبادرة والشجاعة..

          (أهدي جسدي.. هيكلي العظمي للمدرسة, وأجعلك وكيلي في تنفيذ الوصية).

          أما جلول الفهايمي فكان يجهد نفسه لفهم متناقضات المستشفى, كان يرفض الظلم واللا معقول فهو يختلف تماما عمن يرضون بالواقع ويتماشون معه.

          (إنكم تقولون بأننا (مافيا) وأنتم تريدون تطبيق الاشتراكية افعلوا إذن ... إنكم تقولون بأننا نسرق..فلنفرض أننا نسرق وأنتم ماذا تفعلون?!).

          إن المسرحي علولة من خلال اختيار هذه النماذج من المجتمع, إنما يشخص الداء الذي ينخر جسد المجتمع الجزائري, فقصة الربوحي الحبيب تظهر سوء التسيير الإداري الداخلي وقصة عكلي تبين أزمة المنظومة التربوية وبالتالي أزمة العلم ومستقبل الأجيال, أما قصة جلول الفهايمي فتجلي أزمة المنظومة الصحية وتدهور أحوالها.

          إن هذه القطاعات الثلاثة حساسة جدا في أي مجتمع من المجتمعات, بقوتها يتقوى المجتمع وبضعفها يسوده التفكك والفوضى.

(اللثام)

          بعد مسرحية (الأجواد) يواجهنا علولة بعرضه (اللثام) الذي ينبيء فعلا عن انهيار النظام القائم وانحسار الأيديولوجية السائدة آنذاك, إذ يبين بطريقة رمزية أن مؤسسي الفكر الثوري وحاملي لواء العدالة الاجتماعية هم المخترقون الأصليون للمبادئ التي يحملونها, وبالتالي فهم الذين يقضون عليها, إذ تعرض المسرحية القصة الكاملة لبرهوم ولد أيوب الميكانيكي العامل البسيط في أحد معامل صنع الورق,  حيث يتمكن بتحريض من ثلاثة نقابيين من إصلاح الآلة الرئيسية بالمعمل, فيتهم إثرها بالتخريب والخيانة, والحقيقة أن المسيرين والإداريين خربوا الآلة للقضاء على المصنع, لتحويله بعدها إلى قطاع خاص فيتمكنون من الاستيلاء عليه.

          (أحب أن أقدم خدمة في حياتي ..لا يمكنك أن تقوم بأي شيء ..مصيرك يتحكم فيه الآخرون).

          ويجدع أنف برهوم بعد محاولته إنقاذ المصنع, ويحاول تقديم شكوى ضد المسيرين, ولكنه يضطر إلى المرور بشوارع المدينة فيكبله الخجل, وكأنه قام بجريمة, ويجاهد نفسه للوصول إلى الجهات المعنية لتقديم شكواه.

          (أحس برهوم الخجول أنه يطير في السماء.. يعلو مرة ويهبط أخرى, كأنه يسبح فوق رءوس الناس, وبدت له المدينة غريبة..وتراءت له صورة عجيبة كأنه فقد عقله.. من الأعلى رأى أناسا يصرخون عدالة.. عدالة..رأى صبيانا عارين يجرون وفي أكفهم الجمر,  رأى أناسا ثيابهم أنيقة ينظمون مظاهرة وهم مسلحون ويحملون لافتات كتب عليها (الجشع ..الجشع حتى الموت .. كل شيء يؤخذ بالقوة وكذلك الويل لمن لم يرقص مع أمريكا) رأى ساعات عقاربها تسير معكوسة .. رأى نيرانا مشتعلة في العمارات الإدارية ...خاف برهوم ولد أيوب الأصرم وانطلق يجري حتى بلغ خارج المدينة), وتكون نهاية برهوم الهروب إلى مقابر المدينة بعيدا عن المجتمع وعن أسرته.إن مسرحية اللثام بينت عمق الأزمة السياسية الأيديولوجية التي عاشها المجتمع الجزائري في الثمانينات, كما تنبأت بصدق عن انحسار الفكر الثوري فيها, واقتراب سقوطه, وكانت الأحداث السياسية التي شهدتها الجزائر بعد ذلك مرآة عاكسة لتكهنات الفنان.

          إذا كانت مسرحيتا (الأقوال) و(الأجواد) تنبأتا بفساد الوضع الاجتماعي, فإن مسرحية (اللثام) حاولت التحذير من العواقب السلبية,  لتبين أن الأزمة أصبحت أكثر عمقا وتعقيدا وأن الحل أضحى مستحيلا.

          وخلاصة القول أنه يمكن التأكيد بأن المسرح كان ولا يزال وسيلة من وسائل التنوير والتطوير, فالمبدع يجب ألا ينفصل عن الواقع, وعليه في الوقت نفسه أن يصوره بطريقة فنية تجعل المتلقي يلتفت إلى الظواهر التي يعيشها, سواء الأدبية أو الفنية أو الاجتماعية, ولا يخفى ما لهذه الظواهر من علائق متينة مع مجالات الحياة المختلفة الأخرى.

كل حلمٍ أتى بغيرِ اقتدارِ حجةٌ لاجئٌ إليها اللئامُ
من يهنْ يسهلِ الهوانُ عليهُ ما لجرحٍ بميتٍ إيلامُ


(المتنبي)

 

بغداد أحمد بلية   

 




عبدالقادر علولة الكاتب الدرامي





عبدالقادر علولة المخرج والممثل المسرحي





مشهد من مسرحية اللثام





الممثل الراحل سيراط بومدين في مسرحية اللثام





علولة يوجه ممثلين من المسرح الجهوي لوهران