ناصر الدين دينيه يحج للبيت الحرام

ناصر الدين دينيه يحج للبيت الحرام
        

كان فنانا مرهفا لذلك لم يكن غريبا أن ينجذب للإسلام مستجيبا لعالمه الداخلي ودوافعه الروحية

          ربما لا يكون جديدًا أن نقول: إن الاستشراق الفرنسي قد بدأ في القرن السابع عشر, ومرّ بمراحل وتحولات عدة وصلت ذروتها في نهايات القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر. حيث شهدت هذه الفترة اندفاعة حماسية في مضمار الاستشراق بسبب إصرار الجيوش على اصطحاب أعداد كبيرة من الرسامين والعلماء والدبلوماسيين في حملاتها المختلفة نحو الشرق.

          وكذلك ساهمت الدراسات الشرقية المتنوعة في زيادة حمى الاستشراق, بما تناولته من بحث في الحضارة المصرية القديمة وحضارة بلاد الرافدين وعلوم الآثار الشرقية والتاريخ والحضارات العربية والإسلامية إلى جانب حضارات آسيا في الهند والصين واليابان.

          كما أقيمت المعارض الفنية للتحف الشرقية ورسوم ومنمنمات المخطوطات في مختلف بلاد أوربا وفي فرنسا على وجه الخصوص, وهي المعارض التي شجعت وزادت من حماس الكثيرين لزيارة الشرق والتعرف عليه والكتابة عنه والتأثر (فنيًا) بأجوائه الساحرة. ولقد كان لمتحف اللوفر, ومتحف الفنون الزخرفية في باريس الأثر الأكبر على تأثر غالبية فناني فرنسا بالشرق وجمالياته.

          وكذلك كان لظهور (ألبومات) المكتشفين الأوائل والفنانين الذين زاروا مناطق الشرق وترجمة كتب الأدب والتاريخ والفلسفة الشرقية, أثر كبير في تطور فهم الشرق وفنونه.

أرض الرومانسية

          لكل هذه العوامل أصبح الاستشراق دافعًا لكثير من فناني فرنسا للقيام برحلاتهم إلى المغرب العربي وخاصة بعد عودة (ديلاكروا) الشخصية الرومانسية الأبرز في ميدان الاستشراق الفني, حيث وضع الاستشراق محط أنظار وطموح سلسلة متتابعة من أجيال الفنانين الفرنسيين.

          وغدا الاستشراق مرادفًا للحركة الرومانسية وتيارًا رئيسيًا في فن التصوير الفرنسي والذوق السائد والموضة الغالبة لمعارض وصالونات باريس الفنية.

          ومن بين هؤلاء الفنانين يبرز واحد تعد قصة انتمائه إلى الشرق نموذجًا للعشق الخالص. ويكفي أن نعلم أنه أصر على تغيير اسمه ليكون ناصر الدين دينيه بعد أن كان (ايتيان دينيه)!!

          ولد ايتيان دينيه في باريس يوم 28 مارس 1861 لعائلة فرنسية عريقة, كان أبوه رئيسًا لمحكمة عليا وأمه من سلالة العائلة الملكية وكانت مولعة بالفنون الجميلة, لذا نجده يبدي ميلاً وحماسة للرسم مبكرًا, وفي الخامسة من عمره بدأ تعليمه بمدرسة هنري الرابع في باريس باعتباره من الحاشية, وظهرت عليه علامات التفوق في التاريخ والجغرافيا إلى جانب الرسم ومنح جائزة في الأدب.

          وكان يفضل قضاء إجازته بقصر العائلة في هيرسي, وبعد حصوله على البكالوريا, التحق بالجيش لأداء الخدمة الإلزامية في جرانفيل والنورماندي, وخلال هذا الوقت كان يقضي فراغه في الرسم والتلوين, وبانتهاء فترة تجنيده, التحق بالمدرسة الوطنية للفنون الجميلة ومحترف جالان, وشملت دراسته علم التشريح ويكون بذلك قد خالف تقاليد ورغبة العائلة في الانخراط لدراسة القانون, الذي يدرس بها أساتذة كبار.

          سجل بعد ذلك بأكاديمية جوليان ليقضي بها أربع سنوات واكتسب خلالها صداقات أجنبية كثيرة.

          وفي أول ظهور له في الحركة التشكيلية الفرنسية يعرض باكورة أعماله بصالون باريس عام 1882 ونالت إعجاب واستحسان النقّاد.

