جمال العربية.. علي محمود طه: الملاح التائه وميلاد شاعر

جمال العربية.. علي محمود طه: الملاح التائه وميلاد شاعر

تربّع على عرش الشعر في مصر طوال ثلاثينيات القرن العشرين وأربعينياته، بعد أن ذاعت شهرته وطبّقت آفاق الوطن العربي بفضل قصائده المغناة: الجندول وكليوباترا وفلسطين.

كان علي محمود طه - أول شاعر مصري في العصر الحديث - يتصف شعره بالأناقة وجمال اللغة وسحْر التعبير وروعة الخيال وانطلاقه، حتى ليحسب قارئه أنه ينتمي إلى مدرسة الشام الشعرية - في سورية ولبنان - التي جعلت من التأنّق والتجمّل والافتنان في التعبير أقانيمها المقدسة.

كما كان أول شاعر مصري في العصر الحديث، يجوب الآفاق، ويعشق الأسفار، ويطلق على نفسه لقب الملاح التائه، إشارة إلى رحلاته الصيفية المتتابعة إلى أوربا ما قبل الحرب العالمية الثانية، فتستوقفه فتنة الطبيعة وفتنة الحسان وفتنة التحرر والانطلاق، ويصنع من هذه الفتن الثلاث سبيكته الشعرية المتفردة، التي جاءت على صورة ومذاق مغايرين للسائد والمألوف، وبخاصة أن الساحة الشعرية في مصر كان يتنازعها تياران: إحيائي يتمثّل في علي الجارم ومحمود غنيم وغيرهما وتجديدي يتمثّل في خليل مطران والعقاد وشعراء أبولو: محمود حسن إسماعيل وإبراهيم ناجي وعلي محمود طه وغيرهم. وأطلقت قصائد الملاح التائه خيال قرائه - الذي كان يئوده الحرمان والتقييد والانحباس في بيئة شرقية شديدة التخلف والتزمّت - ليجد مسراه وآفاقه ومباهجه من خلال ما توقف عنده الشاعر وأبدع في تصوير لوحاته ووجوه شخوصه وطبيعة اهتماماته، وبخاصة أنه أفسح للمرأة مساحة واسعة من دواوينه بدءًا بديوانه الأول: الملاح التائه، فديوانه الثاني: ليالي الملاح التائه، فالثالث: أرواح وأشباح، فالرابع: زهر وخمر، فالخامس: الشوق العائد، فالسادس: شرق وغرب. وعندما رحل شاعرنا عن ثمانية وأربعين عامًا عام 1949، كانت قصائده المغناة قد أغرت ألوفًا مؤلفة بقراءة دواوينه، والبحث عن آثاره التي لم تضمّها كتبه المنشورة، وكان هناك إغراء ثانٍ بالكتابة عنه، ومقاربة شعره، والاهتمام بتحليل هذا الشعر خاصة في مجال العلاقة مع المرأة، وكان كتاب الناقد أنور المعداوي: «علي محمود طه: الشاعر والإنسان»، وكتاب الشاعرة نازك الملائكة: «شعر علي محمود طه»، الذي حملت طبعته الثانية عنوانًا آخر هو «الصومعة والشرفة الحمراء» وكتاب السيد تقي الدين: «علي محمود طه: حياته وشعره»، أبرز تجليات هذا الإغراء بالكتابة عنه شاعرًا وإنسانًا، والغوص في مكوناته الإنسانية التي اتكأت إليها صورته وحقيقته الشعرية. وكان منهج «الأداء النفسي» الذي اتبعه أنور المعداوي في تحليل عدد كبير من قصائده كاشفًا عن حيرة علي محمود طه وتقلّبه بين حُبين مختلفيْن، فهو في حبه الروحي الأول مثال الرجل الذي لم يتذوّق غير صنفٍ واحدٍ من الطعام، أو الرجل الذي لم يكن له من مأوًى في الحياة غير حجرة واحدة. وهو في حبه الجسديّ الأخير مثال الرجل الذي جلس إلى المائدة الحافلة، أو الرجل الذي تنقل في البيت الكبير بين شتى الحجرات: عذاب ولهفة وإشفاق. وصور أخرى فيها الهدوء للحسّ الفائر، والسّكينة للفكر القلق، والحرية للشعور المكبوت.

ثم يقوده منهجه في الأداء النفسي إلى أن يقول: «هكذا كان علي محمود طه في حياته، وهكذا كان في شعره. لا تفرقة بين تذوق اللذة وتذوق الجمال، ولا فصل بينهما في عالم الشعور أو عالم المنظور. لقد عشق المرأة في صورة الجسد اللذيذ وعشق في الجسد اللذيذ صورة المعنى الجميل، ومن هنا امتزج الإحساسان في نفسه حتى أصبحا وحدة متماسكة، ليس إلى تجزئتها من سبيل. إن فيه «الرجل» الذي أقبل على المادة، وإلى جانبه «الشاعر» الذي أقبل على الروح، وهما لونان من الحب بينهما من القرب ما يلغي الفواصل ولا يعترف بالأبعاد».

