جداريات الحج... توثيق شعبي لرحلة الروح

  جداريات الحج... توثيق شعبي لرحلة الروح
        

          جداريات الحج...هي تسجيل لرحلة روحية مقدسة, عبر الزمان والمكان, وهي من أكثر دلالات التعبير الفطري في الإبداع الفني الشعبي, وهذه الجداريات المتعلقة بفريضة الحج تنتشر في كثير من البلاد العربية, لها الرموز نفسها, وتتشابه في العناصر والوحدات الزخرفية, ويعود هذا - بطبيعة الحال - لوحدة الموضوع وهدفه وشعاره بين المسلمين.

          وتتميز جداريات الحج في مصر بالخصوصية, فهذه الجداريات تسجل لحظات مهمة من حياة الإنسان, تقاليد تضرب بجذورها إلى عصور سحيقة, حيث تزخر جدران المعابد والمقابر بمدونات ورسومات ونقوش رائعة تسجل جوانب من تاريخ مصر القديمة, من انتصارات حربية واحتفالات قومية, وتفاصيل من الحياة اليومية.

          وترتكز روائع جداريات الحج في مصر في النوبة والصعيد والواحات, ويرجع معظمها إلى القرن الثامن عشر, وهي غنية بالعناصر الفنية كالنخيل والسفن والجمال والأسود, أما تلك التي يعود تاريخها إلى أواسط هذا القرن, ورسمت على الجدران, فكانت عبارة عن أشكال نباتية, وصور لمساجد ومآذن وكتابات ترحيبية بالحجاج, ووسائل نقلهم, ومكة المكرمة, والمدينة المنورة, والطائرات والطيور, والخيل والكف, والرموز العربية والفرعونية, والزهور, والمسجدين: الحرام والنبوي, ويقوم برسم هذه المصورات الجدرانية أصدقاء الحجاج, أو رسامون يصوّرون لقاء أجر.

          أما بالنسبة للكتابات التي ترافق الرسوم, فيمكن أن نقسمها إلى ثلاث مجموعات: آيات قرآنية وأحاديث نبوية - أقوال دينية - كلمات ترحيبية, ومثال لذلك: البسملة (بسم الله الرحمن الرحيم), ترد في مستهل كل سورة قرآنية ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا . وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق .

          - من زار قبري وجبت له شفاعتي .

          - الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة .

          - (شهادة أن لا إله إلا الله, وأن محمدًا رسول الله) من أصول الدين الإسلامي.

          - (حج البيت من استطاع إليه سبيلا) من أصول الدين الإسلامي.

          -(صدق وعده, ونصر عبده, وهزم الأحزاب, وحده) قول ديني.

          - (حج مبرور, وذنب مغفور, وسعي مشكور) قول ديني.

          - (هذا من فضل ربي...ألف مبروك يا حاج... أهلاً وسهلاً بالحاج,الحمد لله عالسلامة...إلى ما هنالك من كلمات ترحيبية....).

          - إضافة للتكبير (الله أكبر) ودعوة الخالق (يا رب... يا الله...).

          - ومن أهم الرسوم المتعلقة بالحج صورتا الكعبة, والمحمل, فالأولى رسمت على شكل مربع أسود, تحيط بها المساجد والحجاج, مزيّنة بالزخارف والآيات القرآنية, والثانية رسم على شكل مستطيل وهرمي, محمولاً على ظهر جمل, ترافقه البيارق والسناجق, مزخرفًا بالألوان والأشكال, ومزينًا بالكتابات الجميلة مثل (ماشاء الله), (يا حافظ), وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين .

          - زخارف مشتركة مع كتابات عربية, تؤلف فيما بينها عملاً تشكيليًا موحدًا, هذا الأسلوب في المزج بين الزخارف والكتابات, أمر كان معروفًا في الفن الإسلامي, فبين الخط العربي والزخرفة علاقة حميمة, فهما بنيا على أساس فلسفي وأيديولوجي واحد, وانطلقا من الأسس الجمالية نفسها التي ارتكز عليها الفن التجريدي الإسلامي.

          - والكتابة الشعبية هي التي نشاهدها في اللوحات الدينية والشعبية, وعلى عربات الباعة, والجدران في مواسم الحج, وتكون عادة أحاديث وأقوالاً دينية وعبارات وأمثالاً شعبية.

          وتمثل الكتابة في الرسم الشعبي, عنصرًا أساسيًا من عناصره التشكيلية, فقلما نجد لوحة في الوطن العربي لا تكون الكتابة حاضرة فيها بكل أنواعها, ومعانيها, والسبب أن الرسام حينما يسجل رموزه, فكأنما يتحدث من خلالها, وحينما يكتب فكأنه يرسم, أي أنه لا يفصل في الشكل بين الرموز والكتابة, إنه يجمع بينهما حرصًا منه على وضوح عمله.

          لقد اهتم الفنان الشعبي بالكتابة والخط, لأنه جزء من تلك الحال الإسلامية والعربية, التي اهتمت بالخط العربي, وأدخلته ضمن عناصر فنونها الزخرفية, والفنان الشعبي جزء من هذه الأمة المسلمة التي توازي بين الحبر ودم الشهداء, والتي تعتبر أن الخط تطور لأجل القرآن, فهذا بشر فارس يقول: (ذاع القرآن فانتشر الخط).

          إذن الخط العربي عند المسلمين هو في ذروة الشرف والتقدير, لأنه لغة القرآن, ولأن الله أقسم به والقلم وما يسطرون  وفي الأثر: أول الخلق القلم, ولأن الإمام عليًا خليفة المسلمين قال فيه: (الخط الحسن يزيد الحق وضوحًا).

إدوارد لين و(نزلة المحمل)!

          المستشرق البريطاني الأشهر (إدوارد لين) الذي اكتسب معرفة أكبر بالمصريين ونظرة أعمق وأشمل عن تقاليدهم المتوارثة وتفاصيل حياتهم اليومية, خلال عودته الثانية إلى القاهرة في الفترة 1833-1835م وتزيا بالزي الشرقي, واختلط بالمسلمين في المساجد والأسواق والحارات, وبعد أن تحدث عن المحمل ومراسم استقباله فيما كان يعرف بـ (نزلة المحمل).. قال (..ويزين المصريون مدخل منزل العائد من الحج قبل نحو ثلاثة أيام من وصوله, فيلوّنون الباب والحجارة باللونين الأحمر والأبيض, وإن كانت الحجارة من الآجر فتزين أحيانًا الجمال باللون الأخضر أو الأسود أو الأحمر أو غيرها من الألوان بطريقة بدائية, وقد يوجه الحاج كتابًا مسبقًا إلى ذويه يطلب منهم إعداد مثل هذه الترتيبات, ويقيم الحاج في الليلة التالية لوصوله حفلة لأصدقائه تعرف بـ (حفلة النزلة), ويتدفق الضيوف عليه مهنئين, مرحبين بعودته, ويقولون له: (ادعُ ليغفر لي), ويبقى في منزله عادة أسبوعًا كاملاً بعد عودته, ويقيم في اليوم السابع حفلة أخرى لأصحابه تعرف بـ (حفلة السبوع), وتستمر هذه الحفلة طوال النهار والليلة التالية, وتنتهي بختمة أو ذكر في المساء!

          فهذه الجداريات الجميلة يرسمها فنانون شعبيون في مهارة فطرية إبداعية, وقد يتطوع بالرسم والزخرفة أحد أقارب الحاج أو من أصدقائه, وقد عشت تجربة شخصية عام 1971 عندما رحل والداي - رحمهما الله - لأداء فريضة الحج, كانت عمتي (عائشة) - رحمها الله - تتولى رعايتنا حتى يعودا بسلامة الله, وقبيل عودتهما, طلبت مني عمتي أن أزيّن مدخل وواجهة بيتنا, وكانت تلمس بفطرتها موهبتي في الرسم, وجودة خطي, وقامت بشراء الألوان والخامات اللازمة, وتأجير سلم خشبي, كم كانت السعادة تملأ وجهها وهي ترقبني أعمل في صمت, تمدني بأكواب الشاي وبعبارات مشجعة حتى أتممت هذا (العمل الضخم)!, أبدعت برسم الكعبة والطائفين حولها ومآذن المسجد الحرام, وحمام الحمى, وآيات الحج, وبتعاقب السنين اندثرت هذه الرسومات والخطوط, لكنها ظلت محفورة في ذاكرتي, تمامًا مثل وجه عمتي الباسم في سعادة فطرية!

          وبعض هؤلاء الفنانين يقومون بهذا الفن الجميل متطوعين, ويبدأون عملهم بدهان واجهة البيت أو الحائط الذي سيرسمون عليه ثم ينتظرون حتى يجف الدهان, وقد يعد بعضهم رسمًا تحضيريًا قبل أن يبدأ في رسم الواجهة, وعادة يستخدمون سلمًا للصعود عليه لرسم أعلى اللوحة على واجهة البيت, وقد تختلف عناصر الرسم, ولكنها كلها تعبر عن موضوع ورحلة الحج, سواء في رسم وسائل الانتقال أو زيارة الكعبة ومسجد الرسول عليه الصلاة والسلام في المدينة المنورة.

          وبعض هؤلاء الفنانين يميل أحيانًا إلى الجانب الخيالي في الرحلة, وهو ما يضفي على التعبير الفني الشعبي طابعًا فطريًا جميلاً, كما تضمن جداريات الحج عناصر من تجربة الرحلة, من وسائل الانتقال الحديثة والتقليدية مثل الطائرة والسفينة, ومازالت بعض الجداريات تتضمن رسم الجمل على الرغم من أن رحلات الحج حاليًا لا تستخدم الجمال كوسيلة للانتقال!

          إن بعد هؤلاء الفنانين الفطريين عن الأساليب الفنية سواء من حيث تحديد المنظور أو إخضاع عملهم لقواعد التعبير الفني الكلاسيكي جعل عملهم هذا يقدم رؤية فنية خاصة ذات مساحات ملونة بألوان طبيعية خام, بغير تعقيدات في تركيباتها وكذلك تصوير الأشكال الإنسانية والطبيعية بشكل تعبيري وكاريكاتيري أحيانًا, وكلها في النهاية تعطي شكلاً خاصة له دلالته الفنية المميزة لهذه الرسومات الجدارية.

          إن جداريات الحج هي دعوة جميلة لإعادة النظر فيما تتضمنه الحياة المصرية من جماليات بسيطة شائعة, تعبر في صدق عن إدراك الإنسان للجمال والقدرة على التعبير عن هذا الجمال - بشكل فطري - وعن رؤيته وخيالاته ومعتقداته في إبداعات فنية بسيطة لها مذاق خاص.

 

عرفة عبده علي   

 
  




جدارية من مدينة هابو - الأقصر





جدارية من أسوان - مصر





جدارية من الأقصر - مصر