          وفي عام 1884 لم يتردد دينيه لحظة في اغتنام فرصة نادرة, وعندما عرض عليه اثنان من معارفه المختصين في علم الحشرات انضمامه إليهم في رحلة استكشافية يقومون بها لدراسة فراشة نادرة تقطن المنطقة الصحراوية جنوب الجزائر المتاخمة لوادي بوسعادة, وكانت أمور الاحتلال للجزائر قد استقرت في ذلك الوقت, بعد غزو الجيش الفرنسي لها عام 1830.

          ومن العجيب أن يقضي دينيه 45 عامًا بعد ذلك, حتى وفاته متنقلاً بين فرنسا والجزائر عاش أغلبها بالجزائر وفي بوسعادة على وجه التحديد, مما جعله يذكر دائمًا فضل الفراشة في تغيير مجرى حياته وأن يصبح فنانًا استشرافيًا.

          وفي ربيع 1885 قام برحلته الثانية ليتجول في أنحاء الجزائر وقام برسم مجموعة كبيرة من الاسكتشات والدراسات الفنية الممتعة بالغة الدقة في التشريح والتفاصيل الفسيولوجية, ثم عاد إلى باريس ليؤسس مرسمه الخاص وينتهي من دراسته بأكاديمية جيوليان وينتهي من رسم لوحتين عن الجزائر.

          عاد للجزائر للمرة الثالثة عام 1887 واصطحب معه في هذه المرة مجموعة كبيرة من الشخصيات والفنانين الفرنسيين المعروفين أمثال بول لوري, والبارون آرثر, وجروم, وبنيامين كونستانت وأمين متحف لكسمبورج إلى جانب ثلاثة عشر من الشباب الفنانين الفرنسيين.

إخلاص للفن والروح

          لم يكن إيتيان دينيه مجرد فنان استشراقي مثلما هو شأن غالبية أبناء بلده من المثقفين المستشرقين الذين ورد في كتاباتهم التاريخية وأعمالهم الأدبية وصف المسلم بالهامشية والسلبية, وفي الوقت ذاته, إعلاء الشأن  الأوربي وتميزه.

          وفي الحقيقة فإن الفنانين الاستشراقيين على وجه الخصوص دون غيرهم وجدوا في الشرق غرائبية وجاذبية, حياة رائعة مقارنة بحياتهم في مجتمعاتهم الصناعية وموطن الشجاعة والنبل والفروسية, مهبط الأديان, موطن الشاعرية والأسطورة فعشقوه ووجدوا فيه صدى لمفاهيمهم الرومانسية فتجنبوا مثالب الاستشراق الغربي وتحامله, مخلصين لطبيعة فنهم وغاياتهم الإبداعية, وعلى سبيل المثال الفنان العظيم ديلاكروا على الرغم من أنه كان ضمن تشكيل الوفد الرسمي الدبلوماسي, فإنه لم يؤيد السياسة الاستعمارية للشرق وجاءت لوحاته ومقالاته حافلة بالإعجاب والاحترام للشرق.

          بذلك, نقرر ونحن مطمئنون خروج فناني الاستشراق من سياق الخطاب النقدي الصاخب للاستشراق الذي اعتمده إدوارد سعيد الناقد الأبرز للاستشراق, ويحتل ناصر الدين دينيه مركزًا خاصًا في هذه المدرسة الاستشراقية في فترة نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.

          أثناء زيارة دينيه الثانية للجزائر, قام بالتنقل في أرجائها وتعرّف على معالمها وخالط أهلها, وساعده في ذلك مرافقته لدليله المخلص سليمان بن إبراهيم الذي كان على دراية واسعة بالمناطق وسكانها وظل على صداقته الحميمية القوية حتى وفاته.

          اطلع على حياة المسلمين, عاداتهم وتقاليدهم وتابع أفكارهم وعقيدتهم السمحة وأعجب بها كثيرًا وتعمّق في معايشة الحالة الروحية, عاش بينهم وتعلّم العربية ودرس الدين واكتشف عالم الصدق والنقاء في الصحراء وبساطة حياة القبائل العربية وتميزها بالكرم والحكمة والشجاعة والنبل والفراسة والفروسية وسجل التأثيرات الطبيعية على سلوكهم, وكانت صور المعارك والفرسان وحفلات الأعراس وألعاب الأولاد والبنات وصور الشخصيات (البورتريه) والمشاهد النوعية الطبيعية والوصف الوثائقي الدقيق للحياة والطقوس الدينية (الصلاة - الأذان) أهم الموضوعات التي استهوته بالتعبير عنها بنهج واقعي وانطباعي الأداء, مع عدم التخلي عن إخلاصه لمميزات وخصائص الحركة الرومانسية, مما أعطى أعماله طابعها الخاص ونكهتها المتميزة.