ثم يقول أنور المعداوي: «لقد لقي المرأة وهي في ثوب الخليلة، ولقي المرأة وهي في ثوب الصديقة، ولكنه لم يلْق المرأة وهي في صورة الأم، هذي المرأة التي يمكن أن تشغل البقعة الخالية في وجوده الداخلي بحنان الأمومة، لكم بحث عن هذا النموذج الأنثوي الذي يسدّ فراغًا تركته الأم وهو صغير، حتى لقد ظلّ يتطلع إليه بلهفة الطفل التي لم ينتزعها من بين جنبي الرجل تعاقب الأيام. فقد الشاعر أمه الحانية، فقضى العمر يبحث عن ظلها في صورة زوجة، زوجة تشاطره الحياة، وتُنسي الطفل الكبير أنه يتيم».

وعلي محمود طه هو أيضًا أول شاعر مصري في العصر الحديث يهيم بفكرة «الشاعر» ويحاول أن يجلو طبيعته ومدى اختلافه وتفرده عن الناس شعورًا وإحساسًا، وتوقفًا أمام الجمال، وقدرة على التعبير عن كُنْه ما يجيش به وجدانه وتضطرم به أعماقه. فهو يرى في ميلاد الشاعر بشرى للكون، وفرحًا للكون كله، ومهرجانًا للطبيعة تسفر فيه عن ألوان جمالها ومفاتنها، ألوانًا وعطورًا وصورًا وبدائع شتى، لقد تزيّنت الأرض، وانساب العطر وازدهت السماء بالنجوم والكواكب، وتجلّى المساء في ضوء بدر، والنجوم السّابحات في الماء كأنها قبلات يهفو لها ثغر حالم. وهو في ختام قصيدته عن ميلاد الشاعر واهتزاز الكون له - فرحًا وابتهاجًا - يدعوه إلى إطلاق قيثارته بالعزف والشدو والغناء، جاعلاً من الحب والجمال شعاره، داعيًا ربّه الذي بارك الوجود.

يقول علي محمود طه في قصيدته «ميلاد شاعر»:

هبط الأرضَ كالشعاعِ السنيِّ
بعصا ساحرٍ وقلب نبيِّ
لمحةٌ من أشعة الروح، حلّت
في تجاليد هيكلٍ بَشريِّ
ألهمت أصغريْه من عالم الحكْـ
ـمةِ، والنور كلَّ معنًى سريِّ
وحَبتْهُ البيانَ، رِيًّا من السِّحْـ
ـرِ، به للعقول أعذبُ رِيِّ
حينما شارفت به أُفقَ الأر
ضِ، زها الكونُ بالوليد الصبيِّ
وسبى الكائنات نور مُحيّا
ضاحكِ البشر عن فؤادٍ رضيِّ
صورُ الحسنِ حُوَّمٌ حول مهدٍ
حُفَّ بالورد والعمار الزكيِّ
وعلى ثغره يضيءُ ابتسامٌ
رفَّ نورًا، بأرجوانٍ نديِّ
وعلى راحتيْه ريحانةٌ تنْـ
ـدَى، وقيثارةٌ بلحنٍ شجيِّ
فحَنتْ فوق مهده تتملّى
فجر ميلاد ذلك العبقريِّ
وتساءلن حيْرةً: مَلكٌ جا
ءَ إلينا في صورة الإنسيِّ؟
من تُرى ذلك الوليد الذي هشَّ
له الكونُ من جمادٍ وحيِّ؟
من تُراهُ؟ فرنَّ صوتٌ هتوفٌ
من وراء الحياةِ شاجى الدويِّ:
إنَّ ما تشهدون ميلادُ شاعر!

* * *

كان وجهُ الثرى كوجْهِ الماءِ
رائقَ الحسنِ، مستفيض الضياءِ
حين ولّى الدجى وأقبل فجرٌ
واضحُ النور مُشرقُ اللألاءِ
بهجٌ في السماء والأرض يُهدي
من غريب الخيال والإيحاءِ
صفّقت عنده الخمائلُ نشوى
وشدا الطيرُ بين عُودٍ وناءِ
مظهرٌ يبهرُ العيونَ وسحرٌ
هزَّ قلب الطبيعة العذراءِ
وجلا من بدائع الفنِّ روضًا
نمّقتْهُ أناملُ الإغراءِ
ما الربيع الصّناعُ أَوْفى بَنانًا
منه في دقةٍ وحُسْنِ أداءِ
نسقَ الأرض زينةً وجلاها
قسماتٍ من وجهه الوضَّاءِ
ربوة عند جدولٍ عند روضٍ
عند غيْضٍ، وصخرةٌ عند ماءِ
فزَها الفجرُ ما بدا وتجلّى
وازدهى بالوجود أيَّ ازدهاءِ
قال: لم تُبْدِ لي الطبيعةُ يومًا
حين أقبلْتُ مثل هذا الرُّواءِ
لا، ولم يسْر ملْء عيني وأُذْني
مثل هذا السَّنا وهذا الغناءِ
أيّ بُشرى لها تجمّلتِ الأر
ضُ، وزافت في فاتنات المرائي؟
علّها نُبئّت من الغيب أمرًا
حملتْهُ لها نجومُ المساءِ
قال: ماذا أرى؟ فردّد صوتٌ
كصدى الوحي في ضمير السمّاءِ
إنّ هذا يا فجرُ ميلادُ شاعر!

