الخيارات الاستراتيجية الروسية بين المفاجآت والمحددات طه عبدالعليم

الخيارات الاستراتيجية الروسية بين المفاجآت والمحددات

يقول المثل العربي "إذا عرف السبب بطل العجب"، وإذا انطلقنا من منطق هذا المثل، فإن ما بدا من مفاجآت روسية، داخلية وإقليمية وعالمية، يضحى تطورات متوقعة، يمكن فهمها في حال الارتقاء من رصد الوقائع إلى كشف الأسباب.

كانت المفاجأة الأولى هي قيام روسيا مركز الاتحاد السوفييتي السابق بالإجهاز النهائي عليه، وتم هذا حين قاد الرئيس يلتسين، ومعه نائبه روتسكوي ورئيس البرلمان حسب اللاتوف، ووراءهم أعضاء البرلمان الروسي، معركة سياسية مشهودة من البيت الأبيض ضد محاولة الانقلاب في أغسطس 1991، وأسفرت هذه المعركة التي أطلق عليها المحللون الغربيون "الثورة الروسية الثانية"، عن إعادة مؤقتة ومهينة لجورباتشوف رئيسا للاتحاد السوفييتي السابق، وتتويجا فعليا وظافرا ليلتسين زعيما لروسيا الوريثة للقوة العظمى السوفييتية، ولم تكن المفاجأة هي الفشل الذريع والمزري للمتمردين، الذين بدت محاولتهم مجرد "عاصفة في فنجان " رغم مواقعهم على رأس أجهزة الدولة العسكرية والأمنية والسياسية.. وغير ذلك. وإنما كانت المفاجأة هي موت الدب السوفييتي الذي حاولوا إنقاذه بما يشبه "السكتة القلبية"، والواقع أنه لا تفسر لنا شيئا تلك "النبوءة الأيديولوجية"، الليبرالية أو الإيمانية، بالسقوط المحتوم للاتحاد السوفييتي السابق، باعتباره شيوعيا أو ملحدا، وإنما يمكن تشخيص السبب المباشر والسرعة المذهلة لانهيار الاتحاد السوفييتي السابق، بانقسام جهاز الدولة السوفييتي الذي مثل اللاحم القسري وسند النظام ومبعث الهيبة في الدولة السوفييتية الاشتراكية الاتحادية، وأما الأسباب العميقة غير المباشرة، والتي عجزت سياسات البيريسترويكا والجلاسنوست والتفكير الجديد عن تجاوزها وربما قادت إلى تفاقم آثارها، فقد يمكن إجمالها في مأزق اقتصاد الأوامر، والتكوين الإمبراطوري للدولة، والنظام السياسي الشمولي، وإفلاس الأيديولوجية الشيوعية، فضلا عن الهزيمة في الحرب الباردة، وقد أثمر هذا الانهيار- المفاجأة روسيا الوريثة، وريثة القوة العظمى السوفييتية.

