البحث عن التوازن العربي المستقر محمد الرميحي

البحث عن التوازن العربي المستقر

حديث الشهر
أمراض العرب السياسية لا يعرف
لها تشخيص وتستعصي على العلاج!

كان أغسطس دوما هو شهر الهروب من قيظ الحر وقسوة الرطوبة، ولكنه أصبح رغما عنا هو شهر الوقوف أمام الذات. ليس وقوفا على الأطلال أو البكاء عليها كعادة بعض العرب الحميمة، ولكن في محاولة لتأمل جروح الماضي والنظر في أسبابها وفتح نافذة على المستقبل.

منذ أربع سنوات- أي منذ الغزو العراقي للكويت- وأنا أشعر أن أغسطس من كل عام يمثل نوعا من مفترق الطرق بين نظام عربي قديم انتهى أمره ولم يعد له وجود.. وبين نظام آخر لم يتبلور بعد تاركا إيانا في حالة من السيولة السياسية علينا أن نحاول أن نبحث لها عن اسم أو صفة ربما يمكن التعامل معها من أجل إيجاد طرق جديدة للتفكير في ذلك النظام العربي المرتجى والمستقر.

في الغرب يطلقون تعبير "أعراض صينية" على الأمراض المزمنة التي لا يعرف لها تشخيص محدد أو يوجد لها علاج ناجع، والنسبة (للصين) هنا تعني المجهول أو الغامض كغموض اللغة الصينية بالنسبة للأوربي، فأي تعبير يمكن أن نطلقه على أمراضنا العربية المزمنة؟ أجد نفسي ميالا لأن أطلق عليها "أعراض يمنية" ربما لأن الكابوس اليمني ما زال قائما ومستمرا، وربما لأن اليمن هي بيت العرب القديم، خرجت منه كل قبائلنا، وفيه استوطنت معظم أمراضنا، ويمكن أن نسميه أيضا (أعراض لبنانية) لا فرق، فإذا اقتربنا قليلا وأزحنا تراب الزمن الذي أصبح الآن له لون البارود والدم لتوصلنا إلى تشخيص الحالة العربية، و"الأعراض اليمنية واللبنانية" هي ليست يمنية فقط أو لبنانية، ولكنها حالة تنم عن وضع العرب اليوم، مرض العرب السياسي هو حروب أهلية لا يعرف لها تشخيص ويبدو أنه لا يوجد لها علاج أيضا.

لا إكراه في الوحدة

ربما كان "الكابوس اليمني" الأقرب والأحدث والساخن والذي ما زالت آثاره الدموية تتوالى وتتطور وتشغلنا جميعا يجيب عن سؤال تأخرت الإجابة عنه اثنين وثلاثين عاما كاملة، وهو سؤال له علاقة بآمال العرب العريضة، ألا وهي (الوحدة). ماذا لو أن عبدالناصر لم يقبل منطق الانفصال في الوحدة بين مصر وسوريا وقرر أن يلجأ للخيار العسكري؟ ماذا لو أنه لم يتراجع في اللحظة الأخيرة- كما قيل- ويأمر بوقف القوات التي شرع في حشدها والعتاد الذي كان قد بدأ في تسييره؟

لقد عشنا طوال العقود الماضية ونحن نرثي هذه الوحدة القصيرة العمر، وتبارى مفكرونا القوميون- وهم منتشرون على الأرض العربية- في لوم عبدالناصر لأنه تخاذل في مواجهة عسكر الانفصال، وأخذوا يذكرونه دوما ويذكروننا أيضا بأن الوحدة هي أشبه بعمليات (الولادة الصعبة) يجب أن تُعمد بقليل من الدماء وكثير من الألم، فعل هذا غاريبالدي وهو يفرض الوحدة الإيطالية بالسيف، وأكده بسمارك من خلال عشرات الدسائس والمؤامرات ضد أمراء الإقطاعيات الألمانية، وكان هؤلاء المثقفون جميعا يطالبون عبدالناصر بإلحاح بأن يتحلى بعزيمة غاريبالدي ودهاء بسمارك وأن يتبع أي أسلوب "برجماتي " يراه لأن الوحدة باقية والأشخاص ذاهبون.

لم يفعلها عبدالناصر اعتمادا على حدسه السياسي العميق، وعلى معرفته الواضحة بالمتغيرات، فعرب النصف الثاني من القرن العشرين هم غير إيطالي وألمان القرن التاسع عشر!! لكنه حسب حساب الزمن الذي تجاهله الكثيرون منا، ونجا مؤقتا من فخ الحرب الأهلية بين مصر وسوريا، وإن لم ينج من فخ الحرب الأهلية في وقت لاحق في اليمن، لقد ضحى بتجربة الوحدة كي ينجو بفكرة وحدة الصف التي تحقق أهداف العرب تجاه التحديات المفروضة عليهم سياسيا ومعيشيا، تجاوز الواقع الصعب، فربما يأتي يوم تتحقق فيه الوحدة بالتراضي بين أطراف عربية استكملت وحدتها الوطنية وأدركت أن مصلحتها المشتركة هي في الوحدة.

يقدم لنا الإخوة المتصارعون في اليمن اليوم إجابة واضحة عن مصير الخيار العسكري لإقرار الوحدة، فباسم هذا الحلم النبيل ترتكب المجازر وتقصف المدن ويتسابق الجنود الذين لا يمتلكون القدرة على ارتداء ملابس عسكرية لائقة في خوض المعارك وإهدار مئات الطلقات على (إخوانهم/ أعدائهم) من أطفال ونساء وعجائز، وهم بذلك يضيفون حلقة جديدة من مسلسل الحروب العربية الأهلية التي لم تتوقف ولا يبدو أنها ستتوقف.

وإذا كان البعض قد علق ساخرا بأن العرب في حاجة إلى عدو جديد يحاربونه بعد أن ظهرت تباشير الصلح مع إسرائيل، فإن الصراع اليمني يؤكد أن الحرب والنزيف العربي لم يكن يوما ضد إسرائيل بقدر ما كان ضد أنفسنا. لقد حدثت بيننا وبين إسرائيل صدامات مسلحة على فترات زمنية متفاوتة، ولكن الحرب الفعلية التي استطالت ودامت وأخذت أشكالا ومواقع وشعارات وقيادات وضحايا مختلفة هي الحرب العربية- العربية، الحرب التي مزقتنا واستنزفت ثروتنا وشتتت وفاقنا وأضاعت مصالحنا، ولو أن طاقة العداء العربي هذه قد تحولت قليلا لإنصاف أهل فلسطين لما وصلنا إلى تلك الاتفاقيات المجحفة، من نوع غزة وأريحا وغيرها.

لقد بترنا غالبا طريق الوحدة دون بوصلة أو خارطة فتاهت معالم الطريق أمامنا.

روح القبيلة تسود

بماذا يمكن أن نصف هذه الحرب الأخيرة وبقية الحروب بغير الروح القبلية التي ما زالت رابضة تحت الأشكال الظاهرية للتمدين العربي، في العديد من البلدان العربية ترتدي القبائل أقنعة عصرية ولكنها في اليمن تتصارع بوجوهها الصريحة، في اليمن مازالت توجد 200 قبيلة منها 168 قبيلة في الجزء الشمالي، معظمها محصن داخل مناطق جبلية وعرة لا تستطيع السلطة المركزية أن تفرض سطوتها عليها، وهي قبائل عانت كثيرا من ظلم الأنظمة السابقة وتسلطها، ولم تعد تثق في أي سلطة أخرى غير سلطتها الذاتية، وعندما ثار ضباط الجيش اليمني، وأقاموا عددا من الحكومات العسكرية المتعاقبة لم تستطع السلطة الجديدة أن تخضعهم بل إن العكس هو الصحيح، خضع الكثير من ضباط الجيش لسلطة القبائل وتوجيهاتها، وكان للعديد منها "ميليشيات" خاصة تسيطر على أقاليم بأسرها، بل وعمدت إلى ابتزاز السلطة المركزية في العديد من المناسبات، وعلى حد تعبير المستشرق الروسي "الكسندر سيمونوف" الذي عاش طويلا بين قبائل اليمن وعرف خباياها وهو يقول "لعل اليمن الشمالي هو الدولة الوحيدة التي تدفع حكومتها الضرائب لفئة معينة من السكان وليس العكس، فالدولة تدفع لبعض القبائل التي تسكن الجبال، وإذا لم تستجب لمطالبها قامت بقطع الطريق واختطاف المواطنين الأجانب وسببت لها العديد من المشاكل".

هذه هي الروح القبلية التي يحاول أن يدخل بها بعض العرب القرن الحادي والعشرين، وهي نفس الروح التي يحاول بها اليمن الشمالي أن يقيم وحدة مع شطره الجنوبي الذي يشاركه في الامتداد الطبيعي والتكوين الإثني، وان اختلف عنه نسبيا في تركيبه الاجتماعي والعمراني، فقد كانت في اليمن الجنوبي 32 قبيلة ذابت جميعها في التكوين الجديد للدولة، ولم يعد هناك كيان قبلي بارز منها في ظل الدولة المركزية، لقد كانت "عدن " هي الميناء الثالث في العالم بعد ليفربول ونيويورك، لذا فقد عاشت المدينة حياة مفتوحة دائما مع العالم الخارجي، وحتى عندما دخلت اليمن الجنوبي في فلك الاتحاد السوفييتي ظلت حريصة على بنية الدولة العصرية ووفرت ما تستطيعه وفق إمكاناتها الضئيلة من أجل توفير قدر من التعليم ومن الضمان الاجتماعي لمواطنيها.

ومنذ البداية كانت مشاريع الوحدة بين الشطرين محفوفة بالصعوبات، في كل مرة كانت تبدأ مباحثات الوحدة كانت تدفع البلدين إلى الاشتباكات المسلحة، تحاربا في عام 1972، ثم عادا للتحارب بعد ذلك بسنوات سبع في 1979، ثم وقفا على حافة الحرب للمرة الثالثة في عام 1988، لولا أن القيادتين اللدودتين وقتها سارعتا بامتصاص مشاعر الحنق داخل صفوفهما، وقررتا أن تتحولا على الفور إلى وحدة اندماجية، في محاولة لحل المشكلات المعلقة، لقد ظن الطرفان أن الوحدة هي ترياق للصراع، وقد ثبت بعد ذلك أنها دون حساب دقيق أحد مسبباته. كانت هذه الوحدة التي لم تعش أكثر من ثلاث سنوات ونصف- أي أن عمرها كان أقل من عمر الوحدة المصرية السورية- نوعا من الفرص السياسية المؤقتة، فاليمن الجنوبي كان يحس بفراغ سياسي بعد انهيار الاتحاد السوفييتي حليفه الأكبر، واليمن الشمالي الذي عانى ضائقة اقتصادية مزمنة كان يتطلع متلمظا لتوسيع رقعته الجغرافية واقتناص بشائر النفط التي بدأت تلوح في الجنوب.

جذور الحرب الأهلية

ولا أريد هنا أن أخوض في تفاصيل هذه الحرب المؤسفة، وهذا الدمار الذي يتألم له كل عربي، ولكنها- هذه الحرب- تقودنا رغما عنا إلى تتبع جذور الحرب العربية والأهلية، تلك المأساة المتكررة عبر تاريخ العرب الحديث، ويمكن أن نقسم الدول العربية إلى ثلاثة أقسام: دول خاضت هذه الحروب ودفعت ثمنها غاليا، ودول ما زالت تخوضها حتى الآن وتغرق في مستنقعها الدامي يوما بعد يوم، ودول تقف على حافتها وتتأهب لدخولها، الأمر الذي يجعلنا نصاب بالرعب للخطر المستقبلي الذي يقف في انتظارنا شاهدا على تمزقنا. وربما كان القاسم المشترك الأعظم بين هذه المجموعات الثلاثة هو أن الدولة الوطنية، في هذه المرحلة، تمر بحالة من الضعف والتردي تجعلها عاجزة عن حل مشاكل التخلف السياسي والإحباط الاقتصادي الذي تواجهه، وبالتالي ترى العديد من الجماعات سواء كانت دينية أو عرقية أو قبلية أنه ليس من حق هذه الدولة احتكار السلطة وحدها، لذا فإن آليات الحرب الأهلية تبدأ عادة بالتمرد ضد سلطة الدولة ومحاولة اقتلاع جذورها من الشارع، ثم تقفز على الحكم ببرنامج ضبابي وهي تستعين في ذلك بقانونها الخاص، قانون القبيلة أو الحزب أو الجماعة الدينية، ذات التوجه الواحد.

وهكذا تفقد (الدولة) خاصية احتكار العنف وإرساء القانون، إنها تواجه هنا بعنف مضاد وقانون آخر، وتضع هذه الجماعات أيديولوجية ضيقة قائمة على مصلحتها الشخصية بحيث تقضي تماما على البقاء الهش للوحدة الوطنية. وافتقاد الوحدة الوطنية عنصر مهم من عناصر النزاعات الأهلية، كان موجودا بشكل حاد في لبنان إبان الحرب التي استمرت خمسة عشر عاما، وما زال موجودا ومتأصلا في جنوب السودان والصومال والعراق وحتى في بعض الدول التي لم تصل فيها جماعات المتمردين إلى السلطة، وهو- أي افتقاد الوحدة الوطنية- يفقد الوطن مناعته.

لقد حولت الحروب العربية والنزاعات الأهلية في بعض الدول العربية، المواطن العربي إلى فأر مذعور، هدفه الوحيد هو البقاء على قيد الحياة، وهي حياة مريرة يقضيها بين الاختباء في الملاجئ والهجرة من مكان لآخر والرعب من القصف العشوائي، والقتل على الهوية، واللهاث المستمر للبحث عن الطعام والدواء قبل أن ينفد كل شيء، وهو يتحول بذلك من مواطن إلى كائن بيولوجي تحركه فقط غريزة البقاء، إنها تشوه روحه وتحط من إنسانيته، ومن قدرته على الخلق والابتكار، وعلينا أن نتصور أطفال هذه النزاعات الطويلة التي شوهت نفسياتهم والمصير الذي ينتظرهم بعد أن ذاقوا الرعب في أيام طفولتهم الأولى.

وقد تناقلت وكالات الأنباء أن أطفال عدن كانوا يشتاقون لليلة واحدة فقط خالية من القصف العنيف، حتى يتمكنوا من متابعة مباريات كأس العالم، كانوا يريدون أن يتشاركوا مع الملايين من أطفال العالم في الجلوس أمام التلفزيون، والتمتع برياضة كرة القدم ولكن القصف العشوائي بالصواريخ والموت المفاجئ لم يمكنهم من ذلك.

ومن المثير للدهشة أن الحروب الأهلية التي تقع بين أبناء البلد الواحد تكون أشد مرارة وعنفا من الحروب التي تقع بين هذا البلد وعدو خارجي، إن عملية تعميم العداء بين فصائل نفس الشعب تكون دائما مؤلمة وموجعة، إنها أشبه بعمليات بتر الأذرع والسيقان، إنها رغبة من الجماعة المتمردة في إثارة أكبر قدر من الخوف الممتزج بالكراهية، إنه ظلم ذوي القربى، وربا كان هذا هو سر المبالغة في إطلاق كميات كثيفة من النيران دون تمييز بين موقع مدني أوعسكري أو بين مستشفى أو مدرسة أو بناية سكنية، إن هدف النزاعات الأهلية هو دفع الجميع إلى طريق اللاتسامح الدموي، فكل جماعة- أو قبيلة- تغلق فكرها حيال الأخرى وتحاول إلغاءها، حدث هذا في لبنان ويحدث في اليمن وتمارسه الجماعات المتعصبة الأخرى بدعوى تكفير كل من يناوئها وتسعى لاستئصاله.

في حالة لبنان فإننا نرى حتى اليوم- رغم حالة الهدوء النسبي بعد الحرب الأهلية- أن هناك مناطق سكنية قد هجرها أهلها ولا يريدون العودة إليها من جديد، فذكرياتهم المريرة تمنعهم من العيش مرة أخرى في مناطق شهدت عنف جيرانهم، وتبقى جروح الحرب الأهلية لسنوات لا تندمل، وهي جروح نفسية وثقافية تشرخ الوطن وتقعده عن مسايرة ركب الحضارة.

من حرب المدن إلى حرب الشوارع

وما زالت "الأعراض اليمنية" مستمرة، من حروب المدن إلى حروب الشوارع، ومن تصفية الخصوم السياسيين إلى محاولة اغتيال الأفكار.. العنف والعنف المضاد.

ورغم الاختلافات الكبيرة بين سلطة الدولة، وبين الجماعات الأصولية التي تناوئها في بعض بلداننا العربية، إلا أنهما- ويا للمصادفة- يتشاركان في الكثير من الصفات والمواقف، فهما معا يقفان نفس الموقف الغامض من المشاركة السياسية والديمقراطية ومبدأ تداول السلطة والحريات الممنوحة للأفراد الذين يخالفونهم في الرأي، وكلاهما- الدولة والجماعات- تعطي لنفسها المرجعية الأخيرة، ولا كلمة فوق كلمتها، ولا رأي إلا رأيها.

فما زالت الدولة المركزية في كثير من أقطار الوطن العربي تعتمد سلطة الرأي الواحد، ولا تتوقف- بواسطة صناديق الاقتراع أو بغيرها- عن تهميش دور الأحزاب الأخرى، ورغم هجومها على الأنظمة الشمولية فهي ما زالت تمارس أساليبها ولا تسمح بقيام معارضة حقيقية وفعالة يمكن أن تقوم بدور الرقابة والتوجيه، ناهيك عن أن تكون قادرة على التنافس على الحكم، ولا تأخذ في اعتبارها أي تعددية سياسية تخالفها الرأي ولا تدع هذا يؤثر في سلطة اتخاذها للقرار.

وهو نفس الموقف باختلافات بسيطة بالنسبة للجماعات الأصولية، فهي ترفض مبدأ التعايش على قدم المساواة مع الرأي الآخر أو الأقليات الدينية والطائفية الأخرى، وتتعرض فقط لصدام مع أبناء الملة الأخرى قسرا، هكذا كانت الحرب الأهلية اللبنانية لم تكن جذورها عقائدية فقط، فقد كانت بجانب ذلك ثورة ضد الحرمان من الامتيازات التي تتمتع بها طائفة دون الأخرى.

ولا يزال موقف بعض الحكومات العربية غامضا من الديمقراطية، فهي تنادي بها ولكنها لا تضعها موضع التنفيذ الفعلي، بل إنها في أغلب الأحيان - وكما يبدو من تصريحات كبار المسئولين- تراها مرادفة للفوضى السياسية، وتعتقد أن الجماهير التي تعاني من الأمية ومن التخلف غير مهيأة لممارستها، ولذا تلجأ بعض الأنظمة العربية إلى صور مقيدة للديمقراطية لا تخلق مؤسسات شعبية ذات سلطة حقيقية مؤثرة في صنع القرار السياسي ووضع آليات للرقابة الشعبية.

أما الجماعات الأصولية فهي بادئ ذي بدء لا ترتاح لهذه الكلمة (الديمقراطية) ذات المدلول الغربي، ثم تتعدى ذلك إلى رفض بقية آليات هذه العملية من أول صناديق الاقتراع إلى بطاقات الانتخاب إلى بقية المؤسسات التي تعتمد مبدأ فصل السلطات. كما أنها ترفض وجود أي أحزاب أخرى منافسة بدعوى أنها حزب "الحق" الذي يستمد شرعيته من المقدس.

وتتحدث الدولة المركزية عن الشرعية، الشرعية الدستورية أحيانا والثورية في أحيان أخرى، وهي بهذا تعطي لنفسها الحق في التحدث نيابة عن معظم التيارات السياسية داخل الدولة، بل إنها تجعل من نفسها نائبة عنهم دون أن تأبه باستشارتهم، وترفض كل انتقاد أو توجيه وتتعامل مع هؤلاء المنتقدين في بعض الحالات معاملة المتمردين الخارجين على الشرعية.

وهي نفس النظرة بالنسبة للجماعات الأصولية التي تضفي على تصرفاتها طابعا مقدسا وتفرض نفسها على أنها المفسر الوحيد للدين الحنيف والمتسامح، وهي تستخدم المؤسسات الدينية- كالمساجد- مسرحا لنشاطها السياسي والحزبي، ويعطيها هذا الحق في أن تتهم كل من يحاول انتقادها بالكفر والإلحاد، كما أنها تلوي عنق النصوص كي تبيح لنفسها سرقة الأموال، واختراع قواعد جديدة للزواج والطلاق، كما دلت على ذلك بعض شهادات أفراد من هذه الجماعات.

الاثنان معا- الدولة والجماعات الأصولية- ينزلقان في نفس المنزلق، لذا فإن الصراع بينهما يكون مريرا ومحتدما، وكلما كسبت إحداهما جولة، سارعت الأخرى بفرض جولة أخرى من النزال، وفي بلاد مكتظة بالسكان مثقلة بالمشاكل، لا يدري أحد كيفية الخروج من هذه الحلقة الرهيبة.

إنها حالة تعبر عن الانفصام بين السلطة والجماهير. ولو أن الإنسان العربي خلال هذه العقود الماضية استطاع إلى حد معقول أن يشارك في صنع القرارات السياسية التي أثرت على مصير حياته لتغير كثير من معالم الصورة التي نعيشها الآن.

إن كل ما تمناه المفكرون في هذه المرحلة هو أن نخطو خطوة أبعد من روح المجتمع القبلي الذي تعيش فيه كثير من المجتمعات العربية إلى المجتمع المدني، ذلك المجتمع الذي تقوم فيه الجماعات التطوعية والنقابات والاتحادات والأحزاب التي لا تشارك في الحكم وجمعيات النفع العام بدورها في أداء خدمات للمجتمع وفرض نوع من المراجعة والرقابة على السلطة التنفيذية. ربما لم تكن مسألة تداول السلطة واردة حتى الآن في أذهان الذين يملكون مقاليد الحكم، ولكن المؤسسات مثل مؤسسات المجتمع المدني سوف تكون خطوة متقدمة لامتصاص الكثير من طاقة الغضب الموجودة في نفوس الجماعات المعتدلة التي ترغب في التغيير بشكل سلمي والمشاركة في تشكيل المجتمع المرجو دون أن تجد السبيل لذلك.

إن على هذه الجماعات الأصولية الغاضبة أن تقدم برنامجا إصلاحيا واضحا تستطيع من خلاله أن تكون جزءا فعالا من نشاطات المجتمع المدني وأن تنبذ طريق العنف الذي قطعت فيه شوطا طويلا بلا طائل. وعلى الدولة أن تتيح لها الفرصة قليلا وأن تعطى الفرصة لمؤسسات المجتمع المدني بعد أن حاصرتها طويلا وسلبتها استقلاليتها وشخصيتها بل وأضفت عليها الطابع العسكري بدعوى تأمينها من الداخل.

إن إنجاز مؤسسات المجتمع المدني ورد الاعتبار والفاعلية إليها يمكن أن يمثل القاعدة الأولى لغاية الديمقراطية التي نطمح اليها وهي الكفيلة أن تتيح الفرصة للجماعات المتناحرة في المجتمع لأن تخرج من خلف أسوار العزلة الدينية أو الطائفية أو القبلية.

الإنفاق العسكري والتنمية

وتكشف لنا "الأعراض اليمنية" عن بعد آخر من أبعاد التنمية العربية الآخذة في التباطؤ. ففي الوقت الذي تنهض فيه دول فقيرة وتتحول إلى نمور شرسة تبحث عن طريقها المستقل في التنمية تكشف الحرب اليمنية عن صورة مفجعة لمصير التنمية العربية. فهذه البلاد التي ظلت طويلا تعاني من نقص الحاجيات الأساسية وتدني مستويات التعليم والصحة والخدمة الاجتماعية بها، جاءت هذه الحرب الأهلية الأخيرة لتكشف عن مخزونها الهائل من الأسلحة. كأنما كانت اليمنان تنتظران هذه اللحظة كي تطلقا ما فيهما من طاقات العنف وتفتحا أبواب هذه الترسانة المخيفة بكل ما فيها من صواريخ مدمرة ودبابات سريعة ومدافع بعيدة المدى.. وهكذا في الوقت الذي كانت تتعلل فيه السلطة بندرة الموارد المالية اللازمة لاستيراد الدواء والغذاء والضروريات الأخرى كانت تدفع بسخاء لاستيراد أحدث المعدات العسكرية في بلد مثل اليمن لا يوجد لها عدو خارجي يهدد أمنها، استيراد مثل هذه الكميات من العتاد لا مبرر له إلا أن هذا النظام يحاول أن يحجب نفسه من مواطنيه. وسوء استخدام الثروة والمداخيل القومية هو السمة الغالبة في كثير من دول العالم العربي. فقد بلغ الإنفاق العسكري فيها حوالي ألف بليون دولار عام 1989 ثم انخفض قليلا في عام 1990 أي بعد انتهاء الحرب الباردة إلى 900 بليون دولار ثم عاود الارتفاع إلى أرقام فلكية وبعد صفقات هائلة بعد العدوان العراقي على الكويت إلى 1500 بليون دولار.

وفي اليمن مثلا- وهي مثلنا الكلاسيكي الأثير- يوجد طبيب واحد في مقابل كل 500 جندي، ومدرس واحد في مقابل كل 450 جنديا. وعلينا أن ندرك بعد ذلك لماذا تباطأت التنمية ولماذا أصبحنا نعتمد يوما بعد الآخر على العالم الخارجي في استيراد مستلزمات الصناعة أولا ثم في استيراد الغذاء الضروري اللازم لنا أخيرا..

إن الوطن العربي لا يشكو من قلة الموارد ولكنه بالتأكيد يشكو من سوء إدارتها، ففي الوقت الذي توجد فيه دول عربية على وشك الانهيار الاقتصادي نجد أن استثمارات الأموال العربية في الخارج ما يقارب من 750 إلى 800 مليار دولار وهو رقم يدل على أن رأس المال العربي يفضل الهروب إلى الخارج بعيدا عن عوامل الإفساد السياسي والتحكم البيروقراطي وهي ضربة أخرى موجعة لمسيرة التنمية العربية.

إننا مقبلون على مأساة اقتصادية حرجة.. فالعمل العربي الاقتصادي آخذ في التعثر، وبدلا من حلم "السوق العربية المشتركة" توضع المخططات الآن لوضع ما يسمى "السوق الشرق أوسطية" التي يأمل الغرب أن تنضم إليها الدول العربية وتركيا وإيران وإسرائيل، وهكذا نفقد أساسا كبيرا من الأساسيات التي كان يجب أن يقوم عليها النظام العربي الجديد.

عوائق الوحدة

ماذا نفعل.. هل يمكن أن نتغلب على هذه "الأعراض اليمنية" المزمنة.. هل يمكن أن نصل إلى الحد الأدنى لنظام عربي نتمسك به جميعاً، أن نخرج من حالة إطلاق النار العربية على بعضنا إلى مرحلة التفاهم العربي. إننا لم نعد نطمع في استعادة حلم الوحدة، ولكننا نريد أن ننقذ أنفسنا من مزيد من التشويهات وأن نوقف هذا المسلسل الفاجع الذي يشل حركة الوطن ويوقف تقدمه، فهل يمكن أن تكون حرب اليمن هي آخر حروب القبائل العربية؟

إن لدينا ذاكرة عربية مثقلة بكل مرارات الماضي وثارات التاريخ، محتشدة بأسباب العصبيات والطائفيات والنزاعات العرقية والدينية، وكلما وقفنا على أبواب المستقبل ردتنا هذه الذاكرة إلى الخلف. والفكر العربي مطالب بأن ينقذنا من هذه الذاكرة، وعليه أيضا أن يعيد التفكير في كل البديهيات التي كنا نستند إليها. وإذا كنا نستخرج من هذه الذاكرة حلم الوحدة والقومية العربية بشكل عاطفي ووجداني فإن هذا الحلم كان مثاليا إلى حد كبير. إن علينا الآن أن نفكر في كل العوائق التي تقف ضد الوحدة.

ليس علينا أن ندرس ما يجمعنا فقد اكتفينا من هذا طويلا، ولكن علينا أن نتأمل وبموضوعية كل ما يفرقنا ويقف عائقا دون تكاملنا من أجل البحث عن وفاق مقبول يصون مواردنا البشرية والاقتصادية، يجب أن نسأل أنفسنا لماذا فشلت كل أنواع الوحدات التي قامت.. الثنائية والثلاثية والرباعية؟ لماذا تقف المجالس العربية عاجزة عن دفع التعاون العربي في أي اتجاه؟ لماذا ترتفع شعارات الحب والإخاء ثم في لحظة نلجأ إلى حمل السلاح؟ كيف يمكن أن نرصد هذه "الأعراض اليمنية" قبل أن تنمو وتتفاقم بين كل فكر وآخر.. وبيننا جميعا؟ إنها دعوة لكتابة فكر قومي جديد وعقلاني بعنوان "عوائق تحكيم العقل"، لعلنا نصل إلى دراسة موضوعية وواقعية تتيح لنا الاعتراف بأهمية التكامل رغم الاختلاف وأهمية التنافس دون أن نصل إلى مرحلة العداء، وبهذا لن نكون قد تخلينا عن فكرة الوحدة ولكن تخلينا فقط عن هذا الحلم المثالي الذي لا يقدم ولا يؤخر، وتجاوزناه إلى تفكير واقعي يحقن دماءنا ويصون ثروتنا البشرية، ويقف بنا في مكان معقول بين دول العالم!! إنها مهمة المفكرين، وأنا أدعوهم للتصدي لها.

 

محمد الرميحي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات