ومتى تخرج الثقافة من عزلتها?

   ومتى تخرج الثقافة من عزلتها?
        

          في العدد (561) من (العربي) - أغسطس 2005 - تناول رئيس التحرير د.سليمان إبراهيم العسكري قضية غاية في الاهمية إن لم تكن أهم القضايا على ساحة الإصلاح العربي ألا وهي: صوت الثقافة مقدما لمعنى الثقافة تفسيرات تناولت شتى مناحي الحياة ومظاهرها بل كادت تنطق (مجتمعة) بأن الثقافة هي الحياة أو أن اللفظين مرادفان لمعنى واحد, وهو ما يعبر عن حب واحترام لقيمة الثقافة وأهميتها..

          فالملاحظ أن الإنتاج الثقافي بصفة عامة والرفيع منه بصفة خاصة لا تتعاطاه في المجتمعات العربية سوى طبقة محدودة العدد لا تكاد تمثل 10% من تعداد السكان, وهي نسبة لا أتصور أن تكون قادرة على النهوض بأمتها أو حتى بمجتمعاتها, بل إن الاقرب للعقل - وهو ما يحدث بالفعل - أن الاغلبية العددية للسكان تشد وتجذب هذه الطبقة أو الفئة الى أسفل. ولنضرب لذلك مثلاً واحدًا, ونقصد به كبار المثقفين أو المبدعين, فهم إما يصرون ويتمسكون بمستواهم الثقافي فينعزلون به عمن حولهم أو تدفعهم متطلبات الحياة لتقديم أعمال يبررونها بأن الجمهور يريد هكذا, بينما الحقيقة هي أن الجمهور لا يريد ذلك, بل إن منتجيها ينتشرون ويتفننون في محاصرة الطبقات الشعبية بهذه المهازل الفنية والأدبية... بينما يزداد كبار مثقفينا تقوقعا وانعزالا, ودخولاً في مبارزات لفظية وصراعات كلامية تنشرها الوسائط الإعلامية وكأنها تتعمد الإطاحة بما تبقى لهم من رصيد لدى الكادحين من الطبقات الشعبية من تقدير.

          وحتى في المحافل العلمية باتت الدراسات والأبحاث أكاديمية بحتة تسعى فقط للترقية ولا علاقة لها بحل أو علاج لمشاكل البشر أو أحلامهم وتطلعاتهم.

          وأزعم أن الجوائز (وقد صارت عديدة ومتنوعة) سواء المقدمة من الجهات الحكومية الرسمية أو المؤسسات الأهلية لا يهتم مانحوها بوضع القواعد والمواصفات التي تجعل للعمل الفائز أو المرشح للفوز ارتباطا بنشر الثقافة بين الناس أو جذبهم لتعاطيها, بل إنني أزعم أن المنطق المعمول به في منح الجوائز يزيد من نرجسية المبدعين وخلافاتهم البينية ويصب في اتجاه عزلهم وعزل إبداعاتهم عن الجمهور. لذا لا تخلو مسابقة في عالمنا العربي من الطعن على جوائزها بالمحاباة أو الاستقطاب... وأشياء أخرى.

          وأزعم أيضا أن مؤسساتنا ومنشآتنا الحكومية التي ينص قرار إنشائها على أن هدفها تثقيف الجمهور تحتاج الى وقفة ويحتاج أسلوب إدارتها إلى إعادة نظر, فلا يعقل أن يتولى غير المتفرغين إداراتها, ولا نتصور أبدا أن يتمكن المشغولون والمنشغلون بمهام ومناصب عديدة ومتعددة (أغلبها سياسية) من فهم وإدراك احتياجات إنتاج فكر أو إبداع, ولا نعتقد أن لديهم الوقت للاستماع إلى خطط وأساليب وبرامج جذب الجمهور ومتابعة تلك البرامج وتعديلها وتطويرها وفقا للمستجدات المتلاحقة فضلا عن أهليتهم هم أنفسهم لوضع تلك البرامج... لذا يصطدم المترددون على المنشآت التثقيفية (بمنطق الموظفين أو شعار: طفشهم علشان نرتاح)... فضلاً عن تلك المؤسسات التي تتعامل بمنطق الانتقاء أو التي تختار جمهورها فقط من ذوي الياقات البيضاء تاركة - عن عمد - غالبية الجمهور لما تبثه أغلب الفضائيات من أنماط تدعو إلى الإبتذال والإسفاف, فتزداد عزلة المثقفين ويتعاظم تجاهل الجمهور لأعمالهم, فتتسع الفجوة وتزداد الهوة وتتحول إلى مستنقع تسقط فيه محاولات الإصلاح الثقافي, ومن ثم وبالتبعية كل محاولات الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي.

          كل الابتكارات والإبداعات الناجحة في العالم كانت في الأساس فكرة... والفكر هو القاعدة للأنشطة الثقافية, وكلما اتسعت القاعدة ازداد ارتفاع الهرم وقوي بنيانه, لذا فإن انتشار الثقافات الرفيعة بين الغالبية العددية هو - من وجهة نظري - الحل الوحيد لإمكان فهم واستيعاب ونجاح المحاولات الإصلاحية أو التطويرية في كل المجالات واستمرار تجاهل تثقيف تلك الغالبية هو استمرار متعمد للاصطدام برافضي الإصلاح والتغيير مما يدعونا للاعتقاد بأن ما يقدم من أطروحات للإصلاح السياسي أو الاقتصادي أو حتى التعليمي هو من قبيل الاستهلاك المحلي وغير قابل للتنفيذ, لأن المطلوب منهم تنفيذ ما لا يفهمونه, أو إنهم في الأغلب لا يستمعون إليه لأن أحدا لم يدعهم لذلك أو يدربهم على فهمه... وإذا استمر ممتهنو تقديم أطروحات الإصلاح في محاولات فرضها - دون تمهيد تثقيفي - فستستمر في مواجهتهم ردود الأفعال: الرفض... التجاهل... التفنن في اكتشاف الثغرات... بدائل تحظى بشعبية... سلوكيات مضادة طاغية أو- مع الأسف - المواجهة بالعنف.

كفى بك داءً أن ترى الموت شافيا وحسبُ المنايا أن يكنَّ أمانيا


(المتنبي)

 

محمود الشرقاوي