وجاءت المفاجأة الثانية، بعد قرار يلتسين بحل البرلمان، وقرار الأخير بعزل الرئيس، وتداعيات القرارين التي انتهت بهجوم عسكري دموي اقتحم مبنى البرلمان، واعتقال رئيس البرلمان ومؤيديه فضلا عن نائب رئيس الدولة الذي عينه البرلمان رئيسا، وذلك ختام أحداث سبتمبر- أكتوبر 1993، وليس مبعث المفاجأة هو التصاعد الدرامي للصدام بين الرئيس وخصومه، حلفاء الأمس الذين وقفوا معه في وجه الدبابات ذاتها لحماية نفس مبنى البرلمان، أي ما سمي "البيت الأبيض الروسي"، ضد التمرد الذي استهدف قبل عامين إنقاذ الاتحاد السوفييتي السابق من التفكك، وإنما مبعث المفاجأة هو انتهاك حرمة البرلمان، والإقدام على هجوم دام ضد نوابه، وهو ما لم يجرؤ عليه رجالات الشمولية الشيوعية السوفييتية في محاولتهم المذكورة لإيقاف التداعيات الحتمية للبيريسترويكا وإعادة البناء والتفكير الجديد في نهاية عهد جورباتشوف. وزاد من عنصر المفاجأة استخدام القوات المسلحة كأداة لحسم الصراع السياسي على السلطة الروسية، وذلك نتيجة المغامرة باحتمال انقسام هذه القوات بما تحمله من أسلحة دمار شامل وما ينذر به انقسامها من فتح الطريق أمام احتمال اندلاع حرب أهلية مهلكة للأمة، وقد يجدر أن نشير إلى تقدير مهم- نراه صائبا لأحد الخبراء الاستراتيجيين الروس- يكشف السبب الحاسم لعدم استخدام متمردي أغسطس 1991 للعنف، وهو الخوف من مغبة تفجير حرب أهلية نتيجة انقسام المواقف داخل القوات المسلحة السوفييتية، وهو انقسام لم تكن بعيدة عنه القوات المسلحة الروسية إبان أحداث سبتمبر 1991، بيد أن الأهم في تقديرنا هو تحديد العوامل التي قادت الأحداث الأخيرة وفق سيناريو مغاير للأحداث الأولى، وقد يمكن أن نشير هنا إلى أن انقسام القوات المسلحة لم يعد بالحدة ذاتها بعد الإطاحة بالقيادة السوفييتية وإعادة بناء القوات على صورة روسية، لم تعد معها شعارات إحياء الاتحاد السوفييتي السابق تحمل ذات الرنين لدى المؤسسة العسكرية، ومع تصاعد النزعة القومية الروسية داخل هذه المؤسسة، لم يكن ملهما أن تساند رئيس البرلمان غير الروسي، وهو الزعيم الفعلي لمعارضة الرئيس، وربما رأت في دعم الرئيس سيبلا إلى توطيد مكانة المركز الروسي في الكومنولث الروسي، وإذا كان صحيحا، كما نرى أن معارضة الرئيس لم تكن جذرية، وربما مثلت في الجوهر صراعا على السلطة داخل القصر، فإن موقف الشعب الروسي السلبي من حيث الأساس يبدو منطقيا بالنظر إلى فقدانه للثقة في هؤلاء الساسة جميعا، رغم انقلابهم من الشيوعية إلى الليبرالية، وربما لهذا الانقلاب الفجائي بالذات، فضلا عن انشغاله بالأهم وهو الحماية من الجوع والتشرد والمرارة من المهانة القومية في روسيا المأزومة- أزمة الانهيار.

سلطات مطلقة

وأما المفاجأة الثالثة، فقد حملتها إلى العالم نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة بالإضافة إلى نتيجة الاستفتاء على الدستور، وإذا نظرنا في عجالة إلى نتيجة الاستفتاء، فإن المدهش هو الموافقة على منح الرئيس سلطات مطلقة من قبل أمة ذاقت طوال تاريخ القيصرية والشيوعية ويلات الحكم المطلق، لكن الدهشة قد تزول لهذا السبب بالذات، ذلك أن غياب تاريخ للتقاليد الديمقراطية ورعب الأمة من أخطار تفكك الاتحاد الروسي ذاته بإضعاف السلطة المركزية، وربما قوة العادة الماثلة في حلم المستبد العادل، والإعجاب بجسارة الرئيس يلتسين في سحق خصومه.. وغير ذلك.. عوامل قد تفسر فوز يلتسين بالاستفتاء كمحصلة للتصويت الإيجابي والغياب عن التصويت السلبي، وأما فيما يتصل بالانتخابات البرلمانية، فقد كانت أولى المفاجآت هي تخلي يلتسين عن مساندة أنصاره الليبراليين إبان الانتخابات، وتركهم للانقسام الداخلي ثم الهزيمة اللاحقة، وربما يمكن تفسير هذا، بأن الرئيس وقد حصل على "لذة" تفويض سلطات مطلقة له، لم يتوافر لديه حافز الانحياز إلى فريق محل سخط شعبي، بعد أن تخلص من "غصة" معارضيه البارزين الذين ألقى بهم في السجون، وقد يكون مرجع هذا الموقف، هو الثمن الذي توجب على يلتسين دفعه لمن ساندوه في أجهزة الدولة، خاصة العسكرية والأمنية والاقتصادية، وهو ما تكشف عنه المواقف الأخيرة للرئيس يلتسين وهذه الأجهزة، التي لا تبعد عن مواقف المعارضة التي أطاح بها توا، فيما عدا الاستثناء المهم، وهو التحول من وهم بعث الاتحاد السوفييتي إلى حلم إحياء الإمبراطورية الروسية، وإن بأشكال جديدة، سواء في الوهم الذي تبدد أو الحلم الذي تجدد، وأخيرا، ربما يمكن القول، بأن يلتسين وقد سانده الشعب بالدعم المباشر أو بحجب الدعم عن خصومه، وبعد أن توسعت سلطاته، لم يجد بأسا في تشكيل برلمان جديد ذي سلطات أضيق مما بحوزة الرئيس.

