سينما الواقع: نوعية من الأفلام يحتاج إليها مجتمعنا فؤاد دوارة

سينما الواقع: نوعية من الأفلام يحتاج إليها مجتمعنا

السينما بالذات من المجالات التي مازلنا نعتمد فيها على الاستيراد أكثر من الإنتاج، وعلى التقليد أكثر من الخلق والابتكار. وعلى الرغم من أن تاريخ السينما العربية يقترب من الثمانين عاما فإن اجتهاداتنا فيها مازالت محدودة.

ليس من المجدي في هذه المرحلة المتقدمة من تطورنا الحضاري أن نماري كثيرا في أننا مازلنا عيالا على الغرب في غالبية نتاجاتنا الفنية والفكرية، بل ينبغي ألا نخجل من الاعتراف بأننا مازلنا نعتمد على الغرب اعتمادا شبه كامل في الكثير من شئون حياتنا، من لقمة العيش حتى فيلم السينما.. فضلا عن كل ما يتعلق بالتكنولوجيا والصناعات الثقيلة، بل لقد ثبت أخيرا - خلال أزمة الخليج - أننا لا نستطيع أن نستغني عنه في حماية حدودنا، حتى ولو كان المعتدي من بين أنظمتنا العربية نفسها!

فلندع جانبا إذن هذه النعرات المتشنجة التي تؤخر أكثر مما تقدم، ولنحاول أن نحسن الإفادة مما يقدمه لنا الغرب في مختلف الميادين دون عقد أو حساسيات، ولنحاك أفضل النماذج والأنماط الغربية بقدر ما نستطيع، ونستوحي منها ما يلائمنا ويرتقي بحياتنا وإنتاجنا، على أمل أن يسرع ذلك بخطى تقدمنا نحو التميز والاستقلال.

وليس في هذه الدعوة، أي نوع من التجاهل أو الانتقاص من قدر الخطى التي قطعناها بالفعل في العديد من المجالات نحو التميز والأصالة، وبعث تراثنا القديم ومحاولة توظيفه واستيحائه. كل ما في الأمر أن طموحنا وعلو همتنا يجعلانا نراها ضئيلة بالقياس إلى الشوط البعيد الذي علينا أن نقطعه قبل أن نستقل ونتحرر من كل أثر للتبعية والمحاكاة.

أفلام العنف والمخدرات

فما من نوعية من الأفلام التي ينتجها الغرب إلا وكانت له في السينما المصرية محاكيات وتأثرات، ابتداء من أفلام المغامرات، وأفلام الاستعراضات الموسيقية.. حتى أفلام القضايا السياسية، والخيال العلمي، والعنف والمخدرات، وقصص الحب الرومانسية.. وغيرها. بل لقد حظيت الأفلام التسجيلية والتعليمية أخيرا بقدر من اهتماماتنا وإسهاماتنا، والأمل أن تزداد هذه الإسهامات لما لهذه الأفلام من آثار إيجابية في تربية الأطفال والشباب والارتقاء بمستوى الوعي الثقافي لدى مشاهديها بشكل عام. نوعية واحدة لم تحظ بما هي جديرة به من اهتمام، بالرغم من أنها - فيما أتصور - جديرة بأن تسهم في الخروج بالفيلم المصري، والعربي بالتالي، من أزمته المتمثلة في كثرة أفلام الرقص والهزل الماجن من ناحية، وأفلام تهريب المخدرات والمطاردات والعنف المبالغ فيه من ناحية أخرى، وهي الأفلام التي اصطلح على تسميتها أخيرا بأفلام المقاولات.

وفي المرات القليلة التي قدمت فيها السينما المصرية هذه النوعية لم يقع اختيارها إلا على حوادث العنف والاغتصاب، وقدمتها بكثير من المبالغة أبعدتها عن خصائص تلك النوعية الرقيقة من الأفلام التي أسميها "سينما الواقع" لأنها تصور أحداثا وقعت بالفعل، وتروي بالصورة قصة تجربة إنسانية نافعة ورائدة في مجالات العلم، أو التربية، أو الدفاع عن الوطن، ومقاومة الشرور بأي صورة من الصور، فيستوحيها فنان السينما في صياغة فيلم شائق وممتع ولكنه في نفس الوقت أمين للواقع، حريص على أدق تفصيلاته، تحية لجهود أبطال تلك التجربة، وإشادة بما حققوه من نجاح وتفوق في هذا المجال أو ذاك، مما يدعو الكثيرين إلى محاكاتهم والاحتذاء بهم، بصورة تعيد لنا ثقتنا بإنسانيتنا وقدراتنا اللا نهائية على قهر التخلف والشرور وصنع الخير ومقاومة الأمراض والآلام.

إنها ليست أفلاما تسجيلية، لأن الفيلم التسجيلي يصور الواقع أثناء حدوثه وبنفس أبطاله، أو هو - كما قال رائده جون جريرسون، وهو أول من أطلق عليه هذا الاسم سنة 1926 - "معالجة الأحداث الواقعية الجارية بأسلوب فيه خلق فني"، على العكس من الفيلم الروائي الذي قد يستلهم الواقع، ولكنه يعتمد أكثر على خيال المؤلف والمخرج وقدرتهما على الابتكار دون تقيد بالواقع وأحداثه.

أما "سينما الواقع" فهي تمثل مرحلة متوسطة بين الفيلم التسجيلي والفيلم الروائي، فهي من ناحية تلتزم بأحداث الواقع وشخصياته كالفيلم التسجيلي، ولكنها من ناحية أخرى تتمتع بقدر أكبر من الحرية في الابتكار والعلاج الفني، والاستعانة بممثلين محترفين لأداء أدوار الشخصيات المشاركة في الأحداث.

سينما الواقع ليست أفلاما تاريخية تستوحي حياة أبطال التاريخ وشخصياته البارزة، فهي تهتم بالحاضر أكثر من الماضي، وتميل إلى تصوير حياة العاديين من الناس، ممن أتاحت لهم الظروف فرصة تأدية خدمة للإنسانية قد تبدو تافهة أو ضئيلة الشأن، ولكنها في الحقيقة كبيرة الأثر في حياة نفر غير قليل، ومن ثم يمكن عرضها كنموذج للعمل العام النافع.

وهذه النوعية من الأفلام شائعة من قديم في سينما الغرب، وازدادت انتشارا مع ظهور التليفزيون ومشاركته الفعالة في الإنتاج السينمائي، ولكن ندر أن قدمت السينما المصرية أفلاما منها، على كثرة محاكاتها لكل النوعيات التي تقدمها سينما الغرب، والسبب واضح وهو أن هذه النوعية قد لا تحقق النجاح التجاري الذي تحققه غالبا أفلام العاطفة المسفة والعنف والمخدرات.

"كونراك"

ذكرني بهذه النوعية الجميلة من الأفلام فيلمان ممتازان عرضهما التليفزيون المصري منذ فترة غير قصيرة في برنامجي "أوسكار" و"نادي السينما"، الأول عنوانه "كونراك" من بطولة جون فويت وإخراج مارتن ريت، والآخر عنوانه "ناس غير عاديين" بطولة بروك آدمز وإخراج مارك دافييلر. ولعل استعراضي لموضوعيهما يوضح للقارئ ما أعنيه بسينما الواقع، وكيف أنها تختلف كثيرا عن "السينما الواقعية" التي يستخدم فيها المؤلف خياله ليروي أحداثا تشبه الواقع وتحاكيه وتعالج مشكلاته الاجتماعية والنفسية بأسلوب منطقي مقنع ولكن دون التقيد بأحداث وقعت بالفعل.

من المصادفات أن الفيلمين يعالجان موضوعا واحدا، وهو المتخلفون عقليا، وقبل عرضهما ظهرت لافتة تقرر واقعية أحداثهما، وتذكر الأسماء الحقيقية لأبطالهما، بل لقد شارك بعض هؤلاء الأبطال الحقيقيين في تمثيل الفيلم الأخير.

والفيلمان يسجلان تجربة مدرسين في تعليم مجموعة من التلاميذ المتخلفين عقليا، ونجاحهما في مهمتهما الشاقة لأنهما استعانا بالفنون في تجربتيهما، بالإضافة إلى قوة إرادتهما وإخلاصهما في أداء واجبيهما - إلى درجة قريبة من الاستشهاد، مما أدى إلى تحريك موات قلوب تلاميذهما وبث الحياة فيها والرغبة في التعلم وحب الحياة والبشر، مما ترتب عليه ذلك النجاح غير العادي وغير المتوقع.

في الفيلم الأول نلتقي "كونراك" المدرس الأمريكي الأبيض الذي ألقت به الظروف إلى جزيرة نائية في الجنوب، كل سكانها من الزنوج، معظمهم من صيادي السمك الفقراء الكسالى، والجزيرة معزولة تماما عن كل وسائل المدنية، فليست بها مكتبة ولا دار سينما ولا مسرح ولا ناد ولا أي مرفق حضاري باستثناء تلك المدرسة الصغيرة التي يملكها معلم سابق على قدر من الثراء، وتديرها ناظرة زنجية فاشلة في حياتها، تكره الناس والأطفال، والتعليم في نظرها لا يزيد على تخويف الأطفال وتدريبهم على طاعتها واحترامها.. ولا شيء أكثر من ذلك.

