شهادات ونجوم: قانون تاجر البهار والسينما المصرية يوسف جوهر

شهادات ونجوم: قانون تاجر البهار والسينما المصرية

منذ أن دخلت في أجواء السينما المصرية ككاتب للسيناريو في أواخر الثلاثينيات فوجئت بأن هناك لغة وأجواء خاصة تسود بين المخرجين والمنتجين في هذه الأيام، وكان علي عدم السير قدما إلا وفق حسابات خاصة.

جلسنا أمام تاجر البهار الذي سأل بكل ثقة: "هي القصة دي فيها كام مشقفة" فرد المخرج لفوره: "خمسة.. وملحقاتهم".. وكان علي أن أفهم لغة هذا القاموس الغريب الذي يجب التعامل به. وسرعان ما عرفت أن تاجر البهار الذي يستعد لإنتاج فيلم، يسأل عن عدد الأغنيات والرقصات في الفيلم المزمع إنتاجه. وكيف لي أن أفهم هذا القاموس، وأنا الذي أرسلت ذات يوم وأنا في السنة الثانية بكلية الحقوق أولى قصصي إلى الدكتور محمد حسين هيكل رئيس تحرير جريدة "السياسة"، فإذا بي - قبل إحدى المحاضرات، في عام 1932 - بأستاذنا محمد عطية الأبراشي، يدخل القسم متهللا. وفي يده جريدة "السياسة"، ويناديني، ثم يطلب مني أن أجلس مكانه، وهو يقول: "اقرأ على زملائك، قصتك المنشورة هنا".

إنه تناقض غريب بين رجل من طراز الأبراشي، يدفعني لقراءة الجاحظ، و"البيان والتبيين" وبين تاجر البهار، وهناك اختلاف كبير بين أعضاء لجنة التأليف والترجمة والنشر مثل أحمد أمين ومحمد فريد أبوحديد، وبين ذلك المخرج الذي صحبني إلى تاجر البهار. فقد شجعتني اللجنة على نشر عدة قصص متتالية في مجلة "الثقافة"، وكانت تمنحني جنيها بأكمله عن كل قصة، وهو مبلغ يكفي لأن يجعل شاباً في مثل سني، يتناول غداءه في شبرد، ويقيم في فندق فخم عندما يأتي من مدينة طنطا للإقامة في القاهرة.

وكان لا بد لهذا أن يدفعني أن أكتب إلى صحف ومجلات أخرى. فأرسلت إلى أحمد الصاوي محمد، في "مجلتي"، فنشر لي قصتي القصيرة "الساقية تدور" وكتب في المقدمة: "ننشر هذه القصة ليوسف جوهر المحامي بطنطا. ونعتز بها. ونتوقع له مستقبلا كبيراً إن شاء الله".

إذن فشتان بين ما كتبه الصاوي، وما سمعته من أقرانه عن قصصي الأولى، وبين ما قاله تاجر البهار.

ولا بد من الاعتراف الآن أن ما كنت أنشره في تلك الآونة لم يكن يندرج تحت اسم القصص القصيرة التي نعرفها جميعا. وإنما كانت بدايات. فالآن عندما أقرأ هذه القصص أحس أن المناخ العام في الثلاثينيات قد يراها أدبا جيداً، لكن، بكل أمانة، أحيانا اقرأ لكتاب مبتدئين فأجد مستوى قصصهم أحسن من مستوى القصص التي بدأت حياتي الأدبية بكتابتها. ولولا مصطفى أمين ما تنبه السينمائيون إلى هذه القصص، فقد فوجئت برسالة من ذلك الكاتب الشاب آنذاك، وطلب مني مقابلته، فوجدته متحمساً لي. وطلب مني أن أكتب له أسبوعيا قصصاً في آخر ساعة. ومازلت اذكر أنه وقف معي على سلم المجلة لإقناعي أن مبلغ "جنيه" كمكافأة للقصة يعتبر أجراً عظيما، وأنه لو لم يكن واثقا من أن القصة ستزيد من دخل المجلة عشرة جنيهات ما نشر لي.

حرفية السيناريو

هذه القصص المنشورة في "آخر ساعة" دفعت المهندس حسين سعيد باشا، رئيس ستوديو مصر، وقد كان خالا للملكة فريدة، إلى الاتصال بي عن طريق المخرج إبراهيم عمارة وأخبرني أنه سيكون سعيدا لو دخلت عالم السينما، وكتابة قصص سينمائية. فحضرت إلى القاهرة وقابلته، وكان حاضراً في تلك المقابلة حسني نجيب مدير الاستديو، وهو شقيق لسليمان نجيب، وأخبرني بأن المدير الفني للاستديو اندريه فينيون قد كتب قصة عن مصر، ويحتاج إلى أن نكتب لها السيناريو والحوار. وكانت المرة الأولى التي أسمع فيها تعبير "سيناريو". وبدأت أتعلم كيف يكتب، وما هي أصوله، وبينما أنا في حالة تعلم، أخبرني صديقي الدكتور الفونس بشارة أن لديه مريضه تدعى مدام "آسيا" تود التعرف عليّ. وعندما التقينا طلبت مني أن أكتب لها قصة أول فيلم يخرجه هنري بركات. فكتبت لها بمساعدة المخرج فيلم "المتهمة" المأخوذ عن "مدام اكس". لم أكن أعرف شيئا عن القصة، لكن بركات حكى لي شفاهة تفاصيل الرواية. وكان يتابعني في الكتابة حتى جاء فيلمنا الأول. وما إن انتهيت من كتابة "المتهمة"، حتى وجدت نفسي قد عرفت الكثير عن حرفية السيناريو، فعكفت على كتابة الفيلم الذي طلبه ستديو مصر، والذي أخرجه عبدالفتاح حسن تحت عنوان "أرض النيل". وفكرت في أن الخطوة التالية يجب أن تكون مأخوذة عن إحدى قصصي المنشورة، وشجعني على ذلك إبراهيم عمارة الذي قام بإخراج "الزلة الكبرى" عام 1943.

في تلك الآونة، كانت عملية كتابة السيناريو تتم بشكل جماعي. حيث يجلس المخرج والمؤلف، وأحيانا المنتج، للتشاور في اختيار القصة، وصياغتها وكان بعض المخرجين ينظرون إلى المؤلف باعتباره من "الكتبة"، لذا كانوا ينسبون السيناريو لأنفسهم ويهضمون حقوق الكاتب. وبدوت كأنني لا أعاني فقط من أمثال تاجر البهار ولكن أيضا من المخرجين، ولذا لم أشأ الوقوع في هذه الحبائل، خاصة بعد أن فزنا نحن الأدباء الشبان الأربعة بجائزة المجمع اللغوي: نجيب محفوظ، وعبدالحميد جودة السحار وعادل كامل وأنا، وقد شجعني ذلك أن احول قصتي "عودة القافلة" الفائزة بالجائزة إلى فيلم، افخر أنه يحمل اسمي، باعتباره أول عمل روائي لي يتحول إلى فيلم.

والطريف أن الفيلم قد شاهدة الناس، قبل أن أتمكن من طباعة الرواية بسنوات، والتي حملت اسم "جراح عميقة". ولم يكن من الممكن أن أقوم بتحويل كل ما أكسبه إلى سيناريوهات أفلام. فباعتبار أنني كونت فريقا مع المخرجين الذين آثرت التعامل معهم مثل أحمد بدرخان، وهنري بركات وإبراهيم عمارة، فقد كان أحدنا يختار القصة، ثم نجلس للتشاور في كيفية كتابتها. وهكذا تولدت بعض الأفلام مثل "أمير الانتقام"، حيث أن بركات كان معجبا برواية "الكونت دي مونت كريستو"، أما بدرخان فقد بدا متحمسا لموضوع فيلم "الأبرياء" الذي قامت ببطولته رجاء عبده مع حسين صدقي في بداية الخمسينات، وهو من الأفلام القليلة في تلك الفترة التي اهتمت بمشكلة الطفولة المشردة. أي أننا كمجموعة سينمائيين قررنا أن نضع في اهتمامنا مشاكل المجتمع، بعيدا عن الحواديت التقليدية و"الشقفات" التي يعجب بها تاجر البهار. كان كل همنا، إذن، هو أن نغير شكل السينما، فبعد اندفاع مشكلة الشباب إلى التعلق بالوظيفة الحكومية، ووجوب الإقلاع عن هذه العادة، قدمنا فيلم "الجيل الجديد" من إخراج بدرخان. لكن هذا لا يمنع إننا كنا نضطر إلى تقديم بعض الأفلام الغنائية التي مازالت تعجب الناس حتى الآن ومنها على سبيل المثال فيلم "أحبك أنت" الذي قام ببطولته فريد الأطرش، وأطرف ما يتذكره المرء عن هذا الفيلم أن بطلته سامية جمال، التي لم تكن تجيد القراءة والكتابة، كانت تبدى آراءها في السيناريو، وكأنها تفهم أفضل منا جميعا، وبدت وكأنها مسنودة من جهات مسئولة عليا، وتتكلم بما تملكه من سطوة. ووسط محطات الإبداع والتأليف مررنا بحياة "مصطفى كامل" وابتدعنا قصة حب لم تكتمل في حياة المناضل المصري. وعملت أكثر من مرة مع عز الدين ذو الفقار في "طريق الأمل"، و"الرجل الثاني" فوجدته موهوبا متدفقا بالعطاء. والطريف أن علي بدرخان قد طلب مني إعادة كتابة سيناريو "الرجل الثاني" مرة أخرى في آخر أفلامه "وداعا يا صديقي" ولكنني أجريت عليه الكثير من التغيرات.

أنا..وفريد الأطرش

لا أنكر أنني وجدت نفسي أحيانا أقدم أفلاما من طراز "كام شقفة" كنوع من المجاملة لأصدقائي، مثل فيلم "فتى أحلامي". ومن أجل الخروج من هذه الدائرة، كان لا بد من التفكير في عمل من طراز "دعاء الكروان".

وأطرف ما في الأمر أن الفنان فريد الأطرش كان أول من فكر في تحويل هذه الرواية إلى فيلم يقوم ببطولته. وفكرنا طويلا أنا وبركات، الذي كان موضع ثقة فريد الأطرش، في الأمر، ونحن نعرف تماماً مدى صعوبة تحويل مثل هذه الرواية البديعة اللغة إلى فيلم غنائي. فرحت اكتب الفيلم على طريقتي الخاصة، واذكر أنني كنت أصبحت كاتبا معروفا في تلك الآونة، عام 1958، ذهبت ومعي المعالجة إلى الدكتور طه حسين، وأنا ارتبك أمامه. كان عليّ أن اقرأ بلغة سليمة، فإذا بما أمام رجل متفتح يفهم ما هي السينما. وبدا كأنه يرى الفيلم أمام عينيه، ولم أجد أي صعوبة في إقناع الأستاذ بالتغييرات التي أحدثناها على الرواية، فقد لاحظ أننا قد حافظنا على روح النص.

وبعد أن تم التصوير، حضر العرض الخاص للفيلم، واقترح أن تكون النهاية مثلما في الرواية، ثم اقتنع بأن تكون النهاية السينمائية مختلفة عن نهاية الكتاب. وبدا وهو جالس معنا كأنه يرى جميع التفاصيل على الشاشة. هذا الفيلم عرض في إطار مهرجان برلين عام 1960، وقوبل بترحيب حار من جميع الوفود، برغم الاستهجان الشديد لمشهد ذبح الحمامة، كما رشح كأفضل فيلم أجنبي في الأوسكار في نفس العام. وقد عكس هذا الفيلم مدى دوري في محاولة تحويل الأدب العربي إلى أفلام، فلم أكن حريصا فقط على تحويل قصصي إلى أفلام، ولكن كل حرصي هو تقديم كتاب مصريين، نأخذ من رواياتهم إلى السينما مثل "الرباط المقدس" و"الأيدي الناعمة" لتوفيق الحكيم، و"الحب الضائع" لطه حسين، و "بين القصرين" لنجيب محفوظ. ولقد كانت تجربتي قاسية مع "بين القصرين"، ففي تلك الآونة، 1946، كان صلاح أبو سيف يعمل رئيسا لمجلس إدارة شركة مصر للإنتاج السينمائي، فرشح توفيق صالح لإخراج الفيلم، لكن الاتفاق لم يتم، وتولى حسن الإمام إخراج الفيلم، ومازلت لا أعرف ما علاقة رواية نجيب محفوظ بهذا الكم من الأرداف والنهود، واعتناء المخرج بهذه الأشياء أكثر من عنايته بالموضوع، وبرغم ذلك نجح الفيلم. مما دفع بالإمام أن يقدم بقية الثلاثية في السينما، لكن الصورة التي قدم بها "بين القصرين" دفعتني إلى عدم التعامل مع الجزأين التاليين.

أما "الحب الضائع" فبرغم أنه يحمل اسم طه حسين، فإنني أحس أن الأستاذ ليس هو المؤلف الأصلي للرواية، وقد قيل لي هذا، فهي ذات روح أجنبية. والموضوع مألوف يدور حول شخص يحب صديقة زوجته ويعيش معها. ومع ذلك حرصت وأنا اكتبه على أن أستند إلى مستواه الأدبي الراسخ الذي يحمل اسم طه حسين.

في السنوات الأخيرة، عدت مره أخرى إلى قصصي، ورواياتي التي انشرها في الصحف، فأحولها إلى أفلام، مثل "أمهات في المنفى"، و"موعد مع القدر"، و"البيه البواب" و "سواق الهانم" و"الفضيحة".

لكن بعد كل هذا العطاء الطويل في السينما (53 سنة)، فإن مأساة كاتب السيناريو المصري مع المخرج، أو شركة الإنتاج، لم تتغير، فقلما يصل الأصل الذي يكتبه المؤلف كسيناريو إلى الشاشة بنفس الصورة المكتوبة ودون أن يتعرض المخرج للنص الذي وافق عليه، وتعب الكاتب في مراجعته. فهناك بعض المخرجين الذين يتصورون أنهم لا يمكن أن يحملوا هذه الصفة إلا بعد إجراء تعديلات كثيرة في النص المكتوب، مما كان يدفعني للتساؤل في سخرية: "لكن أين ما كتبناه؟" ويرجع هذا إلى أن السينما عند نشأتها كانت تشهد تفاوتا ثقافيا بين المؤلف والمخرج. فعندما أعمل مع مخرج أقل ثقافة، فإنني أحاول الارتقاء بفكره. لكنني لم أنجح في هذا كثيراً. وقد حاولنا تقديم أفضل القصص في السينما، والابتعاد قدر الإمكان عن الاقتباس. وحتى الآن، برغم وجود أجيال تخرجت من معهد السينما، فإن الكثيرين منهم يفتقدون الثقافة الحقيقية؟ وبالتالي فإن مشاكل السينما المصرية عند بداياتي منذ أكثر من نصف قرن، لم تتغير كثيراً ونحن على مشارف نهاية القرن..

 

يوسف جوهر

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




لقطة من فيلم أمير الانتقام بطولة أنور وجدي وسامية جمال