التطور والتجديد في الشعر المصري الحديث جابر عصفور

قراءة نقدية..
كتاب من تأليف الدكتور عبدالمحسن طه بدر

" التطور والتجديد في الشعر المصري الحديث " كتاب جديد للمغفور له الدكتور عبدالمحسن طه بدر ( ديسمبر 1932 مارس 1990 ) أصدرته الهيئة المصرية العامة للكتاب، بالقاهرة، في شهر يناير من هذا العام (1992). والكتاب أطروحة الماجستير التي فرغ منها الفقيد العزيز عام 1957 وتدور حول تطور الشعر العربي الحديث في مصر، وتتبع التجديد فيه، منذ مطلع النهضة إلى المرحلة التي تتوقف عندها الأطروحة وهي ثورة 1919 التي تعدها علامة مميزة يتوقف عندها البحث.

ظلت الأطروحة حبيسة مكتب الفقيد العزيز لسنوات طويلة. وما أكثر ما ألححنا عليه في نشرها، ولكنه كان يؤجل النشر، ويحلم أن يتم العمل الذي بدأه فيها، ويصل مرحلة ثورة 1919 بمرحلة ثورة يوليو 1952، ويمضي بالمرحلة الأخيرة في نهايتها ، أملا في تقديم دراسة كاملة، في مجلدات عدة، عن تاريخ الشعر العربي الحديث. ومع الأسف، لم تتحقق أمنية الفقيد، وظلت أطروحة الماجستير حبيسة أدراج مكتبه، إلى أن قررت أسرته وتلامذته دفع الأطروحة إلى المطبعة، كي تخرج إلى النور في ذكراه، ويفيد منها الطلاب والقراء والباحثون.

ولا أظن أن عبد المحسن بدر في حاجة إلى التعريف به، فمواقفه القومية في السياسة وأستاذيته الأكاديمية في الجامعة وإنجازاته العلمية في البحث الأدبي دالة عليه، يعرفها القاصي والداني، والمكانة التي تحتلها كتبه التأسيسية بارزة، يعرفها كل من اطلع على " تطور الرواية العربية الحديثة في مصر "، و " حول الأديب والواقع " ، و " الروائي والأرض "، و " نجيب محفوظ - الرؤية والأداة "، ففي كل هذه الكتب وغيرها من المقالات والدراسات التي لم يجمعها كتاب، يبقى عبد المحسن بدر نموذجا للدارس الأدبي الذي لا يفصل بين التزامه المنهجي في البحث الأدبي والتزامه القومي في المواقف السياسية وضميره الأخلاقي الصارم في العمل التعليمي والإداري. وبقدر ما تؤكد هذه الكتب صدور وعيها المنهجي عن وعي قومي لا ينقطع إيمانه بالوحدة، فإنها تؤكد ارتباط صاحبها بأحلام الحرية والعدل التي كانت ترفرف مع رايات المشروع القومي الذي ظل الفقيد يحلم بوصوله إلى الاكتمال الإنساني بكل معانيه النبيلة. ومن المؤكد أن الفكر القومي هو الذي كان يدفع عبد المحسن بدر، دائما، إلى الإلحاح على الصفة القومية لا الإقليمية للأدب العربي، وإلى وضع صفة العروبة موضع الصدارة في كتابه الذي يبحث عن " تطور الرواية العربية في مصر " وليس تطور الرواية المصرية، وإلى الإلحاح على ربط تطور الشعر في مصر بالحركات الأدبية " التي ظهرت في البيئات العربية الأخرى، من منظور يؤكد وحدة الثقافة العربية في إبداعها، وطبيعة العلاقة المتواشجة التي تربط بين أنواع الإبداع الأدبي في كل الأقطار العربية.

ومن المهم أن نذكر بأن كتاب " التطور والتجديد في الشعر المصري الحديث " قد كتب في مناخ المد القومي، فالأطروحة التي هي أصل الكتاب انتهت كتابتها، ونوقشت مناقشة علنية عام 1957، أي بعد العدوان الثلاثي عام 1956، وما أكدته المقاومة القومية لهذا العدوان من وحدة عفوية ربطت العرب جميعا من المحيط إلى الخليج.

في هذا المناخ

كتب عبدالمحسن بدر أطروحته " التطور والتجديد في الشعر المصري الحديث "، فجاءت الأطروحة ناطقة بالوعي القومي لصاحبها من ناحية، وتأثره بالأصوات النقدية العالية التي كانت تدعو إلى الالتزام والربط بين الأدب والحياة من ناحية ثانية، ولإيمانه بضرورة أن يسهم البحث الجامعي في تقدم المجتمع من ناحية أخيرة. ولذلك تؤكد الأطروحة هوية صاحبها الذي يقول في المقدمة:

" إن الاختلاف في الأحكام وتناقضها يقع أولا وقبل كل شيء على رأس الجيل الجديد من الشعراء ودارسي الشعر الذين لا يكادون يتبينون طريقهم وسط هذه الفوضى والاختلاط، والذين يشعرون دائما في أعماق نفوسهم بأكثر من سؤال لا يتبينون الإجابة عنها. أين نحن؟ وماذا نريد؟ وما الذي يراد منا وبنا؟ وما هي الحدود التي ينبغي أن تقف عندها علاقتنا بالقديم؟ وما المدى الذي يجب أن نندفع إليه في تجديدنا؟ ولما كنت واحدا من أبناء هذا الجيل أشعر بما يشعرون به وأحاول أن أتبين معهم الطريق إلى أدب حي صادق يعبر عن مشاكلنا ويتجاوب مع نفوسنا، لذلك أحسست بضرورة محاولة الإجابة عن بعض هذه الأسئلة بالدراسة العميقة المخلصة في ميدان من ميادين أدبنا الحديث ". هذه الكلمات نموذج لأحد الثوابت الأساسية في تفكير عبد المحسن بدر الذي لم يفصل العام عن الخاص ولا القومي عن الإقليمي ولا البحث المنهجي عن الإبداع الأدبي ولا منهجية البحث عن كيفية التعامل مع الحياة، فمنذ البداية يعي أنه واحد من أبناء جيل جديد، وأن هذا الجيل لا بد أن يحقق إضافة إلى ما في الجيل السابق عليه، وأن الجيل الذي هو منه مسئول عن تغيير الحياة إلى الأفضل تحقيقا لمبدأ التطور، ومسئول عن المضي بالأصالة إلى مداها الذي يقرنها بالمعاصرة تحقيقا لمبدأ الاستقلال، وعن تحقيق الوصل بين الإبداع الواعد والأفق المتحول لمناهج البحث الأدبي تحقيقا لمبدأ الوحدة الذي يصل بين المبدعين والنقاد في مطامح واحدة.

هذا الوعي هو الذي جعل عبد المحسن بدر يتعاطف مع الأدب الواقعي منذ تخرجه في يونيو 1954، ويقترب من النقد الواقعي الذي كان صداه يرتفع مع موجات المد المتصاعد للمشروع القومي. وهو نفسه الذي جعل عبد المحسن بدر يجرب أدواته النقدية للمرة الأولى، فيكتب في مجلة " الآداب " القومية مقالين يحدثان ضجة، ما بين فبراير وإبريل 1956، حين كتب عن " الشعر العربي والتجربة الإنسانية " وعن " الأدب والتجربة "، مبشرا بما كان يتطلع إليه من أدب حي صادق يعبر عن مشاكلنا ويتجاوب مع نفوسنا "، فأكد بهذين المقالين إيمانه بما أسما بعد ذلك - بعامين - " الأدب الواقعي المخلص "، وهو صيغة تصل بين العام والخاص، والفردي والجمعي، والقومي والإنساني، في تركيبة نقدية ذات طابع أخلاقي، هو تجسيد لبعض ما أنتجه المشروع القومي من رؤية نقدية للأدب.

بداية مشروع منهجي

وبقدر ما كانت هذه التركيبة تصل وعي الناقد الأدبي، في عبدالمحسن بدر، بالواقع الاجتماعي من حوله، وبالوعي القومي الذي هو صدى لتطور هذا الواقع، فإن هذه التركيبة كانت تؤكد البعد الأدبي في الوقت نفسه، وذلك بما انطوت عليه صفتا " الإخلاص " و " الصدق " من شعور فردي يتصل بالدور الذي يمكن أن يقوم به الفرد في المجتمع، من حيث هو طليعة له، ولذلك نجد عبد المحسن بدر يتحدث عن جيله بصيغة الإفراد والجمع، وبضمير الغائب والمخاطب في الوقت نفسه، فيؤكد وعيه الجمعي ضمن الجيل الذي ينتمي إليه، ووعيه الفردي في حدود دوره الذي لا بد أن يؤديه مع أبناء هذا الجيل.ولن أتباعد عن الواقع لو قلت إن هذه الصنعة كانت صيغة نقدية أدبية وحياتية على السواء، وذلك منذ أن تأسست مع مد المشروع القومي، بعد فشل العدوان الثلاثي على مصر، واندحار الاستعمار القديم، وتطلع الوعي القومي كله إلى أفق جديد، يعد بتكامل الاستقلال الخارجي والداخلي.

