اللغة حياة.. تذكير الصفة الدالّة على أُنثى

اللغة حياة.. تذكير الصفة الدالّة على أُنثى

لفتتنا إشارة في «العربي» تطالب باستعمال صفتَي: عُضوة ونائبة، لأنّ المجمع أقرّ الأولى، ولعدم وجود مانع لغويّ من استعمال الثانية؛ وذلك بمناسبة فوز نساء كريمات أربع بمقاعد في مجلس الأمّة الكويتيّ (العدد 609، أغسطس 2009)؛ واللغة تخضع، أحياناً، للتغيير السياسيّ الاجتماعيّ: لقد صار للنساء حضور أفعل، فصار لتاء التأنيث حقوق لغويّة أظهر. إنّها حياة اللغة.

ويُرجعنا هذا إلى ما جرى في المؤتمر العلميّ الذي عقد في مكّة المكرّمة، عند اختيارها عاصمة للثقافة الإسلاميّة سنة 2005، إذ قُدِّمت بعض المحاضِرات بصفة «أستاذ»؛ فنهض صديقنا المجمعيّ ناصر الدين الأسد، وقال بضيق: «في العربيّة يقال الأستاذةُ فلانةُ لا الأستاذ فلانة». فصعِدتُ المنبر لأعلن أنّنا، نحن اللبنانيّين، نتحمّل وزر هذا الاستعمال وأمثاله، لأنّ الشيخ عبد الله العلايليّ، رحمه الله، قد أفتى، في ما نسبوه إليه، أن تبقى الصفة مذكّرة إذا غلبت على الذكور، سواء وُصف بها الرجال أو النساء. وبعد مدّة لاحظتُ أنّ المجمع قرّر «عدم جواز وصف المرأة في ألقاب المناصب والأعمال» بصفة مذكّرة كأن «يقال: فلانة أستاذ، أو عضو، أو رئيس، أو مدير» وأوجب إلحاق علامة التأنيث بكلّ ذلك؛ ولا أعرف التاريخ الذي صدر فيه ذلك القرار.

ولعلّ ابتداء هذه المشكلة أنّ نائبة لبنانيّة لا تفقه من العربيّة شيئاً، طلبت من الناس دعوتها بالنائب لا النائبة، حتّى لا يلتبس لقبها بمعنى المصيبة؛ والظاهر أنّها كانت تخشى التوريات؛ ولا ندري أيّ شيطان وسوس للصحافيّين والساسة، فجاراها كثير منهم في ذلك. ومع أنّني كتبت مقالة مطوّلة في كبرى الصحف اللبنانيّة مخطّئاً هذا الأسلوب، ظلّ بعض الصحافيّين والساسة يصرّون عليه. وحين اتّصلت بأحد مسئولي تلك الصحيفة أعاتبه على ذلك، على الرغم من نشر مقالتي عنده، أجابني: هو استعمال أجازه العلايليّ. وكان العلايليّ سلطة لغويّة قلّما يستطيع لبنانيّ أن يعارضها، مهما قويت حجّته. وكتبتُ مقالة أخرى في الموضوع نفسه، وببراهين جديدة على خطأ تلك الإجازة، لكنّ الاستعمال ظلّ سائداً.

وأُقدّر أنّ مستند الشيخ العلايليّ - إن صحّ ما نُسب إليه - هو الفصل الذي عقده أبو بكر الأنباريّ في كتابه «المذكّر والمؤنّث»، ونقَله عنه ابن سيده في «المخصّص»، وخلاصته أنّ بعض الصفات التي وصفت بها الإناث، عُرِّيت من علامة التأنيث، لغلبة وصف الذكور بها، كقولهم: أمير بني فلان امرأة، وفلانةٌ وصيُّ بني فلان ووكيل فلان، وفلانة شاهد بني فلان، إلخ.. مجيزَيْن القول مع ذلك: أميرة ووصية.. إلخ.

والحقيقة أنّ ذلك الأسلوب لا يختصّ بالناس، ولا بالصفات الغالبة عليهم، بل هو ضرب من الإخبار يقع على كلّ شيء؛ فنحن نقول في المنطق وشبهه: والدليل على ذلك عبارة كذا، ولا نقول والدليلة على ذلك، لأنّه أصبح مصطلحاً مذكّراً، معناه: يدلّ على ذلك. ومِثله قولنا: والآية الكريمة شاهدٌ على ذلك، أي تشهد على ذلك؛ ومثله في القانون: والقرينة على ذلك الدم على يد المتَّهم، ولا نقول القرين. ونقول في النحو: فلانة فاعل، أو مفعول به.. إلخ. ولا نقول فاعلة أو مفعول بها. وربّما سأل أحدُهم: مَنْ عميد الكلية؟ وهو لا يعرف جنس العميد؛ فيجاب: عميدها فلانة؛ بتكرار الاسم المذكّر الذي استعمله السائل؛ ويصحّ أن يجاب: عميدتها فلانة؛ ويقال: وظيفة الحاكم سياسة الرعيّة، لأنّ التعميم يكون غالباً بالتذكير. لكنّه لا يقال: حضرتْ فلانةُ عميدُ الكلية، أو حاكمُ الولاية؛ وذلك لأنّ التابعَ المشتقّ (وأحياناً المؤوّل بمشتقّ) يوافق متبوعه في التأنيث والتذكير.. إلخ. إلاّ في حالات خاصّة ليست هذه منها.

ولقد ابتدع العرب علامات التأنيث، ولاسيّما التاء، لتمييز المؤنّث من المذكّر. وقاعدة أمن اللبس - وهو هنا الخلط بين المؤنّث والمذكّر - من أهمّ قواعد اللغة، وقد تقضي بفرض التقديم والتأخير، أو زيادة كلمات أو أحرف أو علامات خاصّة.. إلخ. وما دام الأمر كذلك فلا يجوز ترك تلك العلامات، ما لم تكن الصفة خاصّة بالإناث، وإلاّ التبست الأمور. فإذا قرأ أحدهم كلمة «طبيب نسائيّ» على لافتة بعض العيادات، وكان مضطرّاً لعرض زوجته على طبيبة، ويرفض لسبب ما أن يعرضها على طبيب، وكان اسم صاحبة العيادة ملتبساً يطلق على الذكور والإناث مثل «سلام»، فإن هذا قد يفضي بالرجل إلى الامتناع عن دخول تلك العيادة. لكن إذا عمّ الاتفاق على زيادة علامة التأنيث على ألقاب النساء، فإنّ ذلك يجنِّب المستعمِل الحيرة، ويعلم، مثلاً، أنّ سلامَ المشارَ إليها امرأة.

وفي لبنان نائب ونائبة من أسرة الحريريّ؛ فإذا استعملنا «النائب» للمذكّر والمؤنّث وقلنا: ألقى النائب الحريريّ كلمة، فإنّنا لا نعرف أيّهما المقصود؟! وكان في لبنان مديرة عامة اسمها نعمة كنعان؛ ونعمة اسم يطلق على الرجال والنساء في هذا البلد؛ وكانت توصف في الأخبار بالمدير العامّ للشئون الاجتماعيّة، وقد ظلّ كاتب هذه المقالة حائراً في كونها ذكراً أو أنثى حتى رأى صورتها الجميلة على التلفاز.

وإنّ تعميم التذكير قد يؤدّي أيضاً إلى العُجمة، كأن يقال: ألقت الأستاذُ فلانة محاضرة؛ ولا يستقيم في العربيّة لا إلحاق علامة التأنيث بفعل فاعله مذكّر حقيقيّ، غير دالّ على جمع، ولا أن يكون البدل من المذكّر الحقيقيّ مؤنّثاً حقيقيّاً، إلاّ على سبيل التهكّم أو الذمّ.

ومعروف أنّ الرجال الحضريّين كانوا يمارسون كلّ المهن والأعمال، تقريباً، سواء في السلم أو في الحرب، ولم يكن للمرأة إلاّ أعمال قليلة؛ وأنّ كثيراً من الصفات الخاصّة بالإناث تخلو من علامة التأنيث، لأنّ معناها لا يلتبس على الناس مثل الحامل والطالق.. إلخ. فلو طبّقنا مبدأ تذكير الصفات الغالبة على الذكور، فإنّه لن يبقى للنساء إلاّ قليل ممّا يفرّقهنّ عن الرجال، ولن تبقى لا عاملة ولا كاتبة ولا شاعرة ولا مذيعة، ولا ما أشبه ذلك، وسيصبح كل هؤلاء النساء ذكوراً، وهذا يخلّ بالتوازن التعبيريّ والاجتماعيّ.

ولنطبّق القاعدة بصورة عكسيّة. إن غزْل الصوف وغسْل الثياب، مثلاً، ظلاّ أمداً طويلاً من أعمال النساء الخاصّة، فهل نصف الرجل الممتهن لأحد هذين العملين بالغازلة أو الغاسلة أو الغسّالة، ونحن لا نريد المبالغة؟ كلا، وهذا يدلّ على ضعف القول بغلبة الصفات.

أما قضية عضو وعضوة فسنعرض لها في مقالة آتية.

والخلاصة أنّ القاعدة تقضي بالتفريق بين الإناث والذكور بعلامات خاصّة ترفع اللبس، وما يخالف ذلك استثناء لا يجوز فرض العمل به، من أجل وساوس وأوهام.

 

 

 

مصطفى عليّ الجوزو