وهكذا، فإن تشكيل البرلمان ليست فقط وفق نتائج القوائم الحزبية وإنما أيضا بحساب نتائج الدوائر الفردية، قد كشف عن علاقات للقوة السياسية نحسبها حقيقية في هذه اللحظة، فقد حصلت الكتلة الإصلاحية بزعامة جيدار على 94 مقعدا في البرلمان، لكن وزن التيار الإصلاحي الليبرالي التوجه بوجه عام قد يرتفع إلى 141 مقعدا ليصبح التجمع الرئيسي في البرلمان إذا أضفنا مجموعة يافلينسكي الإصلاحية المعتدلة والحزب الديمقراطي الروسي المتعاون مع يافلينسكي، وحصل الشيوعيون على 64 مقعدا فقط، لكن إضافة 55 مقعدا نالها الحزب الزراعي المتحالف معهم، يجعل هذه الكتلة صاحبة 119 مقعدا، لتصبح التجمع الأهم إذا أخذنا بعين الاعتبار درجة التوافق الأعلى بين صفوفها مقارنة بالتيار الإصلاحي الليبرالي الأشد انقساما في البرلمان الجديد، فضلا عن احتمال التحالف الشيوعي مع النواب الفائزين في الدوائر الفردية عن الاتحاد المدني الذي يتزعمه روتسكوي، وعدده نحو عشرين نائبا، وأخيرا، فإن حزب جيرينوفسكي الزعيم القومي المتطرف، فاشي النزعة، قد حصل على 78 مقعدا فقط، وهو ما لا يبرر التهويل من شأن هذا الفوز، بيد أنه لا يتوجب التهوين أيضا بالنظر إلى حصول هذا الحزب على أعلى نسبة للنواب المنتخبين على قوائم حزبية، وهو الحزب الذي لا يزيد عدد سنوات عمره على أصابع اليد الواحدة مقارنة بالحزب الشيوعي الروسي الذي ترجع نشأته إلى القرن الماضي ووريث الحزب الشيوعي السوفييتي الحاكم لنحو 75 عاما. وأما خطورة هذا الحزب بشعاراته القومية المتطرفة وزعيمه فاشي النزعة، فتكمن في أن "الجيش بما في ذلك خيرة وحداته، مثل فرق تاما نسكايا وكانتو ميرو فسكايا وأسطول البحر الأسود وأسطول المحيط الهادي قد صوتوا جميعا لجيرينوفسكي "، والأهم، هو تحليل وتقدير ما تقود إليه علاقات القوة السياسية هذه في مجال الخيارات الاستراتيجية "لروسيا الجديدة".

المبادرات الروسية في عالم جديد

لقد لقيت روسيا ما رأته امتهانا وإملاء لا يليق بدولة كبرى، ولا يراعي الخصوصية سواء في ظل إدارة يلتسين أو إدارة جورباتشوف، حين عجزت عن تحويل الوعد الأمريكي والأوربي بالعون الاقتصادي إلى فعل يتناسب معه ويسهم في تجاوز أزمة الانهيار وتخفيف أعباء التحرير وتوفير قوة دفع للتحديث في الاقتصاد الروسي، وواجهت روسيا تشدد اليابان في الربط بين تقديم مساعدة اقتصادية فعالة وانسحاب روسيا من جزر الكوريل المتنازع عليها بين البلدين، وكان القول أقل من الفعل في أعقاب كل أزمة سياسية هددت مصير التحولات الداخلية الروسية المواتية للأهداف الغربية المعلنة، وبقيت أبواب "نادي الكبار" مغلقة بوجه عزيز قوم ذل، وأبدى كل ألوان الندم، وتبنى وصفات العلاج الجاهزة.