هكذا لم يكتب عبد المحسن بدر أطروحة يحصل بها على درجة الماجستير كما فعل، ويفعل، عشرات بل مئات من الباحثين، بل كتب ما يمكن أن نعده بداية مشروع منهجي، يوازي حركة مد الوعي القومي في مشروعه الكبير، على مستوى الوطن العربي كله، انطلاقا من تعرف خصوصية اللحظة التاريخية التي يتأسس فيها المشروع الخاص ( منهجيا ) في علاقته بالمشروع العام ( قوميا )، وهي خصوصية تبدأ من تأكيد ما يقوله عبد المحسن من " أننا في معركتنا المستمرة لإثبات وجودنا.، وتأكيد استقلال شخصيتنا، سواء في الميدان الداخلي أو الخارجي "، وأن هذا الوضع يفرض على دارس الأدب أن يبدأ من مجموعة من الأصول التي لا سبيل إلى تجاهلها.

ولا يحدد عبد المحسن بدر هذه الأصول تحديدا تجريديا في مقدمة أطروحته ( كتابه ) فقد آثر- فيما يبدو - أن ينطق عمله نفسه الأصول النظرية التي ينطلق منها على نحو غير مباشر، بدل أن يبدأ الأطروحة بما يمكن أن يعده البعض مصادرة على المطلوب. وأي تأمل تحليلي للإنجاز الذي تحقق لا كتاب " التطور والتجديد في الشعر.." لا بد أن يبدأ بالأصل الأول الذي ينطقه عنوان الكتاب نفسه وهو " التطور والتجديد " وتؤكده. بنية الكتاب التي تقم على مقدمة وثلاثة أبواب : الباب الأول عن المؤثرات العامة في الشعر وبداية تطوره حتى نهاية القرن التاسع عشر، والباب الثاني عن الشعر في أوائل القرن العشرين ما بين المدرسة التقليدية ( البارودي، شوقي، حافظ.. إلخ ) ومدرسة المهاجرين الشاميين من أمثال مطران، والباب الثالث عن الشعر في دائرة ثورة 1919، أي منذ بداية العقد الثاني من هذا القرن إلى أعقاب ثورة 1919.

ويذكرنا مصطلح " التطور والتجديد " في صيغته المتجاورة بشوقي ضيف، أستاذ عبد المحسن بدر وأستاذنا، في كتابه " التطور والتجديد في الشعر الأموي " الذي فرغ من كتابته في يناير 1952 ( صدر في العام نفسه ). ودلالة الصيغة المتجاورة تذكر بأستاذ شوقي ضيف ( وأستاذنا ) طه حسين في منهجه الذي كان ينطوي على مبدأ مؤداه أن الإبداع كالكائنات يخضع لسنة التطور، فيبدأ من أدنى درجات السلم موضعا ورتبة، ويظل يصعد متدرجا درجات سلم التطور، إلى أن يصل إلى أقصى درجات اكتماله موضعا ورتبة وقيمة على السواء. وقد كان ما كتبه طه حسين في " مع المتنبي " ( عام 1936 ) خير نموذج لتطبيق هذا المنهج أو هذا الأصل المنهجي.

هذا الأصل يرثه عبدالمحسن بدر من التراث الحي الذي عاشه ( ولا نزال نعيشه ) في قسم اللغة العربية بآداب القاهرة، حيث التقاليد تتواصل تواصل المجاورة والتداخل وليس الانقطاع الحاسم. وإذ أفاد عبد المحسن بدر من أساتذته أصل " التطور " الذي يجاور " التجديد "، أو الذي يجعل التجديد لازمة للتطور، فإنه وصل المتجاورين ( التطور والتجديد ) بالقيمة الموجبة التي تسم بالسلب كل ما هو " سابق "، وذلك بدل النظر إلى " التجديد " بوصفه تغيرا، في المجال الأفقي الذي لا يعني صعودا على درجات سلم القيمة بالضرورة.

التجديد كقيمة

هذا الأصل الأول هو الذي تحكم في الحركة المنهجية في دراسة الشعر في مصر، في كتاب عبد المحسن بدر، فجعل كل تجديد قرين قيمة إيجابية، ومرتبطا بحركة تاريخية صاعدة، ووضع البارودي وشوقي في مرتبة أدنى من مرتبة شعر مطران، فالشعر الإحيائي كله يقع على درجة أدنى في الزمن والقيمة، وشعر مطران يقع على درجة أعلى. ولقد ظل هذا الأصل ثابتا في إنتاج عبد المحسن بدر بعد ذلك، تجلى في كتابه عن " تطور الرواية العربية "، انتقالا من درجات " الرواية التعليمية " و " الترفيهية " إلى الدرجة العليا للرواية " الفنية " التي جاءت متأخرة في الزمن متقدمة في الرتبة والقيمة.وتجلى هذا الأصل بالقدر نفسه في كتاب " نجيب محفوظ " الذي تدرجت رؤيته الإبداعية من " جذور البدايات " إلى " الرؤية الوهمية " إلى " الصلة بالواقع " إلى " نحو الواقعية " إلى " الواقعية " التي جاءت متأخرة في الزمن متقدمة في الرتبة والقيمة.

ولا أريد أن أناقش الجانب السلبي لهذا الأصل فالأهم هو وضعه في سياقه التاريخي، وفهمه في ظل مشروع قومي كان المنظرون له يرون أن الأمة العربية خضعت لمراحل من التطور التاريخي، وأن وعيها قد خاض صراعا طويلا عبر هذه المراحل إلى أن وصل إلى نضجه فحقق " استقلاله "، وأثبت حضوره التاريخي، في معارك الحرية .وإذا كانت الأمة كلها يتطور وعيها من مستوى الضرورة إلى مستوى الحرية، في تاريخها المتعاقب الصاعد بالضرورة،. وإذا كانت لحظتها الحاضرة محصلة لتطورات نضالية صعدت بها هذه الأمة درجات سلم التقدم في أن وصلت فى مرحلة الاستقلال، فما ينطبق على وعي الأمة ينطبق على إبداعها، فالأدب يتطور كما يتطور وعي الأمة، ويصعد سلم التقدم كما يصعد تاريخ الأمة.

وإذا كانت هذه الموازاة تربط مسيرة تطور الأدب بمسيرة تطور الأمة، سعيا وراء الاستقلال، فإن الاستقلال، بدوره، يتحول إلى معيار قيمي في الحكم على الأعمال الإبداعية التي يتناولها كتاب عبد المحسن بدر أو أطروحته. إن استقلال الوطن هدف عزيز سعى إليه المشروع القومي، وحاولت أن تحققه دولته، وإذا كان استقلال الوطن يعني الخروج من دائرة " التبعية " للشرق أو الغرب فإن استقلال الأدب كان يعني الخروج من دائرة " الاتباع " للتراث القديم أو للأدب الأوربي الجديد، وذلك في سياق جعل " الاتباع " الأدبي الوجه الآخر من " التبعية " السياسية . ومن منظور العلاقة المتواشجة بين التبعية والاتباع، تحول " استقلال الشخصية " إلى معيار أساسي من معايير القيمة الأدبية في رصد حركة الشعر العربي الحديث، فانتفت القيمة عن كل الشعر المكتوب في القرن التاسع عشر عند الخشاب والليثي وأضرابهما، وعن الكثير من شعر البارودي ومدرسته بسبب علاقة التبعية التي ربطت هذا الشعر بالتراث. وانتفت القيمة عن كثير من شعر مدرسة الديوان ( العقاد وشكري والمازني ) لتبعية شعرهم لنموذج الشعر الأوربي، سواء المكتوب بالإنجليزية أو المترجم إليها.

ولكن " استقلال الشخصية " لا يغدو عاملا حاسما في تحديد القيمة الإبداعية، في هذا السياق، إلا من الزاوية التي تفضي إلى مبدأ الخصوصية الذي لا بد أن يتميز به الوعي القومي وإبداعه على السواء، وذلك بالمعنى الذي يؤكده الإلحاح على " الأدب الحي الصادق " الذي " يعبر عن مشاكلنا ويتجاوب مع نفوسنا ". وقد انسرب البحث عن الخصوصية الإبداعية في صفحات أطروحة عبدالمحسن بدر، يشكل نغمة تحتية من نغمات البحث عن الهوية، نغمة تتحرك موازية لحركة " التطور والتجديد "، وتكشف عن نفسها في علاقات يؤكدها ارتباط الإبداع الشعري بمسيرة " الوعي القومي " وخصوصيته، عبر محطات " التطور والتجديد "، وارتباطه بالثنائيات المتقابلة التي كانت تبحث عن صيغة نقدية مخصوصة تصل بينها، صيغة الأصالة فيها الوجه الآخر للمعاصرة، والإفادة من موروث الماضي الوجه الآخر من الإفادة من موروث الغرب الأوربي بما لا يتناقض مع خصوصية الهوية، والوجدان الفردي هو اللازمة التي لا تنفصل عن الوجدان الجمعي.

خصوصية الهوية

ويقودنا هذا المعيار. الأخير إلى الأصل الثاني الذي تنطوي عليه أطروحة عبدالمحسن بدر والذي ظل، هو الآخر، أحد الثوابت المتكررة في كتاباته. وهو أصل يرتبط بالعلاقة بين تغير الأوضاع الاجتماعية السياسية للأمة وتغير وعيها القومى وتغير إبداعها الأدبي في الوقت نفسه. ومدلول هذا الأصل أن الأدب انعكاس لمعطى خارجي، يؤثر فيه، ويقم منه مقام العلة من المعلول. هكذا، يعكس الوعي القومي تغيرات المراحل السياسية والاجتماعية، ويأتي الإبداع الأدبي ليعكس، بدوره، مراحل الوعي القومي في مدارس أدبية. والعلاقة بين العناصر الثلاثة ( المجتمع، الوعي، الإبداع ) علاقة بين عناصر متعاقبة يفضي سابقها إلى لاحقها بالضرورة . وبقدر ما يؤكد هذا الأصل أن الشعر ( أو الإبداع بعامة ) لا يمكن أن يكون ظاهرة منفصلة، متفردة، متعالية، كما تذهب بعض النظريات الرومانسية أو الأفلاطينية - الأفلوطينية عن الإلهام، فإنه يؤكد أن الشعر ( كالإبداع بعامة ) مظهر من مظاهر النشاط الإنساني، يتأثر بالظروف والتطورات التي يعيشها الإنسان.

وليس هذا الأصل تصوريا يرتبط بمنهجية الدرس الأدبي فحسب، بل هو أصل نقدي ينطوي على معيار للقيمة الأدبية في النهاية. ومعناه أنه بالقدر الذي يقترب به الإبداع من الحياة، ويغدو نشاطا إنسانيا، متأثرا بغيره ومؤثرا في غيره، فإن قيمته الجمالية ترتفع، وتعلو على غيره من ضروب الإبداع الذي ينعزل عن الحياة، ولا يتعدى أثره إلى سواه. ولقد أدى هذا المعيار إلى النفور من الشعر الصوفي في القرن التاسع عشر، لما قام عليه من نزعة غيبية تتباعد عن الحياة الفعلية ، ولما ارتبط به من غزل رمزي، هو هروب من " الواقع الكئيب " الذي لم يواجهه المبدعون.

وإذا كان الأصل السابق يؤكد الصلة بين الشعر والحياة من منظور القيمة فإنه يؤكد الصلة بين " درجات " هذه القيمة و " التجربة الحية "، فالشعر تعلو قيمته كلما ارتبط بالتجربة المعيشة، الملموسة، المحسوسة، المتعينة للبشر، التجربة الإنسانية الصادقة التي تبين عن ضعف الإنسان وقوته، والتي تكشف عن إخلاصه في الدفاع عن مبادئه. وتتضاءل هذه القيمة كلما تباعد الشعر ( والإبداع بعامة ) عن التجربة الحية، فأغرق فى التجريد والنزعة العقلية، كما فعل شعراء مدرسة الديوان، وبخاصة العقاد، أو أغرق في الزخارف اللفظية كما فعل شعراء القرن التاسع عشر. وليس من المصادفة أن يتخذ عبد المحسن بدر موقفا من شعر شوقي ومدرسته شبيها بموقف محمد مندور، فالصلة بين " التجربة الحية " والتعبير عن الوجدان الفردي صلة وثيقة في وعيه النقدي، قاربت بيته وبين ما كتبه مندور عن الشعر بعد شوقي وعن العقاد، وباعدت بينه وبين ما كتبه شوقي ضيف عن شعر الشاعر نفسه، فالغيرية وعدم الكشف عن شخصية المبدع آفتان من الآفات التي تنفي عن الشعر ( والفن كله ) القيمة في نقد عبد المحسن بدر. وهو نقد يبين - في هذا الجانب - عن رواسب منسربة من ترجمة سامي الدروبي لكل من كروتشه وبرجسون ( صاحب مبدأ " الوثبة الحية " ).

وإذا كان المنهج النقدي يلامس النظرية الرومانسية بهذا المعيار، في مسلمة " التعبير " التي يغدو بها التعبير عن الوجدان الفردي علامة القيمة، فإن ما ينقذ المنهج من التوغل بعيدا في عمق المياه الإقليمية للرومانسية هو تأكيد ضرورة الوصل بين الخاص والعام في الأدب، والربط الملح بين الفردي والجمعي، فالتجربة الإبداعية لا قيمة لها، في هذا المنهج، إلا إذا كانت ذات وجهين، كالعملة، إما بأن يتجاور فيها الوجدان الفردي والوجدان الجمعي في تعبير واحد، أو يغدو كل واحد من الاثنين منطويا على قرينه، في صياغة تتحقق فيها وحدة المضمون ( الذي لابد أن يتسم بالصدق ) بالقدر الذي تتميز فيه بالإتقان على مستوى الشكل ( الذي لابد أن يتميز بالجمال ).

ثنائية الشكل والمضمون

وصفحات كتاب " التطور والتجديد في الشعر.. " تنطق بالاهتمام بثنائية الشكل والمضمون، من حيث هي ثنائية متعارضة لا يتطرق الشك حولها في أذهان المؤسسين لها نقديا، أو المنظرين لها فلسفيا، ومن حيث هي ثنائية متعاقبة، تبدأ بالمضمون وتمنحه الأولوية من حيث هو العلة المولدة للشكل، وتقرنه بموقف الأديب من الحياة، أو بالكيفية التي يصوغ بها وعيه الفردي قبل أن يصوغ شكك التعبير عنه. وإذا كان الإيمان بأولوية المضمون هو الذي يبتدئ البحث بدراسة تطور الوعي فإن الاهتمام بالشكل هو الذي يدفع إلى التركيز على تقنيات الصورة الفنية والوزن والإيقاع وألوان الوحدة في القصيدة وتبرز العلاقة بين الشكل والمضمون، من هذا المنظور، أقرب إلى علاقة المجاورة منها إلى علاقة الجدل التي تجلت بعد ذلك في كتابات عبد المحسن بدر المتأخرة. ولا شك أن ذلك يرجع إلى أننا في مرحلة البدايات من جهد ناقد، خضعت كتاباته نفسها للأصل الذي ابتدأ به عمله، وهو أصل التطور، ولكن دون أن تفقد هذه الكتابات ثوابتها الأساسية.

ومن نافلة القول أن نؤكد أن علاقة المجاورة التي حكمت الصلة بين الشكل والمضمون، في كتاب عبد المحسن بدر، ليست سوى صدى لبعض مفاهيم الواقعية التي كانت سائدة من ذلك الوقت. ولكن هذا التأكيد لا يعني دخول كتاب الرجل في دائرة " الواقعية " التي انطلق منها كتابا في الثقافة المصرية " (1955) لمحمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس، لأن نموذج الناقد الماركسي لم يكن هو النموذج الذي يتطابق معه وعي عبد المحسن بدر، أو يتحد، في تلك المرحلة أو في غيرها من المراحل اللاحقة، بل نموذج الناقد القومي. ويمكن تلخيص الفارق بين النموذجين في " حدية " الأول و" وسطية " الثاني.

إن الناقد الماركسي لا يعرف سوى " الالتزام " الذي يربط الأدب برؤية عالم محدد، لصالح طبقة محددة، هي البروليتاريا، ولا يرى سوى الشكل الذي هو صياغة لموقف طبقي محدد، هو مضمون الكتابة. و" الكلية " هي الوجه الآخر لما يطلق عليه " النمط " عند هذا الناقد، من حيث ما يمثله هذا " النمط " من وحدة جدلية بين الخاص والعام . أما الناقد القومي فإنه يصالح بين الفردي والجمعي في الأدب، على نحو ما يصالح المشروع القومي نفسه بين الاقتصاد الرأسمالي والاقتصاد الاشتراكي، ويتوسط ما بين الأصالة والمعاصرة، والتقاليد والانقطاع، والعلم والدين، والقومي والإنساني، في صيغ للمجاورة، تجعل الأدب فرديا وجمعيا، عاما وخاصا، قوميا وإنسانيا، صيغ لا تتجاوز منطق المجاورة الذي يبقي على النقيضين إلى منطق الجدل الذي يتجاوز النقيضين معا. وعين هذا الناقد مسلطة، دائما، على الطبقة الوسطى بوصفها الرحم الذي شكل وعيه، والمنبع الذي انطلقت منه المكونات الإبداعية والفكرية والسياسية لتيارات اليمين واليسار في الوعي القومي، والطبقة التي حملت على عاتقها عبء النضال من أجل استقلال الوطن وتحقيق العدل والحرية في ربوعه ، والأصل الذي يعكس وسطية موقعه بين الطبقات على وعي الناقد بموقعه النقدي بين الاتجاهات.

الوسط الذهبي

وإذ يعطي الناقد القومي الأولوية لاستقلال الشخصية في بعدها القومي على البعد الإنساني، فإنه يستبدل بمقولة " الكلية " مبدأ " الخصوصية "، وبالوحدة الجدلية بين الأطراف المتضادة وحدة المجاورة بين الثنائيات المتجاورة . وآية ذلك أن الناقد القومي لا يكف عن محاولة المزج بين " نظرية التعبير " و " الواقعية الاشتراكية "، في تركيبة نقدية مخصوصة، تأخذ عن نظرية التعبير مفاهيم " الصدق " و " الإخلاص " و " التجربة الحية " و " استقلال الشخصية " بكل ما تنطوي عليه هذه المفاهيم من أخلاق فردية، وتأخذ عن " الواقعية الاشتراكية " ضرورة ارتباط الأدب بالحياة، أو مبدأ الأدب في سبيل الحياة، والنفور من الذاتية أو الهروب من الواقع، ودور الأدب في التمهيد للثورة، ولكن دون أن تعني هذه الثورة ديكتاتورية البروليتاريا بالضرورة، بل تحالف قوى الشعب العامل داخل دولة المشروع القومي التي كانت تخايل بوعود ما بعد حرب السويس.

وأحسب أن هذا النموذج القومي الذي انطوت عليه أطروحة عبد المحسن بدر للماجستير من ناحية، وكتاباته التي كان ينشرها في مجلتي " الآداب " و" الشهر" في الخمسينيات من ناحية ثانية، هو الذي جعل منه ( رجلا وموقفا، دارسا ومعلما، ناقدا ومثقفا ) بؤرة اهتمام أصدقائه القوميين من أمثال أبو المعاطي أبو النجا وسليمان فياض وفاروق شوشة وعبدالجليل حسن ورجاء النقاش، ومحط تعاطف من سبقوه بسنوات قليلة من فرسان الجمعية الأدبية المصرية من تلامذة أمين الخولي، ومحل رعاية أساتذته من الليبراليين أمثال رشاد رشدي وسهير القلماوي والقوميين أمثال عبد العزيز الأهواني ومصطفى سويف، وإعجاب الماركسيين من أمثال محمود العالم وعبدالعظيم أنيس، فقد رأى فيه الجميع " الوسط الذهبي " الذي يمكن أن يكونه النقد الأدبي الخاص بالمشروع القومي. وقد حقق إنجاز الرجل ما تطلع إليه أصدقاؤه وأساتذته وتلامذته على السواء، ابتداء من هذه الأطروحة - الكتاب التي هي وثيقة دالة على مرحلة مهمة من مراحل " التطور والتجديد في النقد العربي الحديث " كله، والتي هي إنجاز منهجي متميز في حد ذاته.