منذ نشأة الكويت
ككيان مستقل في بداية القرن الثامن عشر والبحر هو المصدر الأساسي للعمل والرزق
فيها. كانت المدينة (مدينة الكويت) من شرقها إلى غربها مرفأ بحريا نشطا يعج بالسفن
الكبيرة منها والصغيرة. فمن سفن صيد الأسماك إلى سفن الغوص على اللؤلؤ إلى سفن
"القطاعة" إلى سفن السفر الشراعي الضخمة، جميعها كانت تغد في كل موسم لرحلاتها إلى
مغاصات اللؤلؤ أو إلى السفر في رحلات موسمية إلى الهند وساحل إفريقيا الشرقي. ولم
يكن هناك وجه من وجوه الحياة فيها إلا وقد ارتبط بصورة من الصور بالبحر والسفر.
فالصحراء المحيطة بالمدينة، وندرة الماء والنبات فيها، ووقوعها على ميناء مثالي في
جغرافيته وامتداده، أكسب أهلها شجاعة وعصامية وحبا للعمل والمغامرة، فأصبحوا شعبا
ناجحا ومتميز الكيان والطابع.
ولعل مما ساعد على
بروز الكويت كبلد مستقل قائم بذاته هو بروز طبقة من التجار فيه عرفوا بالذكاء
الفطري وبالجرأة والإقدام (enterprising)،
وكذلك بروز طبقة من النواخذة (قباطنة السفن الشراعية) وصناع السفن المتميزين فيها.
هذا بالإضافة إلى شعور الكويتيين آنذاك بأنهم "أسرة وا حدة" قولا وفعلا، وإلى طريقة
الحكم فيها، والذي على الرغم من كونه وراثيا عائليا، إلا أنه لم يكن استبداديا، بل
استطاع أن يكسب قلوب الناس لمقدرته على التعامل مع القوى السياسية السائدة في
المنطقة آنذاك مثل الأتراك والإنجليز، ولحفاظه على أمن واستقلال الكويت.
ولما كان البحر هو
الخيار الوحيد المتاح للكويتيين آنذاك، فقد أصبحوا أهل سفر ومغامرة، وهذا ما حتم
عليهم الاتصال بشعوب وبحضارات مختلفة، وأثر في طريقة حياتهم وتفكيرهم، ووسع من
خبراتهم ومداركهم. وأول هذه الشعوب هم شعوب الخليج العربي. فقد كان اتصال الكويتيين
بساحل شبه الجزيرة العربية الشرقي وبساحل فارس الغربي اتصالا طبيعيا نظرا لقرابة
هذه السواحل من مدينتهم.
نجد على
الساحل
وأما عن اتصالهم
بنجد فقد كان متميزا، نظرا لأن نجد كانت أحد الأماكن الرئيسية التي هاجر منها
الكثير من الكويتيين قبل تكوين دولتهم، ولذلك وصفت الكويت آنذاك بأنها عبارة عن
"نجد على الساحل".
كان اتصال
الكويتيين بساحل شبه الجزيرة العربية الشرقي تجاريا في أساسه. فسفن الغوص على
اللؤلؤ كانت تبحر إلى العديد من الموانئ هناك، كما أن سفن النقل الداخلي (القطاعه)
كانت تنقل البضائع من ميناء لآخر على هذا الساحل. وكانت القوافل تأتي إلى الكويت من
نجد حاملة بعض منتجات البادية وتعود محملة بالضروريات مثل القهوة والسكر والهيل
والأرز والأقمشة. ومع البضائع لا بد من دخول بعض العادات والتقاليد معها، بل وحتى
الكلمات الجديدة التي دخلت على أهل الكويت فطوعت وأصبحت جزءا من اللهجة
الكويتية.
غير أن هذا
الاتصال وأثره في أهل الكويت لم يكن مقتصرا على ساحل الخليج الغربي، بل وحتى ساحل
الخليج الشرقي (ساحل فارس) كان له دور وأثر على أهل الكويت وعلى طريقة حياتهم. فهذا
الساحل كان منبتا للكثير من الحبوب والفواكه والخضراوات التي كان أهل الكويت في
حاجة لها. كما أن هذا الساحل تكثر فيه الموانئ والبنادر المختلفة، وأهله "أهل بحر"
كذلك. ولقد سكنت العديد من القبائل العربية هذا الساحل منذ القدم، ومازال بعض من
أحفادهم فيه يسكنون. بل إن اتصال الكويتيين بهذا الساحل جعل العديد من الكلمات
الفارسية تدخل في اللهجة الكويتية وتصبح جزءا منها (كلمة نوخذا فارسية الأصل)، هذا
بالإضافة إلى بعض العادات والتقاليد، بل وحتى أنواع الطعام وطرق تحضيره.
كذلك كان
للكويتيين اتصال مع العراق (جار الشمال)، فالعراق لم يكن أمة بحرية، واللهجة
العراقية مختلفة عن اللهجة الكويتية، وطبيعة العراق الجغرافية جعلت منه أمة زراعية
وليس بالأمة البحرية، وهذا ما جعل الكويتيين (تجارا وبحارة) يتجهون إلى جارهم في
الشمال للبحث عن فرص تجارية مربحة. ولما كان شط العرب فردوسا من النخيل الذي امتد
على جانبيه (العراقي والإيراني) فقد وجد الكويتيون أن باستطاعتهم نقل جزء من هذه
التمور في كل موسم بواسطة سفنهم الشراعية والإبحار بها إلى موانىء الهند واليمن
وإفريقيا الشرقية لتسويقها هناك، فأصبحوا يبحرون في الموسم الملائم من كل عام،
ويشحنون سفنهم بالتمور، ويبيعونها في بنادر بحر العرب والمحيط الهندي. فقد كانوا
وسطاء الخليج (middlemen)، كما كان
الهولنديون وسطاء أوربا في الماضي. ولقد كان نجاح تجار وبحارة الكويت في هذا العمل
كبيرا وبارزا، حتى أن بعض التجار الكويتيين امتلك مزارع للنخيل في شط العرب، ومن
تمورها كان يزود سفن الكويت وغيرها بالتمور. ومع أن لغة الأرقام قد تكون مملة في
هذا المجال، إلا أنه من المفيد أن نذكر هنا أنه في عام 1939 وحده، نقلت سفن الكويت
الشراعية ما يقارب 22500 طن من التمور من شط العرب إلى موانىء ساحل الهند الغربي
وحدها. وكان معدل ربحها نتيجة لذلك ما يقارب 150 ألف روبية هندية.
وحتى الخيول
العربية الأصيلة من بادية شمر نقلها بحارة الكويت في سفنهم الشراعية. ففي إحدى هذه
الرحلات ركب في سفينة النوخذة صقر القضيبي عدد من الخيول حوالي (12 فرسا) من شط
العرب في طريقها إلى بومباي، وقبل بدء الرحلة هذه ركب معهم "السايس" العراقي لكي
يقوم بخدمتها والاعتناء بها طوال الرحلة. وفي الطريق هاج البحر وماج، وأخذت الأمواج
والرياح تلعب بالسفينة وحمولتها، وأخذت الخيول تصهل والبحارة تتراكض، وشاهد السايس
العراقي غضب البحر لأول مرة في حياته،، فاختبأ في غرفة تحت "النيم" أو سطح السفينة
الخلفي، وأخذ يراقب البحارة وهم يتسابقون لإنقاذ سفينتهم وأنفسهم، وأخذ يدعو الله
أن يسلمهم من هذا "الطوفان" العظيم. ولما أراد الله أن تهدأ الرياح ويسلم الجميع،
خرج السايس العراقي من غرفته وصعد إلى السطح العلوي حيث كان النوخذة جالسا، وأقبل
عليه رافعا "الحراوية" من على رأسه، ولما واجه النوخذة ضرب بالحراوية على سطح
السفينة قائلا:
"هذا إلكم يا أهل
الكويت"، أي أشهد أنكم حقا أهل البحر ورجاله.
ثم إن العراق كان
آنذاك بيئة ثقافية واجتماعية تختلف عن البيئة الكويتية. فالمدارس منتشرة فيه، وكذلك
الصحف والمجلات، وهذا ما دفع ببعض التجار الكويتيين إلى إرسال أبنائهم إلى بغداد
والبصرة للدراسة في مدارسها. فعلاقة الكويت بالعراق كانت علاقة تجارية وثقافية. أما
من الوجهة السياسية فقد كانت الكويت تفخر دائما باستقلالها وبكيانها وطابعها
المتميز في الخليج.
ثم هناك اتصال
الكويتيين بساحل اليمن الجنوبي والغربي. ففي الموسم الملائم من كل عام تبحر سفن
السفر الكويتية حاملة التمور إلى بنادر الشمر والمكلا وعدن. وكيف لنا أن نصف عدن في
ذلك الوقت (في الثلاثينيات من هذا القرن)؟ لقد كانت فرضة بحرية كبيرة، وبها تجار
كبار وحركة تجارية عظيمة، فحين تصلها سفن الكويت وتبيع ما عليها من تمر فيها، تحمل
منها البضائع والحبوب إلى بنادر أخرى في البحر الأحمر والقرن الإفريقي مثل بنادر
الحديدة وبورسودان وجيبوتي وبربره الصومالي.
قرنفل زنجبار وخشب
الهند
لم تقف الرحلات
الكويتية عند حدود اليمن. فمن المكلا والشمر تشحن سفن الكويت المئات من الركاب إلى
ساحل إفريقيا الشرقي للعمل هناك، إلى جزر لامو وممباسا وزنجبار، كما تشحن بالملح
الزراعي من اليمن ومن رأس حانون الصومالي إلى هذه الموانىء الإفريقية. وحين تترك
السفن بندر المكلا تتجه صوب الساحل الإفريقي الشرقي، هذا الساحل الذي مرت عليه سفن
العديد من الأمم حتى الصينيون وصلوا بسفنهم الشراعية إلى بنادر الساحل العريق.
وعندما يلوح لهم "رأس عصير"،- ويلفظ إعصير- وهو بداية الساحل الإفريقي، يستمرون في
الإبحار جنوبا حتى ميناء لامو، فينزل بعض الركاب هناك، ويبقى البعض الآخر حتى ميناء
مياسا الشهير، وبعد أيام في مياسا يستعدون للإبحار جنوبا إلى زنجبار، الجزيرة
الخضراء البديعة، وفى هذه الجزيرة يمضي البحارة أياما هي في الواقع أفضل أيام
الرحلة كلها بالنسبة لهم، ويتجولون في أسواق زنجبار، ويشمون رائحة القرنفل تملأ
الجو، ويستعدون لرحلة الشقاء داخل دلتا نهر الروفيجي في تنزانيا لشراء أعمدة
المنجروف (الجندل)، والتي كانت تستخدم أسقفا للمنازل في الكويت وفي غيرها من بلدان
الخليج. ولا يسع المجال هنا لوصف التعب والمعاناة التي كان يتكبدها مثل هؤلاء
البحارة المغامرين، ولكنهم وبعد شهر من الجحيم في هذه الدلتا اللعينة، يبحرون
عائدين للوطن بعد تسعة أشهر متصلة من العمل والتغرب عن وطنهم وأهاليهم في بنادر
المحيط الهندي وبحر العرب.
ولم يكن ساحل
إفريقيا الشرقي المكان الوحيد الذي يبحر تجاهه أمثال هؤلاء الرجال، بل هناك أيضا
الهند بجلالها وعظمتها. وحين يذكر الكويتيون الهند فكأنهم يذكرون أماً عزيزة على
قلوبهم. فعلاقتهم بالهند أيضا لم تكن مجرد علاقة تجارية، بل كانت أيضا ثقافية
واجتماعية. وهي علاقة وطيدة وقديمة. فمنذ أن بدأ السفر الشراعي الكويتي خارج
الخليج، وبنادر ساحل الهند الغربي تحظى بأكبر نصيب في سفن السفر التي كانت تنقل
التمور وتعود محملة بأخشاب الهند التي كانت لازمة لصناعة السفن في الكويت وفي غيرها
من دول الخليج. ولقد كانت التجارة بين الكويت والهند مزدهرة حتى أن العملة
المتداولة في الكويت وحتى الاستقلال كانت الروبية الهندية. كما أن بعض التجار
الكويتيين افتتح له مكتبا تجاريا في مدينتي بومباي وكراتشي وسكن هناك. نذكر على
سبيل المثال التاجر الكبير محمد سالم السديراوي والتاجر مساعد أحمد البدر، والتاجر
مرزوق المرزوق في مدينة كراتشي، وجميعهم عملوا في التجارة بين الكويت والهند كوكلاء
بالعمولة.
تأثيرات
السفر
لقد أثرت الهند
اجتماعيا وثقافيا في أهل الكويت. فبعض الكويتيين تزوج من هناك، كما درس بعضهم في
مدارس الهند، وتعلم فيها بعض اللغات الحية، وبرز فيهم الكتاب والشعراء والتجار،
ومازال بعضهم يسكن الهند إلى هذا اليوم. وحتى طريقة الجلوس على الأرض التي كانت
منتشرة بين الكويتيين في الماضي، جاءتهم من الهند. فإذا أنت تأملت أحد كبار السن
الكويتيين هذه الأيام وهو جالس على الأرض وقد وضع ساقه متشابكة فوق الأخرى، فتأكد
أن هذه الطريقة في الجلوس هي إحدى حركات "اليوغا" الهندية المعروفة. وأما عن
الكلمات الهندية التي أصبحت جزءا من اللهجة الكويتية فعددها كثير، بل وحتى طريقة
التزين بالحلي والمصاغات الذهبية التي كانت نساء الكويت يتزين بها، فيها من تأثير
الهند الشيء الكثير.
والخلاصة أن
الكويت كانت منذ نشأتها وحتى اليوم ذات كيان متميز، وكان البحر بوابتها الشرقية
والبادية بوابتها الغربية، وكان للبحر تأثير كبير في تشكيل الحياة فيها. ولقد كان
من الممكن أن تستمر الكويت بلدا بحريا نشطا حتى اليوم لولا ظهور البترول فيها
واعتماد الحياة عليه كلية. ولكن من كان بإمكانه مقاومة إغراءات هذا المارد الجبار؟
فلقد عرض على الكويتيين عرضا لا يمكن رفضه فكان ما كان. ولم يبق اليوم سوى ذكريات
وتراث تحتاج منا إلى توثيق ودراسة وعناية به، حتى نستطيع أن نقدمه للأجيال القادمة
كدرس من دروس التاريخ.