* * *

كان فجرٌ، وكان ثمَّ صباحُ
فيه للحسنِ غُدوةٌ ورواحُ
بكَرتْ للرياض فيه عذارَى
تزدهيهنَّ صبوةٌ، ومَراحُ
حين لاحت لهنَّ رنَّ هتافٌ
وغَلتْ بالدماء منهنَّ راحُ
قلن: ما أجمل الصباحَ فما حلَّ
على الأرض مثل هذا صباحُ
فتعالوا بنا نُغنيِّ ونلهو
فهنا اللهوُ والغناءُ يُتاحُ
وهنا جدول على صفحتيْهِ
يرقصُ الظلُّ والسَّنا الوضّاحُ
ونسيمٌ كأنه النَّفسُ الحائـ
ـرُ، تُصغي لهمسهِ الأدواحُ
مثل هذا الصباحِ لم يلد الشَّرْ
قُ، ولم تُنجب الشموسُ الوِضاحُ
لكأنّا بالكون أعلامُ ميلا
دٍ، وعرسٌ قامت له الأفراحُ
أيٌ حسنٍ نرى، فردّد صوتٌ
شِبْهُ نجوى، تُسرُّها أرواحُ
إنّ هذا الصباحَ ميلادُ شاعرْ!

* * *

أفقُ الأرض لم يزلْ في حواشيـ
ـه صدًى حائرٌ، بألحانِ طيْر
وعلى شاطئ الغدير ورودٌ
أغمضتْ عيْنَها لمطلعِ فجْرِ
وسرى الماء هادئًا في حوافيـ
ـه، يُغنّي ما بين شوكٍ وصخْرِ
وكأنَّ النجوم تسبحُ فيه
قبلاتٌ هَفتْ بحالمِ ثَغْرِ
وكأنّ الوجود بحرٌ من النُّو
رِ على أُفْقهِ الملائكُ تسْري
هتفت نجمةٌ: أرى الكونَ تبدو
في أساريره مخايلُ بِشْرِ
وأرى ذلك المساءَ يثيرُ السِّحْـ
ـرَ والشجْوَ ملْءَ عيني وصدري
أتُرانا بليلة الوحي والتّنْـ
ـزيل؟ أم ليلة الهوى والشعر؟
ما لهذا المساء يشغفنا حُبًّا
ويُوري بنا الفنونَ ويُغري
أيُّ سرٍّ تُرى؟ فرنَّ هتافٌ
بنجيٍّ من الصدى، مُستسرِّ
إن هذا المساءَ ميلادُ شاعر!

* * *

قمرٌ مشرقٌ يزيدُ جمالا
كلّما جدَّ في السماءِ انتقالا
وسكونٌ يرْقى الفضاءَ، جناحا
هُ، على الأرضِ يُضفيان جلالا
هذه ليلة يشفُّ بها الحُسْـ
ـنُ، ويهفو بها الضياءُ اختيالا
جوُّها عاطرُ النسيم يُثيرُ الـشـ
شَجْو والشعر والهوى والخيالاَ
وإذا النهرُ شاطئًا ونميرًا
يتبارى أشعةً وظلالا
وسرى فيه زورقٌ لحبيبيْـ
ـنِ، شجيِّيْن ينشدان وصالا
يبعثان الحنين في صدر ليلٍ
ليس يدري الهمومَ والأَوْجالا
شهد الحبّ منذ كان روايا
تٍ، على مسرح الحياة تَوالىَ
وجَرتْ ملْءَ مسمعيْهِ أحاديـ
ـثُ، عفا ذكْرُها لديه ودالا
ذلك الباعثُ الأسى، والمثيرُ النَّا
ر في مهجة المُحبِّ اشتعالا
وتجلّت له الحياةُ وما فيـ
ـها، فراعتْهُ فتنةً وجمالا
فَجثا ضارعًا: أرى الكون ربّي
غير ما كان صورةً ومثالا
لم يكن يعرف الصبابة قلبي
أو تعي الأذُنُ للغرامِ مقالا
أتُراها تغيّرت هذه الأر
ضُ، أم الكونُ في خياليّ حالا
ربّ ماذا أرى؟ فَرنَّ هُتافٌ
مُستسَرُّ الصدى، يُجيبُ السّؤالا
إن هذا يا ليل ميلادُ شاعر!

* * *

أيها الشاعر اعتمدْ قيثارَكْ
واعزفِ الآنَ مُنشدًا أشعارَكْ
واجعل الحبَّ والجمالَ شعارَكْ
وادْعُ ربًّا، دعا الوجودَ وباركْ
فزها، وازدهي، بميلاد شاعر!

 

 

 

فاروق شوشة