ولا شك أن التردد وقسوة الشروط والتشكك وعدم اليقين من قبل الدول الصناعية الرئيسية المانحة للعون، يرجع إلى أسباب موضوعية بينها على سبيل المثال، التدهور النسبي للقدرة الأمريكية وأعباء البرنامج الاقتصادي لإعادة بناء أمريكا في عهد كلينتون، والعبء الثقيل لإعادة توحيد ألمانيا فضلا عن تفاقم مشكلات البطالة وغيرها في أوربا الغربية، وضغوط الرأي العام الياباني الذي لا يرى منطقا في دعم روسيا التي يراها محتلة لأراض يابانية..الخ. أضف إلى هذا، أن حالة الفوضى الاقتصادية، وانفلات الفساد والجريمة، وتبديد المعونة الغربية، من جهة، واحتمالات التطور المفتوحة في روسيا بما في ذلك تجاه العداء "القومي " للغرب تحت تأثير مرارات الثمن الذي تدفعه روسيا المهزومة في الحرب الباردة وذات الحاجة الماسة للمعونة الغربية، من جهة أخرى،.. إن هذا وغيره، قد وفر ذرائع إضافية لقبض يد الغرب عن تقديم العون الذي كرر الوعد به وزاد عليه مع كل أزمة سياسية في روسيا هددت بالعصف بتقدمها على الطريق الذي يوافق مصالح الغرب.

وفي تقديرنا، أن أزمة الانهيار الاقتصادي في روسيا، والموقف الغربي السلبي سواء تجاه دعم تجاوز هذه الأزمة، أو إزاء ضرورة قبول طلب الانضمام الروسي إلى نادي الكبار، يفسر نزعة التوحد الداخلي الروسي بوجه الغرب، وإن على أساس قومي بدلا من الأساس الشيوعي، وفي تقديرنا أن استمرار عدم مراعاة الغرب لمكانة روسيا العالمية وحقها في اختيار سبيل التطور الداخلي، قد يمثل القابلة التي قد تدفع بقوى التطرف القومي إلى السلطة في روسيا الجديدة، وهي فاشية روسية تملك أسلحة دمار كوني يبدو معه الدمار الذي تسببت فيه الفاشية الغربية في زمن الحرب العالمية الثانية مجرد هزل، إلا أن الأرجح- في تقديرنا- أن عبث الانتحار الجماعي للبشرية في حرب نووية، سوف يدفع بالطرفين إلى مواقع الحكمة في نهاية المطاف، وإذا انطلقنا من حقائق ان روسيا تنتسب بالأساس إلى الغرب حضارة وثقافة فضلا عن الانتماء الأصيل الإثني والجغرافي، وإذا سلمنا بأن الغرب بعد الخبرة الدموية المريرة لانفلات القومية النازية والفاشية والعنصرية قد بلغ من الرشد قدرا كافيا للجم هذا الانفلات في إدارة تناقضات طموحاته القومية، من جانب، وإذا سلمنا بإدراك الغرب استحالة وعبث تفجر حروب بين الدول الكبرى في عصر الأسلحة النووية وغيرها من أسلحة الدمار الشامل، وهو الإدراك الذي وضع قيدا بعد الحرب العالمية الثانية علي إدارة الصراعات بينها، بحيث التزمت رغم اختلال توازن القوى بمبدأ توازن المصالح في علاقاتها المتبادلة، من جانب آخر، نقول إنه إذا انطلقنا من هذه الحقائق والمسلمات، وأضفنا إليها أن بعث الشيوعية السوفييتية مستحيل، وأن وأد الفاشية الروسية ممكن، وافترضنا مراعاة أمن ومصلحة وكرامة روسيا، فإن إدارة التناقضات الغربية - الروسية ستكون من نوع إدارة التناقضات بين الدول الصناعية الكبرى، وفي تقديرنا أن هذا هو الأرجح انطلاقا من التسليم بأنه يستحيل على روسيا تجاهل ضرورات الإصلاح الاقتصادي الليبرالي، وإن على طريقة الاشتراكية الديمقراطية الأوربية وبأساليب تدريجية.

في هذا السياق تدرك روسيا القيود على حركتها في النظام الدولي الجديد، وإن تباينت الرؤى الروسية بصدد خيارات هذه الحركة، فقد ينزع البعض مثل يلتسين إلى بناء تحالف روسي أمريكي في إدارة التنافس مع أوربا الموحدة وشرق آسيا، وينزع البعض الآخر مثل جورباتشوف، إلى إدماج روسيا في بيت أوربي مشترك يدير على أساس مبدأ توازن المصالح تناقضاته مع القوى العالمية الأخرى، وينزع البعض الثالث مثل القوميين بأحلامهم الإمبراطورية، ونقيضهم الشيوعيين بأوهامهم السوفييتية، إلى توطيد مكانة المركز الروسي في الساحة القارية الأوربية- الآسيوية، التي شغلتها الإمبراطورية الروسية القيصرية ثم الاتحاد السوفييتي الاشتراكي، وإذا سلم الغرب، وهو الحادث فيما يبدو حتى الآن، بمراعاة المصالح والمخاوف الروسية في دائرة " الكومنولث الروسي" والجدار الشرق أوربي، فإن الخيار "الأوراسي " أي الأوربي- الآسيوي للقوميين والشيوعيين قد لا يصبح مصدرا لصدام روسي- غربي.

ولا يمكن التهوين من تأثير مواقف الدول الصناعية الرئيسية على خيارات السياسة الخارجية الروسية وبالذات فإن توفير الغرب لقوة الدفع اللازمة لتجاوز أزمة الانهيار الاقتصادي، وقبول عضوية روسيا في نادي الدول الصناعية الكبرى، يمثل شرط قطع الطريق على احتمال التحول من نزعات التحالف إلى احتمالات المجابهة مع الغرب، والأخطر احتمال بعض نزعات الهيمنة الروسية فاشية الطراز، والمستعدة للابتزاز النووي، وأما نظرة الغرب بجدية إلى مثل هذه الاحتمالات، فقد وجدت مبررها في تشدد التصريحات والمبادرات الروسية، التي توالت عقب انتخاب البرلمان الجديد وتشكيل الحكومة الجديدة.

وهكذا، على سبيل المثال، أكد الرئيس الروسي في خطابه أمام البرلمان الروسي في جلسة افتتاحه بتشكيله الجديد، "إن روسيا لم تأخذ بعد مكانها المناسب في العالم.. وإن العالم في حاجة إلى روسيا قوية"، و صرح وزير الخارجية الروسي أنه ".. في المستقبل سنواصل سياستنا الخارجية في الدفاع عن مصالح روسيا الحيوية، حتى في الحالات التي تتعارض مع مصالح الغرب"، وأوضح المتحدث باسم الرئيس الروسي "إن توسيع حلف الأطلنطي ليشمل اعضاء جددا مجاورين للحدود الروسية مباشرة.. سيساهم في تغذية التيارات غير المرغوبة في الأوساط المدنية والعسكرية".. وشدد رئيس المخابرات الروسية على أن "روسيا لا يمكنها أن تقف بلا مبالاة إزاء حقيقة أن أكبر تجمع عسكري في العالم، يخطط لإغلاق الدائرة حول بلادنا"، كما فاجأت روسيا العالم بإرسال قوات إلى البوسنة استهدف توفير غطاء يحول دون تنفيذ التهديد الأمريكي الغربي بقصف قوات الصرب حول سراييفو، ويتيح للروس وحلفائهم الصرب فرصة التراجع التكتيكي دون إراقة ماء الوجه، ويجنب روسيا مغبة التخلي عن حلفائها أو التورط معهم في حرب مع الغرب.

روسيا بين التهوين والتهويل

ونلاحظ أن الذين نزعوا إلى التهوين من شأن جوانب القوة الروسية أو التهويل من شأن جوانب الضعف الروسي، رأوا في تلك التصريحات والمبادرات الروسية "صاعقة في سماء صافية"، وأما الذين نزعوا إلى العكس، أي التهويل من شأن القوة الروسية والتهوين من شأن الضعف الروسي، فقد بدت لهم التصريحات والمبادرات الروسية خروجا للدب الروسي من تحت أنقاض وركام الانهيار السوفييتي وبمثابة "هدية من السماء"، وفي رأينا، أنه يجب عدم المبالغة في شأن المدى الذي يمكن أن تصل إليه "الصحوة الروسية"، لأن إعادة بناء القوة الشاملة الروسية القادرة على المبادرة الفعالة تتطلب أجلا طويلا حتى يتم تجاوز الأسباب الهيكلية التي قادت إلى انهيار الاتحاد السوفييتي السابق وإلى تدهور المكانة العالمية لروسيا الوريثة، لكنه في ذات الوقت، ينبغي أن تؤخذ هذه التصريحات والمبادرات بالجدية الواجبة، لأنها تعبر عن توازنات القوى في روسيا الجديدة، وتحمل طاقة الغضب الهائل لروسيا المأزومة، والأهم أنها تستند إلى قدرات روسية فعلية ومحتملة يستحيل الانتقاص من قدرها، وبإيجاز، فإننا نرى أننا إزاء نزعة روسية تجسد ما يشبه الإجماع القومي على أولوية رد الاعتبار لروسيا، والاعتراف بمكانتها كقوة عالمية كبرى، ونرى أننا إزاء تحول من وضع، الانسحاب الاضطراري "وحالة المفعول به، تحت وقع أزمة الانهيار، إلى وضع "الهجوم المضاد"، وحالة "الفاعل" وذلك تحت تأثير تلك الأزمة بالذات.

ويرصد المراقبون أن ردود الفعل الأمريكية تجاه التصريحات والمبادرات الروسية قد تباينت، وهكذا، على سبيل المثال، تمايزت ثلاثة مواقف أمريكية تجاه التعامل مع المعارضة الروسية الحازمة لتوسيع عضوية حلف الأطلنطي بضم عدد من بلدان شرق أوربا التي طالبت بهذه العضوية، فقد طالب البعض بضم شرق أوربا إلى حلف الأطلنطي، مؤكدا "نحن لم نقبل إنذار روسيا حينما كانت قوية، فهل نخضع له حاليا بعد أن أصيبت بالضعف الداخلي"، كما صرح هنري كيسنجر، وموضحا أنه "إذا فشل الإصلاح في روسيا، فإن توسيع الحلف سيكون الضمان الوحيد للديمقراطية"، كما أعلن جيمس بيكر، وعارض البعض الآخر، ضم بلدان شرق أوربا إلى حلف الأطلنطي، داعيا إلى "عدم اتخاذ أي خطوة يمكنها أن تستفز موسكو في وقت تواجه فيه قيادة يلتسين تحديا من جانب الزعيم القومي المتطرف جيرينوفسكي، كما شدد ستروب تالبوت، ومشيرا إلى أنه "لا نحتاج إلى التوسيع الرسمي للناتو حتى نتعامل مع أخطار "وارسو" السابق، وإنما الهدف يجب أن يكون الأمن وترسيخ مسيرة التقدم الاقتصادي والسياسي" كما أوضح برنت سكوكروفت. أما البعض الثالث، الذي تبنت رؤيته إدارة كلينتون، فقد واصل طرح خيار "الشراكة من أجل السلام" الذي قبلت به بلدان غرب وشرق أوربا فضلا عن روسيا، وهو خيار وسط انطلق من التسليم بقوة المبررات التي ساقها المدافعون عن الموقفين السابقين، واستهدف تقليص المخاطر وتعظيم الفرص في إدارة التفاعلات مع روسيا، وفي تبريره لهذا الخيار أوضح الرئيس كلينتون "أن إضافة بلدان على حدود الاتحاد السوفييتي القديم سوف يبدو على أنه تكتيل تحالف أمني دون روسيا"، وأعلن أن هذا الخيار يسمح ليس فقط بتطوير الديمقراطية والإصلاح الاقتصادي في دول شرق أوربا والدول السوفييتية سابقا، وإنما يفتح الإمكانية أيضا لخلق أوربا المتحررة من قيود التقسيم".

والواقع أن المعارضة الروسية لتوسيع عضوية حلف الأطلنطي، والاستجابة الأمريكية بطرح خيار الشراكة من أجل السلام، نموذج مهم، نظري وعملي، لكيفية المزج بين اعتبارات توازن القوى ومتطلبات توازن المصالح في النظام العالمي الجديد، بحيث تتوافر الشروط لتوجيه الخيارات الاستراتيجية للطرف الأضعف، أي روسيا في هذه الحالة، بفضل بعد نظر الطرف الأقوى، أي أمريكا في ذات الحالة، على نحو لا يهدد مصالح الطرف الأول ولا يهدر مصالح الطرف الثاني، بيد أنه لا بد من إدراك أن حدود المراعاة الأمريكية للمصالح الروسية لن تذهب إلى مدى أبعد مما تسمح به علاقات القوة الشاملة المختلفة في غير صالح روسيا، وتنبثق في المحل الأول عن أولويات السياسة الأمريكية الخارجية والاقتصادية بالذات.

 

طه عبدالعليم

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات