أقراص للحب.. ووصفات ضد التوتر شوقي رافع

أقراص للحب.. ووصفات ضد التوتر

وجبة الحب.. حبة، ومركز الأخلاق في المخ يمكن عزله أو تغييره، والجمهورية الفاضلة لا يبنيها الفلاسفة والحكماء بل الصيادلة والأطباء.. هكذا تكلمت السيدة "بروزاك". "دوق معايا الحب، دوق.. دوق، حبة بحبة.. دوق" ولم يكن يخطر في بال السيدة أم كلثوم، ولا في بال ذواقتها من مدمني العشق المعتق، أن عشاقا آخرين، سوف يستمعون إليها بعد ربع قرن، ثم يركضون إلى أقرب صيدلية، يشترون منها علبة، يتذوقونها مع الحبيب "حبة.. بحبة" ويغرفون من حنان القلب حتى آخر حبة فيها.

هؤلاء هم العشاق الجدد، وهم جادون، يستمتعون مع نجاة الصغيرة وهي تغني لنزار قباني "الحب في الأرض بعض من تخيلنا.. لو لم نجده عليها لاخترعناه" وهم يخترعونه في كل لحظة.. وبالألوان (!).

وهؤلاء العشاق الجادون ليسوا مراهقين ولا مرضى! ويزعمون أنهم يرفضون المخدرات، ولا يطيقون "الهلوسة" ويعيشون حياة اجتماعية نشيطة.. ومع ذلك فإنهم يريدون أن يرفعوا كفاءتهم العاطفية كما العملية، لذلك فإنهم يلجأون إلى "بروزاك" (!). وبروزاك هو اسم الحبة السحرية الملونة التي يتبارى الأطباء في وصف أفاعيلها، ففي تحقيق نشرته مجلة "نيوزويك" الأمريكية، في فبراير الماضي زعمت أن هذه الحبة تجعل العواطف أكثر "مرونة"، بعد أن أصابها العمل بتخشب المفاصل، كما أنها تطرد الكآبة وتنشط الذاكرة وتساعد على التركيز وتهزم الخجل بالضربة القاضية، أكثر من ذلك فإن هذه المعجزات كلها تتحقق خلال ثلاثة أسابيع فقط منذ بداية ابتلاع أول حبة، ولذلك فإن الأطباء الذين لم يعودوا يقفون أكثر من ثلاث دقائق مع كل مريض يسارعون إلى وصفها، وهم لا يوفرون نصائحهم للأصحاء في استخدامها، بحيث زاد عدد الوصفات التي يكتبونها على مليون وصفة شهريا، وهو ما رفع مبيعات الشركة صاحبة الحبة إلى ما يزيد على مليار و 200 مليون دولار سنويا، ومثل هذا المبلغ تحصل عليه أيضا شركات أخرى تنتج أنواعا مشابهة من حبوب المعجزات (!).

رأسك مثل سيارتك

و"بروزاك" مازالت في المهد بعد، فهي ابنة العقد الأخير من "صيدلية الدماغ "، حيث تجرى الأبحاث حاليا على إنتاج حبوب تساعد الإنسان على استخدام رأسه، كما يستخدم سيارته، فإذا كان مثلا على موعد مهم يخشى أن يفوته فإنه يطلق لسيارته العنان، وهذا ما يمكن أن يفعله بدماغه أيضا، وبدلا من أن يقضي ساعات في نبش ملفات ذاكرته بحثا عن معلومة أو حل لمشكلة، فإن الجيل الطالع من "بروزاك " يعده بحبة تسابق في مفعولها سرعة الضوء وتتفوق على الكمبيوتر في تقليب ملفات الذاكرة، بل إن الحبة الموعودة تريحه من "وجع الدماغ " الذي ينتابه كلما حاول تحفيظ ابنه "جدول الضرب" غيبا: القمه الحبة.. فتأكل ذاكرته الجدول بأسرع مما تقضم أسنانه قطعة الحلوى (!).

ويصف الدكتور "بيتر كرامر" في كتاب تصدر قائمة الكتب الأكثر رواجا بأمريكا، ويحمل عنوان "الإنصات إلى بروزاك" حالة مرضاه فيقول: لقد صاروا أشد ثقة بالنفس، وأكثر شعبية، وهم لامعون عقليا ومرنون عاطفيا".

ومع أن أصحاب "بروزاك" يزعمون أنها لا تؤدي إلى الإدمان، وأن تأثيراتها الجانبية طفيفة: الشعور بالدوخة أو بالعجز الجنسي (!). إلا أن أطباء آخرين يحذرون: إن مخاطر حبوب "الفاليوم" المعروفة لم تظهر إلا بعد سنوات، وفي الوقت الراهن فإن الناس يتحولون إلى أدوات اختبار، ولعلنا نحتاج لسنوات قبل أن نعرف سلبيات البروزاك.

وبانتظار السلبيات فإن الناس غربا وشرقا تدفع ثمن الاختبار حبة.. بحبة.

هذا في ثقافة الحبوب التي تأتي في سياق حضارة الوجبات السريعة التي تجتاح العالم، حيث تختنق الحكمة في طوفان المعلومات، فالأرض لم تعد، كما يزعم الشاعر الإنجليزي تي. اس. اليوت، فهي عامرة بأسمدة السعادة، و"الرجال الجوف" باتوا ممتلئين حتى النخاع بالهامبرجر وبروزاك (!).

الرجل الذي فقد أخلاقه

... وماذا عن الأخلاق؟ إن قوانين الرياضة تمنع المتنافسين من استخدام "المنشطات " لأنها تلغي مبدأ مهما وهو "الفرصة المتكافئة" للجميع، ولكن يبدو أن ما يصح في الرياضة لا يصح في سواها، ولو إلى حين، إذ إن جغرافية المخ إياها، بدأت تكشف عن يوتوبيا جديدة وجمهورية فاضلة، لا يحكمها الفلاسفة والمعلمون بل الصيادلة والجراحون، وهذه الجمهورية الفاضلة تستقر في الفصوص الأمامية من الدماغ، وهي مركز الأخلاق، ومتى أمكن التحكم في هذه التلافيف فإن حقنها بالأخلاق المناسبة يصبح مسألة تقنية فحسب (!).

ولهذا الاكتشاف قصة نشرتها مجلة "سانيس جورنال" العلمية المتخصصة روت فيها أنه في عام 1848- أي قبل قرن ونصف القرن تقريبا- كان السيد فينيس جيج يعمل ناظرا في سكة حديد نيو انجلاند (نيويورك) وكانت الشركة تسعى إلى مد خط سكة حديد جديد إلى فيرمونت، أما مهمة السيد جيج فكانت أن يقوم بحفر ثقب كبير في الصخور الكبيرة، ثم يملأ الثقب بشحنة من البارود مع كبسولة التفجير، ويغطي الثقب بالرمل، ثم يبدأ رصه بأسطوانة معدنية طويلة ذات رأس مدبب "المخل"، وبعد ذلك يشعل فتيل البارود عن بعد، فتنفجر الشحنة ومعها الصخور الكبيرة. ولكن في أحد أيام سبتمبر من ذلك العام كان حظ السيد جيج سيئا، فهو قد حفر الثقب وملأه بالبارود ووضع كبسولة التفجير، على أمل أن يقوم مساعده بإضافة الرمل فوقه، غير أن المساعد لم يفعل، وعندما أمسك السيد جيج بالمخل وبدأ برص الثقب وقع الانفجار، واندفع المخل بقوة الصاروخ ليدخل من تحت عينه اليسرى ويخرج من مقدمة رأسه فوق الجبهة، ويسقط على بعد عشرات الأمتار، مع ذلك فإن السيد جيج تمالك نفسه بعد الحادث وتحدث مع عدد من العمال، وتم نقله إلى مبنى قريب، وبعد أشهر تعافى، ولكن السيد جيج بعد الحادث هو غيره قبل الحادث، فهو لم يفقد عينه اليسرى فحسب ولكنه فقد أخلاقه أيضا(!)، إذ لم يعد يميز بين الخير والشر أو بين الخطأ والصواب، وصار يستخدم لغة سوقية في حديثه ويكذب على أصدقائه، ويقوم بتصرفات اجتماعية مخجلة.. بينما حافظ على مستوى ذكائه ولياقته الذهنية، وقدراته الرياضية في الوقت نفسه.

حبّة.. للبرنامج الحزبي

ومنذ ذلك التاريخ وعلماء الدماغ يدرسون في الجامعات حالة السيد جيج، ويبحثون عن تعليل لها. ومن هنا تبدأ سمة انطونيو وراماسيو وزوجته حنة وكلاهما طبيب، ويستخدمان الكمبيوتر في رسم صورة للمخل الذي اخترق الدماغ، ويحددان المراكز التالفة فيه، ثم بعد تجارب كثيرة، ينشران النتائج، وهي أن في الفص الأمامي من الدماغ مركزا للأخلاق والعقيدة، يعمل ذاتيا بشكل منفصل، ولكنه يتواصل مع بقية المراكز، وهذا المركز يعمل أفقيا وعموديا، أفقيا يقوم بترتيب المسائل المنطقية والربط الرياضي والتجريدي، وعموديا يتصل ببئر الانفعالات والذكريات والموروثات الأخلاقية والدينية، وما حدث هو أن المخل، الذي هو أشبه بالرمح، أتلف فقط تلك البئر في الدماغ بينما حافظ الدماغ على لياقته الأفقية، وكأن هناك نوعا من الكونفيدرالية بين المركزين، فإذا سقط مركز بقي الثاني يعمل..(!).

إذن هل يمكن في هذه الحال عزل مركز الأخلاق والعقيدة عن باقي تلافيف الدماغ وحقنه بالأخلاق والموروثات والمفاتيح المناسبة ثم إعادة تشغيله بما يخدم "المصلحة العامة" للأمة؟

لا أحد يجرؤ على طرح السؤال، ولكن بالتأكيد هناك حكومات كثيرة، خاصة في العالم الثالث، لن تبخل بالجراحين كي تستخدم جماجم أبنائها في تأسيس الجمهورية الفاضلة حتى ولو اضطر أولئك الجراحون إلى استخدام المخل (!).. أما إذا نجحت الحبوب في القيام بالمهمة فإن هذا سوف يوفر على الأحزاب الكثير من الهموم، إذ ما عليها إلا أن تختار الحبة ولونها وتحقنها ببرنامجها السياسي ثم تلقمها للجماهير الغفيرة (!).

الفجر والنافورة والمكنسة

ولكن هل هناك رسائل أكثر إنسانية من "بروزاك" يمكن أن تخفف من كآبة هذا العالم، خاصة في شتاء لندن ونيويورك وصيف الخليج. حيث يتناوب على الإنسان كابوس الصقيع والشمس، ثم ماذا عن الحروب؟ هنا بعض الابتكارات التي تتعامل مع "جغرافيا النفس":

* كشفت دراسات اقتصادية في نيويورك أن معدل الإنتاج لدى سكان المدينة ينخفض خلال شهري يناير وفبراير بمعدل يصل إلى 7%، وهو ما يعتبر كارثة، وتبين أن السبب، كما أوضحت الدراسة، هو أن صباح نيويورك في هذين الشهرين لا يشجع الناس على النهوض من أسرتهم ويصيبهم بالكآبة والعجز عن القيام بعملهم بشكل منظم، ومن هنا تقدمت إحدى الشركات بحل اقتصادي وغير مكلف، فعرضت أن تبيع لهم فجرا مشرقا ساطعا يساعدهم على القفز من أسرتهم بنشاط، وهذا الفجر عبارة عن ضوء "فلوريسانت"، يمكن برمجته ووضعه قرب النافذة، فإذا حانت الساعة المطلوبة.. يبدأ الضوء في السطوع تدريجيا إلى أن يتحول فجرا كاملا، ومع هذا الفجر عدة إضافات من نوع كاسيت يطلق غناء الطيور، أو هدير البحر، أو حفيف الأشجار في الغابات، وبما أن ثمن "الفجر" لا يزيد على 75 دولارا، فقد أبدى كثير من المصانع والشركات حماسة كبيرة للمساهمة مع عمالهم وموظفيهم بشرائه.

* استضاف كاتب هذه السطور في مدينة الشارقة بدولة الإمارات طبيبا، أمريكيا وزوجته اللبنانية وكان الوقت صيفا، في المساء وقبل النوم طلبت الزوجة دلوا من الماء حملته إلى داخل غرفة النوم ثم خرجت وملأته من جديد، مع أن من عادة الضيوف أن يكتفوا "بغرشة" من الماء وليس بدلوين كاملين، بعد مرور دقائق، بدأ صوت سقسقة المياه ينساب من غرفة نوم الضيفين، وخشيت أن أحدهما استبدل الحمام بغرفة النوم، وبدأت أتوقع أن يخرج الماء في أية لحظة من تحت الباب.. وفي الصباح كنت أنتظر بفارغ الصبر أن ألقي نظرة على الغرفة، وعندما أطلت الزوجة لم أتمالك نفسي، فقلت: يا سيدتي، هل تحتاجين إلى المزيد من الماء؟ وأمام نظراتي المصوبة باتجاه الغرفة، اكتشفت الزوجة ما أعنيه، فهتفت ضاحكة: آ.. أنت لم تشاهد النافورة، إن زوجي يحملها معه أينما ذهب، وفتحت الباب على اتساعه، فإذا إلى جانب السرير بحيرة صغيرة من البلاستيك المنفوخ بالهواء، وفي وسطها نافورة مضاءة يتصاعد منها الماء ثم يتساقط مسقسقا، وتعمل البحيرة على الكهرباء، قالت الزوجة: إن "ستيف" يجري عمليتين أو ثلاث عمليات في اليوم، ويعود متوترا، مما كان يضطره إلى ابتلاع حبة، ولكنه أقلع عنها، بعد أن قدم له مريض ياباني هذه الهدية.. إنه مدمن على بحيرته (!).

* وحكاية أخيرة من لبنان: سيدة لبنانية متزوجة وعندها ولدان، زوجها يعمل طيارا، مما يضطرها إلى قضاء أكثر من ليلة وحيدة مع الولدين، وكانت في زمن الحرب عندما يبدأ القصف الليلي، تشعر بالرعب حتى الموت، أعطاها الطبيب دزينة علب من الحبوب المهدئة والمسكنة ولكن على غير فائدة، قالت: "في النهار أكون أقل خوفا، ولكن في الليل، عندما يبدأ القصف يتصلب عمودي الفقري وأشعر أنه يكاد يتكسر، وعندئذ فإن حبوب الأرض كلها تعجز عن تهدئتي، و هذا يخيف الولدين".

جاءتها يوما أمها في زيارة، عندما سمعت مشكلتها، سألتها: عندكم في البناية مولد كهرباء؟ أجابت: عندنا والكهرباء لا تنقطع، عندئذ قالت الأم: هيا احضري مكنستك الكهربائية إلى غرفة النوم، وعندما يبدأ القصف.. شغليها على أقصى سرعة.. وعملت السيدة بنصيحة والدتها، قالت: وتخليت عن الحبوب، صرت أغفو على صوت أوركسترا المكنسة(!).

ابتكارات صغيرة بالتأكيد، ولكنها وحدها قادرة على أن تمنع اختصار العمر في.. حبة(!)

 

شوقي رافع

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات