في شارع من
الشوارع المقفرة لفتت انتباهي قصاصة جريدة تتلاعب بها الريح، قصاصة طغى على بياضها
اصفرار قاتم لعلها آثار أشعة الشمس المحرقة.. فضول عنيد أجبرني على رفعها وتصفحها
وإذا بي أجدها تحمل موضوعا حول السينما عنوانه (السينما الجزائرية من أين وإلى
أين؟) في حلقته الأولى ولصاحبته (فاطمة بلحاج) - ممثلة وناقدة سينمائية جزائرية -
وأنا أتصفحه أصابني الذهول حين قرأت: (... وبفعل العوامل الاجتماعية الحيوية لتجربة
الثورة الجزائرية، كانت السينما في سنواتها الأولى تسعى للبحث عن الهوية الثقافية
للشعب الجزائري..)؟!..
أذهلني هذا الطرح
لانطوائه على متناقضين صارخين (الصدق والكذب).. كلام جميل في ظاهره ولكنه قبيح ومر
المذاق في باطنه كمرارة السينما الجزائرية مثله كمثل "نوار الدفلي".. كلام يعكس
بصورة ثاقبة حقيقة السينما الجزائرية التي في شكلها توهم الناس بأنها أصيلة بناء
على شخوصها والأمكنة التي تجري فيها الأحداث؟ لكنها في العمق بعيدة كل البعد عن
الأصالة بما تحتويه عن بذور أيديولوجيات مفلسة وفلسفات جوفاء وبما تشكله من خطر
طاعن وقاتل لقيم الهوية الثقافية للشعب الجزائري.. الصدق في هذا الطرح أن السينما
الجزائرية قد سعت فعلا منذ الاستقلال للبحث عن الهوية الثقافية للشعب الجزائري،
ويعود هذا التوجه أساسا إلى خلل نفسي يعانيه السينمائي الجزائري، فكر رجل عاش ولا
يزال يعيش فراغا وخواء ثقافيا أصيلا، ويعاني زفرات ثقافة دخيلة أوجدتها في نفسيته
اللغة الفرنسية التي بها يتكلم ويفكر وعلى نمط معيشة أهلها يحيا فهو عموما فرنسي
الباطن، جزائري الجسد.. وهذه "التخمة" سببت له إحباطا نفسيا وقلقا عصبيا لا يعرف له
مصدرا، والواقع أن مصدره يكمن في أن السينمائي الجزائري يحيا قيما ثقافية غريبة عن
وجدانه العربي جعلته يحس بالعزلة وعدم الانتهاء، فلا هو جزائري ولا فرنسي، وأعتقد
أن الشعب الجزائري يعاني مثله هذا التوتر والتفتت والخواء الثقافي، فحمل الكاميرا
وراح المسكين يبحث عن هويته الثقافية..
أما الكذب فيه،
فهو في السينما الجزائرية لم تسع إطلاقا للبحث عن الهوية الثقافية للشعب الجزائري،
لأن ذلك وفيه ضرب من الجنون، والحقيقة أنها عملت منذ الاستقلال على طمس قيم هذه
الهوية - باستثناء بعض الأعمال السينمائية التي اتخذت من ملحمة حرب التحرير موضوعا
لها - أما إذا تأكد أن السينما الجزائرية قد سعت فعلا للبحث عن الهوية الثقافية
للشعب الجزائري، فإنني اقترح على الشعب أن يعلن تبرؤه من هذه الفئة المعتوهة من
الجزائريين.. والا فكيف نفسر مثل هذا التصرف المتسم بالشذوذ؟!.. السينمائي الجزائري
في هذه الحالة لا يختلف عن بطل هذا السيناريو المختصر..
(.. جاء غريب
فاحتل رجلا في بيته كان يعيش في مأمن ورخاء.. الرجل رفض هذا الاحتلال وأعلن تمرده
وقاوم الدخيل بكل شراسة.. غير أن الغريب كان أكثر شراسة وقوة، فاضطهده واستعبده
وجرده من كل ما يملك وحرمه بذلك من أبسط حقوقه كإنسان، معتقدا انه بهذه المعاملة
سيخضع الرجل لأمر الواقع، لكن ذلك لم يحدث، بل واصل الرجل تمرده.. واستنارت في رأس
الغريب فكرة جهنمية بعدما أدرك حقيقة الرجل والمتمثلة في تمسكه بمعتقداته ومقومات
هويته الثقافية، فقرر الغريب طمس هذه المقومات وعمل بكل وحشية لم يعرف مثلها
التاريخ، على تحقيق ذلك. لكنه لم يستطيع أن يحد من مقاومة الرجل الذي كان يدرك جيدا
أنه في حالة غياب هويته لن يكون له حق البقاء، ولحظتها سيتمكن منه الغريب وينقض
عليه.. انعزل الرجل وتقوقع حول معتقداته وراح يعد نفسه في خفاء لليوم الأكبر الذي
سيضرب فيه الدخيل الضربة القاضية.. وجاء ذلك اليوم المبارك وأطلقها الرجل صرخة اهتز
لها الكون وتمكن الذعر من الغريب، فحمل حقائبه وفر منهزما بلا رجعة.. وارتاح الرجل
في بيته وكله فخر واعتزاز.. فجأة وفي يوم كافر، انتابه شعور غريب ووسوست له نفسه
بأنه يعيش بلا هوية ثقافية ولا انتماء حضاري.. فهرع مهرولا في كل الاتجاهات ساعيا
بعشوائية للبحث عن هويته الثقافية.. وما زال المسكين حتى يومنا هذا يبحث عن
انتمائه...)
أليس هذا الرجل
معتوها لا خير فيه؟.. الا يدفع مثل هذا السلوك الشاذ إلى التساؤل: لماذا قاوم
الدخيل؟.. ولماذا لم يسالمه ويندمج في هويته مادام بلا هوية؟!.. لعل ذلك يوفر له
عناء البحث؟.. إن هذا الرجل كما أسلفت هو السينمائي الجزائري الذي كان لزاما عليه
أن يعتنق قضايا مجتمعه وحضارته ويعمل على نشر وإرساء تعاليمها والنهوض بهويته
الثقافية التي أنهكتها مصائب المستعمر... الذي حدث هو العكس تماما، فراح يبحث عن
هوية مفقودة في باطنه، والمتسبب الرئيسي في هذا الإشكال الشاذ هو اللغة الفرنسية
التي أعتنقوها فتمكنت منهم ومن فكرهم الذي أصبح يعاني فقدان الهوية الذاتية
الثقافية، وغلبوا على أمرهم، فتجسدت فيهم نظرية تقليد المغلوب للغالب الخالدة
للعلامة العربي "ابن خلدون: "المغلوب مولع أبدا بالاقتداء بالغالب في شعاره، وزيه،
ونحلته، وسائر أحواله، وعوائده" وهم الذين قال فيهم (مصطفى صادق الرافعي): "والذين
يتعلقون باللغات الأجنبية ينزعون إلى أهلها بطبيعة هذا التعلق.. فتراهم اذا وهنت
فيهم العصبية (عصبيتهم للغتهم) يحجلون من قوميتهم ويتبرأون من سلفهم، وينسلخون من
تاريخهم، وتقوم بأنفسهم لكراهية للغتهم وآداب لغتهم ولقومهم وأشياء قومهم، فلا
يستطيع وطنهم أن يوحي إليهم بأسرار روحه..."
"نعم.. لقد صدق
الرافعي وإننا اليوم نقف على هذه الحقيقة المرة في بلادنا الجزائر؟ من انسلاخ رهيب
ذهب ضحيته أفراد منا يعتقدون أنهم بلا هوية ثقافية.. انسلخوا من تاريحهم وحضارتهم
العريقة قامت بأنفسهم كراهية للغتهم العربية التي امتصوها من ثدي أمهاتهم، وتمردوا
على كل أشياء قومهم الجميلة، فأوهمهم ذلك الحقد الدخيل بضرورة تغيير هذه الأشياء
الأثرية النفيسة المؤكدة لوجودهم...
ان معظم المواضيع
التي تطرقت لها السينما الجزائرية مهما كان نوعها يشتم فيها رائحة الانسلاخ
والمخادعة التاريخية والتغريب، حتى وإن اجتهدوا في إخفاء ذلك بطريقة أو بأخرى، لكن
بعض "الخرجات" والالتفاتات السينمائية تفضحهم لما تحتويه من رسائل مدسوسة موجهة إلى
المتلقين والرامزة إلى ضرورة الانسلاخ والاندماج في ثقافة غريبة.. وتلك الشطحات
الحاملة لبذور أيديولوجيات تافهة، كافرة التي تطعن الطعن المبرح في قيم الهوية
الثقافية للشعب الجزائري العرب المسلم.. ولتأسيس هذه الملاحظات لا بد من ذكر بعض
الأمثلة التي تنوعت وتعددت بتنوع وتعدد الأفلام الجزائرية، وهي عبارة عن قراءات
سينمائية، فالسينما كما هو معروف، لغة فنية قائمة بذاتها إذ يمكن من خلال لقطة
واحدة ودون حوار أو تعليق تمرير رسالة معينة وبصورة واضحة جدا، والتي تترك أثرها
سواء لاحظها المتلقي أو لم يلحظها... من أكبر جرائم السينما الجزائرية في حق
الإنسان الجزائري العربي وهويته الثقافية هو اعتمادها - بناء على خلفية حاقدة -
إظهار تلك الشخصية الجزائرية بلباسها التقليدي من "برنوس وقندورة ولحفة أو شاش"
الذي يميز الجزائري عن باقي سكان المعمورة (وأعتقد أن الجزائريين في أي مكان من
القطر الوطني يرتدون لباسا موحدا له نفس المواصفات مع تغيير في الألوان فقط) بمنظر
وأسلوب مشوهين، وأصبحت هذه الشخصية الأصيلة ترمز بشكل قذر للتخلف والغباء والجهل
وتتصرف أمام الأشياء والمواقف ببلادة، واستطاع السينمائي الجزائري تمرير هذه النظرة
وتمكن من رسمها في أذهان المتلقين وغيرهم، ولقد نجح في ذلك، وأصبحت هذه الشخصية
مسخرة لكل الناس لما تشكله من عوامل تخلف وجهل كبيرين؟ وراحت جموع الفنانين -
محترفين وهواة - تعمل على تدعيم هذه الجريمة باستعمالها نفس الأسلوب.. ألا يعكس هذا
انسلاخا صارخا للسينمائي الجزائري عن أصالته وهويته الثقافية؟ .. الا يخفي هذا
الفعل المتعمد كراهية للرموز والأشياء الجزائرية العربية؟.. الا يشكل هذا احتقارا
للإنسان الجزائري الأصيل؟...
ذلك اللباس
الجزائري التقليدي المحض الذي كان يرتديه الأمير عبدالقادر وبوعمامة وبن باديس
والمقراني وبن قيطون (الشاعر الشعبي الفحل) وكل أفراد الشعب الجزائري، يصبح اليوم
وفي هذا الزمن الرديء رمزا للتخلف والجهل ومحلا للضحك والمسخرة؟!.. وكأني بالأمير
عبدالقادر في أروع أناقته مرتديا لباسه الجزائري العربي يخاطب الآن هؤلاء
السينمائيين (فرنسيس) آخر الزمن، قائلا:
يا عاذرا لامرئ قد هام
في الحضر |
|
وعاذلا لـمحـب البـدو
والقـفـر |
لو كنت تعلم ما في
البدو تعـذرني |
|
لكن جهلت، وكم في الجهل
من ضرر |
نحن الملوك فـلا تعـدل
بنا أحـدا |
|
وأي عيـش لمن قد بـات
في خفـر؟ |
وكأنني بابن
باديس مرتديا لباسه الملائكي الناصع البياض يقول لهم: "لا شرف لمن لا يحافظ على شرف
وطنه، ولا سمعة لمن لا سمعة لقومه.."
ولقد صدقا.. ان
تلك الشخصية الجزائرية بلباسها التقليدي لمن سلالة الملوك وكان الأحرى بالسينمائيين
الجزائريين أن يجعلوا من هذه الشخصية رمزا لهم ومحل فخرهم، بدل شخصية (عمر قتلاتو)
المعتوهة بشعرها الطويل وغبائها المفرط ورداءة ذوقها وقلة أملها وسلوكها الغريب
وشذوذها الجنسي، على عكس ما يفعله كل سينمائيي العالم المعتزين بانتماءاتهم.
فالأوربي عموما يرمز لذلك بلباس العصور الوسطى من (بروك) وغيره، والأمريكي برعاة
بقره إلى غير ذلك... وإنهم بذلك يدفعون المرء إلى احترامهم.. أما السينمائي
الجزائري العبقري فيخجل - كما تخجل النساء - من ثقافته، وما تشمله من مقربات وعادات
وتقاليد ومن قومه.. فأي عيش لمن قد بات في خفر؟!.. ولا شرف لمن لا يحافظ على شرف
وطنه، ولا سمعة لمن لا سمعة لقومه.
مع العلم أن هذه
الشخصية الجزائرية العربية بلباسها التقليدي التي حاول السينمائيون تشويهها - ولقد
نجحوا - تجد لها مكانا محترما في أعماق نفسية المتلقي وذلك لما تشكله من أصالة،
فسرعان ما يشتهر الممثل الذي يمثل هذه الشخصية، وخير دليل المرحوم (الحسن الحسني)
الذي أبدع في تقمصه لها؟ ولعلنا نلتمس بوادر النجاح فيه الممثل (عريوات) من خلال
تمثيله لدور بوعمامة ذلك الشيخ البطل الوقور ويزيد في وقاره وهيبته لباسه التقليدي
الملائكي. لعل هذا ما يعكس صراحة مكانة تلك الشخصية في قلب الإنسان الجزائري
الرامزة لأصالته والمؤكدة لوجوده وتميزه...
"سنين
الجمر"
بالرغم من أن هذا
الفيلم أريد له أن يكون ملحمة لمعاناة وكفاح الشعب الجزائري ضد المستعمر قبل اندلاع
الثورة التحريرية، فإنه طيلة أحداثه لا يلاحظ المشاهد أي صورة من صور هذا الكفاح
الذي تعمد المخرج إظهاره بشكل آخر يقوم أساسا على الصراع القائم بين الجزائريين
أنفسهم، وركز على ذلك تركيزا غريبا، فأظهرهم يتقاتلون بوحشية على منابع المياه،
ويرمز إلى ذلك التطاحن بتطاحن الكلاب، إذ يلاحظ المتلقي صورا لكلاب تتطاحن مركبة
على صور الجزائريين وهم يتقاتلون.. يصارعون الأوبئة والفقر. ولقد نجح المخرج في
إظهار ذلك بشكل مدهش، ولعل أبشع وأعنف مشهد هو تلك المسيرة التي حوصرت من طرف
مجموعة من الخيالة الجزائريين (بغض النظر عن تعاملهم مع فرنسا) والذين انكبوا على
قتل إخوانهم بطريقة وحشية يندى لها الجبين، أرادها المخرج بطريقته الفنية
السينمائية أن تكون واضحة للمتلقي ليقف غلى مدى وحشية الإنسان الجزائري، بينما
المستعمر يتأمل ذلك من أعلى (يظهر ذلك في المشهد) وكأنه المنزه البريء من هذه
المجازر.. وهنا تكمن المغالطة التاريخية والطعن الأكيد في إنسانية الجزائري.. ثم
تظهر شخصية ذلك "الدرويش" المعتوه والتائه - وهو في اعتقادي يرمز إلى الانهزامية -
الذي لا هم له إلا اتهام الجزائريين الأموات منهم والأحياء محملا إياهم ما يحدث من
مآس وقتال وأوبئة، وغض النظر عن المتسبب الرئيسي والوحيد في كل ذلك وهو الفرنسي
الدخيل بلا ريب، وتناسي مخرج الفيلم أن تلك الصراعات وذلك الحرمان ما كانت توجد بين
الأخوة لولا وجود ذلك المكروب الطفيلي الخبيث والزارع للفتن وما ينتج عنها.. فماذا
أراد أن يقول المخرج من خلال ذلك؟!.. أنها في اعتقادي الرسالة المدسوسة، الطاعنة
للهوية الثقافية باعتبارها المتهم الوحيد حسب الفيلم فهي التي أوجدت التخلف في
مجتمعنا بناء على عاداتها وتقاليدها وقيمها المبنية على العصبية والانطوائية
والتطرف وما يعقب ذلك من ويلات، وإلا فكيف نفسر صمت الفيلم وعدم افصاحه بصراحة عن
المتسبب الحقيقي المتمثل في الاستعمار الفرنسي؟!.. وترك المتلقي تائها لا يعرف من
المتسبب هل هو الفرنسي أو الجزائري؟، لا ذا ولا ذاك، هذا ما دفعني إلى الاعتقاد بأن
المقصود أصلا هو الهوية الثقافية وما تشمله من قيم ومعتقدات وتقاليد، وباحتضان
الجزائري لهذه الهوية (العربية الإسلامية) جعلت منه متوحشا لا إنسانيا، لا هم له
إلا التطاحن مع إخوانه وإلى غير ذلك من السلوكيات المتخلفة.
ولعل المتمعن في
أغلبية الأفلام التي تطرقت إلى حرب التحرير، يلاحظ أنها لا تكاد في معظمها تنجو من
هذه الظاهرة المرضية المتمثلة في صراع وحقد الجزائريين على بعضهم البعض، إذ إنها
تركز بشكل غريب على هذا الصراع الذي يعتبر هامشيا مقارنة مع ما فعله المستعمر
العنصري في حق شعبنا وبالتالي فهو بعيد كل البعد عن الصراع الحقيقي ضد المستعمر..
ولتعليل هذه الملاحظة يوجب سرد بعض الأمثلة أي المشاهد التي تكرس مثل هذا الصراع..
في أغلبية الأفلام نقف على مشهد متشابه ومكرر يتمثل عادة في طابور من الجزائريين
ينتظرون مئونة أو عملا أو غيره، الرجل الذي يقوم على تنظيمهم لا بد أن يظهره المخرج
جزائريا يحمل عصا ولا يتوقف لحظة واحدة عن ردع الناس، ولا يكاد المرء يسمع منه كلمة
طيبة (انظر فيلم "نوة" على سبيل المثال لمخرجه عبدالعزيز طلبي).. ثم يأتي المستعمر،
فيتساءل عن سبب وجود هؤلاء الناس، يرد الجزائري صاحب العصا الرادعة موضحا أنهم
متخلفون، جائعون.. وفي بعض الأفلام يتجرأ المخرج ويجعل المستعمر يعطي درسا للجزائري
في الإنسانية، فيطلب منه ببساطة ألا يتصرف معهم بمثل تلك الخشونة والجفوة.. واليقين
أن مثل هذا المشهد لا يمكن أن يكون حقيقة بل انه ضرب من الخيال الواعي المستهدف طعن
انسانية الجزائري..
- في فيلم "نوة"
دائما مشهد من أروع المشاهد الدرامية المعبرة عن مأساة الإنسان الجزائري أيام
الاستعمار الفرنسي، أتقن المخرج التقاطه وأحسن إخراجه غير أنه في نهايته شوهه
تشويها يكشف عن خبايا نفسية المخرج المضطربة بين الأصالة والتغريب، فتعمد إظهار
الإنسان الجزائري وراء تلك المأساة..
"يسمع صوت طلقات
رصاص من بعيد.. يأخذنا المخرج إلى مكان الحادث.. جثة هامدة لامرأة جزائرية قرب
أكياس كثيرة، تتناثر عليها حبات القمح.. يدها ممدودة تجاه ثقب الكيس الذي يتساقط
منه القمح.. جاءت لتسرق الحب لإطعام صغارها، فقتلها الحارس.. لكنه جزائري في لباسه
التقليدي العربي يسير على حراسة ممتلكات المستعمر الدخيل.."
هنا يكمن التشويه
والمغالطة، واليقين أن يكون القاتل فرنسيا أو غيره من المستعمرين، حتى وإن كان ذلك
غير حقيقي، فإنه من باب أداء الرسالة والأمانة الوطنية، كان الأحرى بالمخرج أن يجعل
القاتل من المستعمرين وذلك أقرب إلى الحقيقة الواقعية..
- ان شخصية
(القايد) وحاشيته حسب الأفلام الجزائرية، لأبغض وأحقد من المستعمر الفرنسي نفسه، إذ
بالغت السينما الجزائرية مبالغة لا يمكن أن يقبلها العقل، في تشويه هذه الفئة من
الجزائريين - بالرغم من أنها مبالغة لا تخلو من بعض الحقيقة - وعليه كان لزاما على
السينمائي الجزائري إذا أراد إظهار هذه الحقيقة أن يكون موضوعيا ويعتمد في ذلك على
المعطيات والشهادات التاريخية الواقعية لتحري الحقيقة كما وقعت ويكون بذلك منصفا،
فيسهر على تصويرها كما كانت لا كما يريدها هو بناء على خلفية تستهدف الطعن في
إنسانية الإنسان الجزائري العربي المسلم وتنزيه المستعمر البغيض..
زهرة
الرمال
هذا الفيلم الذي
توج بجوائز عديدة (من الغرب طبعا). به رسالة مدسوسة في مشهد يعبر بصورة مفضوحة عن
حنين المخرج إلى فرنسا وما تمثله بالنسبة إليه من حرية ومثل عليا، كما يطعن بصورة
سافرة في كرامة المرأة الجزائرية والصحراوية خصوصا، سأسرد لكم المشهد واحكموا بما
شئتم...
".. بين جدران
معمل تهيئة التمور تشتغل البطلة أخت ذاك المعوق العجيب الذي تتمحور حوله أحداث
الفيلم.. كل العاملات الصحراويات يحضرن ويصنفن التمور الموجهة للتصدير وتوضع داخل
علب كبيرة مكتوب عليها (باتجاه فرنسا DESINATION FRANCE ) تقترب بطلتنا من علبة كبيرة، تظهر خلفها الكتابة بشكل
واضع، وبطريقة نشوى تستند عليها راقصة.. حالمة.. في افتتان مرضي وتقول فيما معناه:
(آه.. لو أدخل داخل هذه العلبة وأذهب حيث تذهب).
نعم تقول هذا -
ويا للأسف - إنه المشهد المدسوس المحتقر للمرأة الجزائرية والصحراوية بالخصوص التي
كأنها لا هم لها سوى التفكير في الهروب من واقعها المر أو بالأحرى من انتمائها
الثقافي الحضاري الذي يحرمها من أبسط الحقوق ويضطهدها في اعتقاد المخرج، ولا سبيل
في تحريرها وخلاصها إلا الحنين لفرنسا والهجرة إليها، لكنه تجاهل الحقيقة، وكم في
الجهل من ضرر، حقيقة المرأة الجزائرية عموما - باستثناء المنسلخات - والصحراوية
خصوصا بأنها أكثر نساء العالم تشبثا بأصالتها، ولعل المخرج قد لاحظ ذلك أثناء
تصويره الفيلم في ضيافتها بين أحضان الصحراء مصدر رزقه وعيشه، فبئس ما أراد هذا
المخرج للمرأة الصحراوية.. ولعل لهذه الرسالة خلفية أعمق وأمر وهي الأمل في عودة
فرنسا من أجل خلاص الإنسان الجزائري المستعبدمن طرف انتمائه الثقافي المتخلف
(هذه الفئة الآن تعتقد يقينا أن اللغة العربية هي
صانعة التخلف والتطرف والإرهاب؟!!!)..
"عمر
قتلاتو"
في الفيلم مشهد
يعبر بصراحة وقحة عن الرفض والانسلاخ عن الانتماء العري الإسلامي، حين يكون ذلك
الشاب (عمر قتلاتو) المعقد والجاهل الذي لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون الصورة
المثالية والصادقة المعبرة عن هموم وآمال وطموحات الشباب الجزائري - باستثناء -
الشباب المنسلخ - عندما كان رفقة جمهور من الشباب الذين لا هم لهم سوى الركوض خلف
الأفلام المثيرة للغرائز، داخل قاعة الحفلات لمشاهدة مسرحية تاريخية باللغة العربية
الفصحى فقوبلت بالرفض المطلق وعبروا عن ذلك بصورة همجية من زفير وهرج ووقاحة.. وهنا
تدنس الرسالة الخبيثة للفيلم وهي الرفض المطلق لكل ما له علاقة بالتاريخ العربي
الإسلامي.. وأراد المخرج متعمدا أن تكون طريقة الرفض التصفيق والتهريج والرقص بدل
الإصغاء ومتابعة العرض المسرحي، وهذا المشهد في اعتقادي، يشكل طعنة في ذائقة وثقافة
الشباب الجزائري.. ثم حاول المخرج تغطية هذه " الشطحة" المنسلخة بطريقة أخبث، فجعل
هؤلاء الشباب يلحون في المطالبة بالغناء الشعبي العاصمي طبعا، وبصورة همجية.. لعل
المخرجة بذلك أستهدف تأكيد الهوية الثقافية الجزائرية المنسلخة عن العروبة
والإسلام، وتناسى أن الغناء الشعبي العاصمي (نسبة للعاصمة) لا يشكل وحده اطلاقا
الغناء الشعبي الجزائري، فهو مجرد لون خافت من الألوان المختلفة والمتنوعة للغناء
الشعبي الجزائري. وتسمية هذا النوع بـ (الغناء الشعبي) هو من باب الاستهتار
بالأغنية الجزائرية، فمصطلح (شعبي) يشمل كل الطباع الموجودة عبر القطر الجزائري
الشاسع (الصحراوي، البدوي، العطايفى، القبائلي، التارقي، الشاوي..) وهي الطباع
الأصلية للجزائريين.. والأرجح تسميته بالغناء العاصمي مثلا، أو التلمساني أو
القسنطيني نسبة إلى المنطقة أو المدينة المنتشر فيها، كما هو الشأن بالغناء
الصحراوي أو الصطايفي.. الخ.
أما تسميته
بالأندلسي، فهذا أمر قد يكون فيه شيء من الحقيقة، غير أنني علي يقين من أن مجرد
الظن بأن الغناء الأندلسي في ذلك الزمن الرائع، يشبه ولو من بعيد الغناء الحالي
المعروف بالأندلسي في بلادنا، وأن " زرياب " كان يغني مثل "القروابي (مغني عاصمي
جزائري)، فإن ذلك ضرب من الجنون والغباء، فالأغنية الأندلسية والموشح في ذلك العهد
لا يمكن أن يكونا الا عربيين ضاربين في أعماق الخليج العربي والبداوة.. اذن المخرج
استعملها حيلة ليتستر على عورته المتمثلة في حقده على الانتماء العربي
والإسلامي..
ثم إن المشهد في
حد ذاته عبارة عن كذبة لأن الجمهور الجزائري ذواق وله رغبة كبيرة في الإقبال على
الأعمال المسرحية والسينمائية التاريخية والناطقة باللغة العربية الفصحى، وخير دليل
إقباله عن مسرحية "الوزير العاشق" (التي أبدع فيها عبدالله غيث رحمه الله).. وصفق
لها كثيرا ولايزال يردد مشاهدها من حين لآخر، وفيلم "الرسالة" لمصطفى العقاد الذي
أبكي الملايين، و"عمر المختار" الذي أذهل الدنيا، ومسلسل "الأفغاني" و"ليالي
الحلمية" و"رأفت الهجان" وغيرها من الأعمال الكثيرة التي أحبها الجمهور
الجزائري..
هل هي رسائل
مدسوسة؟
هذه باختصار بعض
النماذج من الأفلام الجزائرية الحاملة للالتفاتات السينمائية التي تنطوي على رسائل
مدسوسة في أحداث الفيلم، وهي متعددة ومختلفة بتعدد واختلاف الأفلام والتي في معظمها
تحمل مثل هذه البذور الطاعنة في قيم الهوية الثقافية للشعب الجزائري.. وهذه الدسائس
السينمائية ذات أوجه وصور مختلفة حسب موضوع الرسالة، فمنها ما يوحي بصراحة إلى
الحنين الغريب لفرنسا، ومنها الآملة في الانسلاخ من الانتماء القومي والحضاري، ولعل
المتلقي بتمعن أكثر، قد يقف على ايحاءات أخطر وأمر.. هذا ما يجرنا قطعا إلى الإجابة
عن التساؤل المتعلق بعالمية السينما الجزائرية كما يحلو للبعض الاعتقاد بذلك ولقد
استنتجوا هذا الاعتقاد الخاطيء من خلال تلك الجوائز التكريمية التي تنالها السينما
الجزائرية من حين لآخر من مهرجانات الغرب سواء تلك التي نالتها من أوربا الغربية أو
الشرقية سابقا.. استنادا إلى الأمثلة السالفة الذكر، تتضح لنا الأسباب المباشرة
والمنطقية التي أدت إلى هذا النجاح المزعوم في الغرب، وفشلها الأكيد في عقر دارها
وفي العالم العربي، لأنها في حقيقة الأمر ليست موجهة للمتلقي الجزائري والعربي بقدر
ما هي موجهة أصلا إلى المتلقين من جمهور الغرب - وخاصة الفرنسيين منهم - وتعمل
جاهدة على إرضائهم، وهذا الأخير أي الجمهور الفرنسي - لا يمكن أن يكون كريما، -
فالكرم ليس من شيمهم - إلا إذا سهر السينمائي الجزائري واجتهد في ترويج أفكارهم
وأيديولوجياتهم ومدحها وأكد رغبته في الانسلاخ... واعتقادي أن كل الجوائز التي
نالتها الأفلام الجزائرية يعود الفضل فيها إلى مثل تلك الالتفاتات و"الشطحات"
الديوثة والحاملة لبذور أفكار وأيديولوجيات ومعتقدات طاعنة في قيمها
الأصلية..
وعليه فالسينمائي
الجزائري يعتمد في صناعة فيلمه على أساس واحد هو استقطاب جمهور الغرب، أما الجمهور
العربي فلا يفكر فيه إطلاقا، وحتى في محاولاته لإنتاج أعماله المشتركة فلا يسعى إلا
وراء المنتج الفرنسي، مع العلم أن أغلب الأعمال السينمائية ذات الإنتاج المشترك تم
إنتاجها مع شركاء فرنسيين..
السينما
الجزائرية تعتبر لا شيء مقارنة مع نظيرتها المصرية اعتبارا لعراقة تاريخ هذه
الأخيرة ومجدها وما أفرزته من أعلام، في كل الاختصاصات السينمائية ولها دون أي
مبالغة الفضل في وجود سينما عربية، فمصر البلد العربي الوحيد الذي واكب وساهم في
المغامرة السينمائية منذ تأسيسها تقريبا.. عموما فإن مجرد التفكير في المقارنة ضرب
من التهور وعلى جميع الأوجه، خاصة إذا حاولنا مقارنة الممثل الجزائري بنظيره المصري
ولعل أبرز وأعظم ممثل عندنا - وهو "رويشد"، فإنه في اعتقادي، لا يساوى شيئا مقارنة
مع آخر الممثلين المصريين، وهذا انطلاقا من عدة مقاييس يجب أن تتوافر في أي ممثل
والتي يفتقر لها أكبر ممثلينا.. فهل يستطيع "رويشد" أو غيره من الممثلين (الكبار
طبعا) أن يمثل شخصية الأفغاني أو الأمير عبدالقادر أو ابن خلدون أو المتنبي؟!.. إن
من ابسط الشروط لتمثيل مثل هذه الأدوار ان يكون الممثل مجيدا للغة
العربية..
وهل "رويشد" وكل
الممثلين الجزائريين يحسنون ولو قراءة نص للأطفال بالعربية الفصحى؟!.. انني على
يقين من أن الحوار في السيناريوهات الجزائرية يكتب باللغة الفرنسية ويترجم أثناء
تصوير المشاهد، وهذا ما يؤثر سلبا في الحوار الذي يأتي غريبا، فارغا لا روح فيه غير
أن الملاحظ والمخالف لطبيعة الأشياء، في هذا الزمن المنافق، حين يلقي الفيلم
الجزائري مع نظيره المصري في مهرجان أوربي كان (canne) مثلا، يحصد الفيلم الجزائري الجوائز ويكتفي الفيلم المصري
بالمشاركة على هامش المهرجان.. الا يدفع هذا إلى التعجب والتساؤل؟!.. هل تلك
الجائزة سلمت على استحقاق؟!.. أم تراه مجرد تكريم بالمقابل؟!
.. انه دون أدنى شك تكريم
لتلك الالتفاتات والطعنات السينمائية للهوية الثقافية للشعب الجزائري التي يحتويها
الفيلم.. وعليه فالاعتقاد المتعلق بعالمية السينما الجزائرية اعتقاد خاطئ وما ذلك
النجاح الا مصيدة لتماديها في أخطائها وخدمة أفكار الغرب.. كان من المفروض على
السينمائي الجزائري أن ينتبه لهذه المخادعة ليدرك بذلك وضعه ومستواه الحقيقيين
ويعمل على تطويرهما.. فالعالمية الحقيقية هي التي تنطلق من الواقع المحلي وعلى
السينمائي أن يحتضن قضايا مجتمعه ويلتزم بإيصالها إلى العالم، فإن استطاع أن يحقق
نجاحا ويتم تتويجه بالجوائز، فهذا نجاح لا شك فيه مبني على اعتراف حقيقي وجودة
مقنعة...