          إلى جانب أنه المبدع التشكيلي الفذ كان دينيه أديبًا موهوبًا أيضًا, مرهف الحس, له مؤلفات في القصة والرواية والنقد الفني, ومن مؤلفاته ذات الصلة باهتماماته العربية إصداره عن أشعار عنترة وترجمته لها, وقام بتزيينها بمائة وعشرين رسمة وتخطيطًا.

          كان دينيه متدينًا بطبعه, وكيف لا وهو الفنان المرهف الحس الرقيق الوجدان, المتعمق في الحياة الشرقية والمطلع على خصائصها الدينية والدنيوية, فانجذب للإسلام مستجيبًا لعالمه الداخلي ودوافعه الروحية, وانخرط في البحث والتأمل والقلق والشك للوصول إلى حقيقة تريحه, ووجد في الإسلام ضالته المنشودة, وعكف على دراسته باستفاضة ومصاحبة علماء الدين الإسلامي وعارفيه, وانبرى مدافعًا عن الإسلام, يصحح الأخطاء ويفضح أكاذيب كتاب الغرب وسياسيه الحاقدين على الإسلام وعدم اعترافهم بنبوّة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم, والتشكيك في رسالته متأثرين بميراث القرون الوسطى من أفكار سطحية خاطئة وغير دقيقة عن الإسلام.

          في مواجهة هذا المناخ العدائي للإسلام كدين ونظام سياسي أصدر سلسلة من الكتب بالفرنسية تناول فيها الإسلام هي (الشرق كما يراه الغرب), ويتبنى فيه قضية الشرق المفترى عليه وكتاب (أشعة خاصة بنور الإسلام), تكلم عن فضل الدين الإسلامي ومناقبه, وأنه عقيدة عقلانية سهلة وملائمة لجميع الشعوب, كما أورد به تفاصيل الصلاة والوضوء والمغزى والدوافع من ورائهما.

          وكتاب (السيرة النبوية.. محمد رسول الله) الذي أصر أن يسجل على غلافه اسم صديقه ودليله سليمان ابن إبراهيم بجانب اسمه (ليحفظ له حقوق ما بعد النشر والاستفادة من ذلك) وقام بتزيينه برسوم ملونة لمناظر إسلامية ومعالم دينية بالجزائر, كما ورد فيه شرح لكلمة إسلام (تعني الرضا بأوامر المولى عز وجل, أي بما لا يمكن لأي قوة إنسانية أن تحول دونه, ولكن ليس من معانيها الخضوع للأمور, التي يبدو أنها يمكن أن يغير مجراها العمل والإقدام).

          أما كتابه (الحج إلى بيت الله الحرام) الذي نشر بعد وفاته, فقد ذكر فيه: (لو كان الإسلام الحقيقي معروفًا في أوربا لنال العطف والتأييد أكثر من أي دين آخر, يجدون فيه تعزية وسلوى من غير أن يحول بينهم وبين حريتهم التامة في آرائهم وأفكارهم).

          هكذا وجد دينيه في الدين الإسلامي الكثير من المزايا والفضائل كالتسامح والحض على العلم, وجعله من أول واجبات المسلم والكرم والشجاعة والعفو عند المقدرة, وهكذا استمر إيتيان دينيه في التفكير والنقاش والمقارنة حتى أراد الله له أن يعتنق الإسلام, ويشهره عام 1913, واختار اسم ناصر الدين كاسم جديد له, وأوقف حياته دفاعًا عن الدين الإسلامي ونصرة له يقول: (لقد اخترت الإسلام بعد أربعين سنة من الدراسة والملاحظة والتأمل في هذا الدين العظيم).

          وتوّج ناصر الدين دينيه حياته بزيارة الكعبة المشرفة بيت الله الحرام لأداء فريضة الحج في أبريل عام 1929. عاد بعدها في شهر يونيو إلى مرسيليا بفرنسا, وأمهر لوحاته منذ ذلك الوقت, ولأول مرة بـ(الحاج ناصر الدين), وقد أثار حفيظة وتحامل المثقفين والسياسيين اعتناق دينيه الدين الإسلامي واستماتته في الدفاع عنه ونصرته لقضاياه السياسية والعلمية, وفقد العديد من أصدقائه القدامى في فرنسا ومحبيه في الفن, وشنت حملة تشويه ضده, وتهميش دوره, ونبذه من الحركة التشكيلية الفرنسية وتاريخ الفن, لكنه وبثقة الفنان الحق والمؤمن عن عقيدة يرد:(حققت بالإسلام السعادة الدينية والفنية).

          وكان من حسن الطالع أن يسير على نهجه بعض الفنانين والمستشرقين الشباب, فنجد الرحالة الفرنسي (جيل جرفيه كورتلمون) يتجه إلى مكة المكرمة عام 1311هـ, ويشهر إسلامه ويغير اسمه إلى عبدالله بن البشير, ويعد كتابه (رحلتي إلى مكة) بمقدمة لناصر الدين دينيه يقول فيها: (إلا أن هذا الكتاب لا يتضمن أيّا من الأخطاء الكبيرة التي يمتلئ بها كتاب الرحالة (لوبوليكو) كما أنه مكتوب بروح ممتازة محتشدة بالتعاطف والاحترام الذي يكنه صاحبه للإسلام, وهذا أمر نادر الحدوث اليوم).

          وقد لفتت مسيرة ناصرالدين دينيه ومواقفه, الراحل الإمام الأكبر الدكتور عبدالحليم محمود شيخ الجامع الأزهر عندما كان يقوم بإعداد كتابه (أوربا والإسلام) موضحًا به إجابات لأسئلة: كيف ولماذا أسلم دينيه, والمميزات والخصائص التي جعلته يمنح الإسلام هذه الثقة.

          كما ورد ذكر ناصرالدين بكل الإجلال والتقدير في كتاب محمد عزت طهطاوي (الدعوة إلى الإسلام بين غير المسلمين).

مدفن بالجزائر

          وبعد أسبوعين من انتهاء ناصر الدين لتأليف كتابه (الحج إلى بيت الله الحرام) في 9 نوفمبر عام 1929, دخل المستشفى في باريس بعلة الإجهاد واضطراب في القلب, ومكث بالمستشفى حتى أسلم الروح في 24 ديسمبر عام 1929, وصلى عليه بمسجد باريس الكبير, ونقل جثمانه إلى الجزائر في يناير 1930, لكي يدفن حسب الشريعة الإسلامية تنفيذا لوصيته, التي تركها لدى أخته (جين) برغبته بأن يدفن في مقبرته التي أعدها مسبقًا بمقابر المسلمين, لتضم رفاته الأرض التي عشقها في واحة بوسعادة الجزائرية.

          بعد وفاته بادله أهل الجزائر الوفاء والتقدير, وأسكنوه منزلة عالية في قلوبهم, وحظى بمكانة خاصة كوطني جزائري لدى الأوساط الثقافية والسياسية والمؤسسات الحكومية.

          وكان موضع اهتمام كل رؤساء الجزائر وزعمائها من بعد الاستقلال, وقرر الرئيس هواري بومدين عام 1969 بناء متحف يضم أعماله ومجموعة الدراسات الفنية التي تركها في بوسعادة بالإضافة إلى لوحاته التي تبرع بها دينيه أثناء حياته عام  1908 عند إنشاء المتحف الوطني للفنون الجميلة بالجزائر باعتباره أهم متحف بالمغرب العربي, وطباعة مؤلف فني فاخر عند الافتتاح للمتحف يتضمن أعماله الفنية, وكتب مقدمته الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي وزير الثقافة والإعلام في ذلك الوقت.

          كما أصدرت له الدولة في الفترة من 76-1986 مجموعات من الطوابع البريدية تحمل صورًا لأعماله تكريمًا وتخليدًا لذكراه.

          ويذكر المفكر الجزائري (مالك بن نبي), كما ورد في بيان الثقافة العدد 86: تساءل الفرنسيون) (لماذا هذا الوضع التفضيلي والشرفي لفنان فرنسي اعتبر جزائريًا, بل وسيد التشكيل الجزائري, في حين يتم ضرب طوق من التجاهل حول فنانين آخرين طالبوا بأنفسهم نيل شرف أن يكونوا جزائريين من أمثال أتلان - جون ميزنسول - سوفور - جالييرو وغيرهم كثر!.

 

يحيى سويلم   

 
  








الوقوف بجبل عرفات.. عرضت بالمتحف الوطني للفنون الجميلة في باريس عام 1914





إمام يؤدي الصلاة 78.2 × 85.4 زيت على قماش.. عرضت في فرنسا عام 1914





الصلاة 85.5 × 116.3 سم. زيت على قماش عرضت في باريس 1913





مكة.. وفي القلب منها المسجد الحرام





عنترة بن شداد.. ليثو جراف ملون.. عرضت في باريس عام 1897