نصحب "كونراك " في رحلته الأولى إلى تلك المدرسة البدائية، ونصدم معه بمستوى تلاميذه المتخلفين الذين لا يعرفون القراءة والكتابة ولا مبادئ الحساب، بل يكادون لا يعرفون أي شيء علي الإطلاق، بالرغم من أن غالبيتهم وصلوا إلى سن المراهقة ومنهم من تجاوزها. وأخطر ما في الأمر أنهم لا يشعرون بأن شيئا ما ينقصهم، ويفتقرون إلى أقل رغبة في التعلم.

السيمفونية الخامسة

تدعو ناظرة المدرسة كونراك إلى القسوة في معاملة التلاميذ لكيلا يتجرأوا عليه وعليها، غير أنه لا يعبأ بنصيحتها ويعامل تلاميذه كآدميين، وينجح بمجهودات شاقة في إثارة اهتمامهم، بل يوفق إلى الفوز بحبهم، نتيجة لإحساسهم بصدق حبه لهم، وإخلاصه في محاولة تعليمهم.

تتوثق علاقة كونراك بتلاميذه إلى درجة تجعله يكرس كل وقته وجهوده، بل حياته كلها، لا لتعليمهم فقط، وإنما لتحويلهم إلى بشر متحضرين، يستحمون ويغسلون أسنانهم، ويعومون في البحر، ويخرجون معه للغابات، يتعلمون أسماء نباتاتها وحيواناتها، ويستشعرون روعة جمالها وتفاعل الألون والأضواء والظلال في جنباتها.

ويعثر كونراك في مخازن المهملات بالمدرسة على آلة عرض سينمائي وجهاز تسجيل قديمين، يستعين بهما في مهمته الإنسانية الشاقة، فينجح في إمتاع تلاميذه، وإثارة اهتمامهم وإعجابهم بروائع الموسيقى السيمفونية.

هذا النجاح الرائع الذي أحرزه كونراك مع تلاميذ المدرسة لم يرض ناظرتها المتزمتة، ولا صاحبها الرجعي فيقرران فصله، ولا تنجح المحاولات التي بذلها التلاميذ وأهاليهم في إلغاء هذا القرار الظالم فيجتمعون لوداع أستاذهم المخلص، ولا يجدون ما يقدمونه له دليلا عن نجاحه في عمله سوى إسماعه تسجيل السيمفونية الخامسة لبيتهوفن، التي يدق فيها القدر، أو الموت، في مستهلها على أبواب الحياة!

أما الفيلم الآخر الذي ذكرني بهذه "النوعية الممتازة من الأفلام التي اسميتها "سينما الواقع" فكان فيلم "ناس غير عاديين"، وهو فيلم تليفزيوني إنتاج أمريكي - كندي مشترك، يحكي بأسلوب شديد التشويق والجاذبية تجربة مخرجة مسرح عرائس في تعليم مجموعة من الشباب المعوق عن طريق إشراكهم في أداء مسرحية عرائسية قصيرة بأسلوب عرائس القفاز، أو المسرح الأسود كما يسمى أحيانا، لأنه يعتمد على الإظلام وارتداء اللاعبين ملابس سوداء من قمة رءوسهم إلى أخمص أقدامهم.

لذلك تصورت تلك المخرجة المناضلة أن هذا الأسلوب الفني يلائم المعوقين ويتيح لهم المشاركة في عمل جماعة دون أن يتعرضوا لمواقف مخجلة تكشف عن عاهاتهم أو نواحي تخلفهم. غير أن المسألة لم تكن بتلك السهولة، إذ كان عليها أن تخوض صراعا ضاريا مع كل شاب وكل شابة، وأحيانا مع أهاليهم أيضا، قبل أن توفق أخيرا إلى خلق روح الجماعة والإحساس بالمسئولية نحو العمل الذي يقدمونه مما نستطيع أن نتصوره، ولا داعي للإفاضة في تفصيله.

***

هذان الفيلمان التليفزيونيان ليسا إلا مثلين على ما قصدته بسينما الواقع التي أرى أننا أحوج ما نكون إلى تقديمها لجماهيرنا، للارتقاء بوعيها، وإنضاج مشاعرها؟ وتربية الإحساس بالمسئولية والانتماء في وجدانها، بالإضافة إلى تسليتها وإمتاعها. وما أكثر النماذج والشخصيات والريادات في مختلف مجالات يمكن لسينمائيينا استلهامها لتقديم عن الأفلام التي نرجو أن تعفينا - ولو بقدر - من الجنس والعنف والمخدرات.

 

فؤاد دوارة

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




المخدرات.. قضية تحتاج لمعالجة دقيقة





المخدرات.. قضية تحتاج لمعالجة دقيقة