رحلة الحج.. لمسة الفن

   رحلة الحج.. لمسة الفن
        

كانت رحلة الحج دائمًا دافعًا لإثارة مكامن الجمال في ثنايا الروح. وسواء كانوا صناعًا في بيت الكسوة, أو فنانين شعبيين يلونون الجدران, أو رسامين محترفين جاءوا من الشمال, واعتنقوا الإسلام, كلهم جميعًا صنعوا من أرواحهم وعاء للألوان, وأعطوا لنا هذه اللمسات من الفن والجمال.

من إسطنبول والشام ومصر
رحلات المحمل الشريف

          يمتزج الشعبي والرسمي في رحلات المحمل النبوي الشريف امتزاجًا لا يحتمل التفرقة بينهما, لأنه يُعدُّ تعبيرًا عن فرحة عارمة لقلوب مؤمنة وهي تملِّي العيون الشاخصة بكسوة الكعبة المشرَّفة.

          وإذا كانت تلك الفرحة أداء شعبيا, فإن الأداء الرسمي لم يكن يقل احتفالا واحتفاء, فقد كانت صناعة الكسوة والاستعداد لإرسالها والموكب الذي يقلُّها ـ جميعا ـ مراسم رسمية يظل التخطيط لها من عام إلى عام, مما شكل جوا اجتماعيا وواقعيا من ناحية, ورمزيا وأسطوريا في ناحية أخرى, وكأن المحمل لا يضم بين جنباته الكسوة التي ستغطي جدران الكعبة عاما وحسب, وإنما هو يضم الأفئدة التي تعلقت به, وعلقت عليه دعواتها برؤية البيت الحرام.

          ربما يتبادر للذهن أن رحلة المحمل الشريف قد اقتصرت على عاصمة إسلامية وحسب, ولكننا هنا نتحدث عن مدارات روحانية سلكها المحمل على خريطة إسلامية كبرى, تماست فيها القارات الثلاث, فجاء المحمل النبوي الشريف من أوربا عبر إسطنبول, ومن آسيا انطلاقا من دمشق, ومن إفريقيا في بلد الأزهر: مصر.

          يروي الكاتب نوزات صواش كيف أولى السلاطين العثمانيون مكة المكرمة ومدينة الرسول صلى الله عليه وسلم اهتماما بالغا. ولا شك أن أكبر دليل على ذلك مواكب المحمل النبوي الشريف أو مواكب الصرة, وهو (محمل كان يرسله السلطان إلى الحجاز كل عام في موسم الحج في موكب عظيم تحمله مئات الجمال وتحيط به كتائب كثيرة من الفرسان المدججين بالسلاح مع أستار الكعبة وهدايا ذات قيمة عالية وصرة سلطانية كبيرة تحتوي على قطع ذهبية كثيرة ومجوهرات كريمة).

          وإذا كانت عادة إرسال الصرة إلى الحرمين الشريفين قد بدأت في عهد الخليفة العباسي المقتدر بالله 908-932 ميلادية, فقد درج السلاطين العثمانيون على إرسال الصرة منذ بداية تأسيس دولتهم, وأول صرة موثقة في الأرشيف العثماني تعود إلى تاريخ 1389م وهو عهد السلطان بيازيد الأول. وتقول الوثيقة: (لقد صدر الأمر السلطاني بإرسال صرة بمقدار 80 ألف قطعة ذهبية تنفق في مرافق الحرمين وتوزع على فقرائها وأشرافها وساداتها وعلمائها...) وقد أرسل السلطان محمد الملقب محمد شلبي 14 ألف قطعة ذهبية عام 1413 م, وصرة أخرى تحتوي على أكياس لم يحص عددها عام 1421م).

          حين يدخل شهر رجب تشمل الحركة جميع أنحاء اسطنبول, مع اقتراب موعد إرسال المحمل النبوي الشريف إلى مكة المكرمة. تتزين المساجد بالأضواء وتقام حولها السرادق لإطعام المساكين وإحياء الليالي بتلاوة القرآن الكريم والدروس الدينية والأناشيد في مدح المصطفى (صلى الله عليه وسلم), ويتحدث الأئمة في المساجد عن حب الرسول صلى الله عليه وسلم.

          وتقام في قصر الخلافة (طوب قابي) الخيام العظيمة وتبسط السجاجيد والستارات المذهبة والأزهار في أنحائه حتى يتحول إلى عروس رائعة الجمال, لأن به يتم استقبال موكب المحمل وتستمر الاحتفالات حتى الثاني عشر من شهر رجب حيث تمضي الأيام باستقبال الضيوف من أعيان وعلماء أتوا من بلاد مختلفة.

          ثم يدخل السلطان إلى صالة الديوان ويتلى القرآن الكريم ويأتي أغوات الحرم بأكياس ممتلئة بسجلات الصرة السلطانية ليتم تسليمها إلى أمين الصرة الذي كان يختاره السلطان من العلماء أو الجند أو الأشراف, كما يتم الإعلان عما تحتويه الصرة أمام السلطان والحاضرين. ويخرج الجميع إلى ساحة القصر الكبيرة حيث يكون الموكب جاهزا للانطلاق وهو يتألف من مئات الجمال المحملة بالهدايا ومئات من الفرسان المدججين بالسلاح وعلى رأسهم (جمل المحمل).

          تبدأ الحركة ويبدأ صوت رخيم بتلاوة القرآن الكريم ويمشي جمل المحمل بخطوات بطيئة فيمر من أمام السلطان ويتبعه الموكب الكبير. ويخرج الموكب من حديقة القصر متجها إلى المرفأ. الطريق يغص بالجماهير الذين جاءوا ليشهدوا هذه اللحظات العظيمة ويودعوا ذلك المحمل العزيز الذي يسافر إلى قرية الحبيب, وترتفع الأصوات بالأناشيد والأدعية وتسيل الدموع. وبعد لحظات تتضاءل صورة الموكب وسط البحر على المراكب الشراعية كلما ابتعد عن هذه الضفة واقترب من منطقة أسكدار في الضفة المقابلة. ومن أسكدار يتجه الموكب إلى بلاد الشام وينضم إليه من عزموا على الحج إلى بيت الله الحرام ويزيد عددهم على الألف, حتى يصل الموكب إلى مكة المكرمة يوم عيد الأضحى المبارك.

          ويعد ستار أهم قطعة في هذا الموكب, ويتم تبديل كسوة الكعبة القديمة بالجديدة وسط احتفالات كبيرة ويعود الموكب بالقديمة إلى إسطنبول وتستقبل هي الأخرى بإجلال بالغ وتوزع قطع الكسوة القديمة إلى المساجد السلطانية الكبيرة وإلى العلماء والأعيان وأشراف القوم.

أيام المحمل الشامي

          يرصد أحمد حلمي العلاف في كتابه (دمشق في مطلع القرن العشرين) مراسم المحمل الشامي التي تبدأ في اليوم الأول لعيد الفطر, وتسمى (مراسم الزيت والشمع والمحمل), حيث تصطف الفرق العسكرية أمام المسجد الأموي, وتؤدي التحية لوالي المدينة وقائدها العسكري, وبعض كبار الموظفين, وبعد الانتهاء تجرى حفلة إخراج الشموع والزيوت المهيأة لإرسالها مع موكب الحج إلى الحرمين الشريفين. وفي (يوم الزيت) وهو الثاني من شوال كل عام, يتم الاحتفال بنقل الزيت من (كفر سوسة) إحدى ضواحي دمشق آنذاك ضمن ظروف على ظهور الإبل حتى (الكيلار) في البحصة, وهو المستودع الخاص بأدوات محمل الحج. وفي اليوم الثالث من شهر شوال (يوم الشمع) ينقل الشمع باحتفال رسمي أيضاً, من الدار التي سكب فيها في (كفر سوسة) ووزنه ثلاثة قناطير, وماء الورد من محصول قرية (المزة) ووزنه نحو قنطار, والملبس ووزنه عشرة أرطال, ويُحمل الشمع على أعناق الرجال ملفوفًا بالشال (الكشمير) لإهدائه إلى الحرمين, وفي يوم السنجق, يُخرج السنجق الشريف (الراية أو اللواء) من القلعة حيث يُحتفظ به, وينقل باحتفال مهيب إلى دائرة المشيرية, ليستقبله المُشير ويضعه في قصره. وحين يأتي اليوم الرابع (يوم المحمل), يخرج موكب الحج الشريف مع المحمل والسنجق إلى حي الميدان, ثم باب مصر, ومنه إلى قرية القدم التي فيها قبة جامع (العسالي), وتحت هذه القبة, يوضع المحمل نحو عشرة أيام, ريثما تنتهي أسباب السفر إلى الحجاز.

          وكان لشيوخ الأسرة السعدية موقعهم المميز في احتفالات المحمل; لأن دارهم كانت المحطة الأهم لاستراحة المحمل الشريف, الذي يأتي على ظهر جملٍ بهي الشكل قوي وعال لا يستخدم لأي عمل سوى الحج, ويحمل الكسوة السلطانية إلى الكعبة الشريفة, وحين كان المحمل يتوقف في دار سعد الدين يتقدم شيوخ الأسرة ووجهاؤها ليلقموا الجمل قطعًا من اللوز والسكر, فيتهافت الناس على التقاط ما يسقط من فم الجمل تبركاً وتحببًا; لأنه يحمل أعظم شعار يجتمع إليه المسلمون عند ذهابهم إلى الحج, وبعد وصول المحمل إلى العسالي, ينتظر تجمع الحجاج يومًا أو يومين, حيث تسير قافلة أمير الحج في طريقها إلى مدينة الرسول (صلى الله عليه وسلم).

          كانت الدولة العثمانية تتحمل نفقات الحج, وتعهد بإمارته لواحد من كبار العسكريين في دمشق, أو من زعماء العشائر العربية في فلسطين, ويهيأ هذا الأمير للخروج بالحج, قبل حلول الموسم بثلاثة أشهر, فيقوم أولاً بـ(الدورة) أي زيارة المناطق الجنوبية من دمشق لجمع المال اللازم, وقد يكون الوالي نفسه أمير الحج, وهي مهمة صعبة وخطيرة لأن من واجباته أن يدفع عن الحجاج اعتداءات القبائل التي تنوي بهم شرًّا, وقد تولّى أسعد باشا العظم - والي دمشق- إمارة الحج مدة 14 عامًا.

          تتكون قوافل الحج الشامي من فئات عدة تقوم بخدمة الحجاج والسهر على راحتهم وحمايتهم, ولكل من هذه الفئات وظائفها: فالسقاة, كانوا يحملون القرب لنقل المياه من البرك والآبار إلى الحجيج. والبّراكون, هم أصحاب الدواب التي تنقل الحجاج وتكون من البغال والبراذين. والعكّامة وهم أصحاب الجمال والهوادج التي تنقل الحجاج أيضًا, وأصحاب المشاعل, وهم حملة القناديل ومشاعل الزيت, وطائفة أصحاب الخيم, ولكل هؤلاء رؤساء ومعاونون كثيرون, مهيأون لتأمين راحة الحجاج فأهل حي الشاغور وقصبة دوما للجمال, وأهل الصالحية كان أكثرهم للسقاية والمشاعل وللبراكة, والبياطرة منهم أيضًا, والجنود يخدمون أنفسهم, أما الأمير وأتباعه فإن مئات الأشخاص يكونون تحت خدمته وخدمة معاونيه. وكانت رحلة الحج الشامي تستغرق أربعة أشهر من شوال حتى صفر.

          في التاسع من مايو 1893, كتب عبد الله النديم بمجلته; (الأستاذ), واصفا الاحتفال بإرسال كسوة الكعبة المشرفة من مصر, في موكب مهيب أمر به خديو مصر عباس حلمي الثاني: (احتُفِل في ديوان محافظة مصر احتفالا جليلا دعي إليه العلماء والأمراء وأرباب الطرق وكثير من الوجهاء والأعيان, وانتظم الموكب مركبًا من فرق العساكر والخيالة والمشاة والمدفعية, يتقدمهم رياض باشا نائبًا عن الحضرة الخديوية, وقد اجتمعوا في سقيفة المنشية, وكان في مقدمى العلماء الشيخ الإنبانبي, وفيق أفندي البكري.. وسار الموكب من ساحة المنشية حتى مدخل الإمام الحسين, وهرع الناس إلى الشوارع التي مرَّ بها حتى لم يبْق في مصر أحد ممن يميلون لرؤية هذا الموكب المنيف). وربما نشير إلى أن مصر التي قصدها النديم في عباراته هي القاهرة, لكن الحقيقة أن مصر كلها كانت تسعى لذلك اليوم المشهود.

          كان المحمل الشريف في مصر يتكون من أمير للحج, ودوادار أمير الحج أي كاتب أمير الحج في المهمات التي يتولاها, لينظم سير ركْب المحمل وقاضي المحمل, وشهود المحمل, ومشرف جمال وخيول المحمل, وميقاتي, ومؤذن وطبيب (إبراهيم حلمي في كتابه (كسوة الكعبة المشرفة)).

          يصف لنا إبراهيم رفعت باشا موكب المحمل, وهو الذي كان رئيسًا لبعثة الحج المصرية أعوام 1903, 1904, 1908, فيقول: (أتي بالمحمل من مقره بوزارة المالية, ونقل داخل صناديق على عجلة إلى وكالة الست بالجمالية حسب المعتاد من قديم, ونقل جزء من كسوة الكعبة مع أحزمتها الحريرية المزركشة بالقصب من مصنعها بالخرنفش إلى المصطبة بميدان صلاح الدين المعروف بميدان القلعة أو ميدان محمد علي, وكان نقل الكسوة على أكتاف الحمالين, يحيط بها رجال الشرطة, ويتقدمها قسم من الجيش ما بين راجل وراكب معهم الموسيقى تصدح بالأنغام المطربة, ويصحبه أرباب المزمار البلدي, المعينون للسفر بصحبة المحمل, وكذلك تقدم الكسوة مدير مصنعها مأمور الكسوة ممتطيا جواده مرتديا لباسه الرسمي وعلى يديه مبسوطتين كيس مفتاح الكعبة, وسار الموكب من المصنع إلى سبيل كتخُدا, حيث التقى به المحمل بكسوته الخضراء المعتادة آتيا من وكالة الست بالجمالية على ظهر جمل).

          ويستطرد رفعت باشا في مشاهداته للمحمل: (سار الموكب كله إلى النحاسين, فالغورية, فباب زويلة, فالدرب الأحمر, فالمحجر, فميدان صلاح الدين, حيث أقيم هناك الاحتفال, فوضع المحمل مع الكسوة في المقابل لردهة الاستقبال حتى الصباح, ووضعت كسوة المقام وسط الردهة المذكورة التي زينت جدرانها بقطع من كسوة الكعبة وأحزمتها القصبية, وكيس مفتاح الكعبة, وستارة بابها وباب التوبة, ووضع حول كسوة المقام أربعة ماثلات من الفضة أحضرت من جامع القلعة, ثم سير بالكسوتين والمحمل إلى مسجد الحسين, يصحبها رجال الجيش والشرطة وأرباب الطرق, وفي المسجد استقبل الكسوتين أمير الحج, وأمير الصرة, وهناك ضمت بالخياطة قطع الكسوة بعضها إلى بعض, ثم نقلت إلى العباسية مع كسوة المقام في صناديقها المعدة لها استعدادا للسفر بهما إلى الحجاز, أما المحمل فيسير به من المسجد الحسيني إلى مصنع الكسوة بالخرنفش, وبقي هناك إلى صبيحة يوم الاحتفال بخروج المحمل إلى الأراضي الحجازية).

          وتروي لنا عدسة مجلة الهلال (التي صدر عددها الأول في 1892), جانبا من الاحتفالين الرسمي والشعبي بتدشين رحلة المحمل, ففي حين نرى مشايخ الطرق الصوفية وهم يتلون الفاتحة أمام ملك مصر بساحة المحمل, والموكب الرسمي تحرسه الشرطة, ليلة السفر, ورئيس الوزراء المصري أحمد ماهر باشا عند وصوله إلى مقر الاحتفال وبجواره ممثل الملك, نرى على الجانب الآخر الاحتفال الشعبي بتلك الرحلة سواء بهؤلاء المهرة الذين يشاركون في صناعة الكسوة, وصولا لتلك الصورة النادرة لكسوة الكعبة وبجوارها سيدة اسمها الحاجة حواء (1949), كانت تسهر إلى جوار الكسوة كل عام.

          وعلى الرغم من أن رحلات المحمل قد توقفت, إلا أن الاختفاء الرسمي لم يخف الشعبي, ولا يزال يقام احتفال مشابه سماه الناس ( زفة المحمل) التي تسير كل سنة في شوارع مدن الجنوب, مثل منفلوط وسواها, ويحمل فيها الأهالي نماذج مصغرة للكعبة ومجسمات لمقامات الأولياء, فوق الجمال, وهو احتفال لا يزال موجودًا لدى وداع بعض الحجاج في جنوب مصر, واستقبالهم, بالمواكب الحية حينا, وتلك المرسومة على الجدران أحيانا.

 

أشرف أبواليزيد   

 
  




الموكب الرسمي للمحمل: الشرطة والأهالي في الاحتفال السنوي









صناعة كسوة الكعبة





زفة المحمل في مدينة منفلوط بصعيد مصر