مجلس التعاون.. وآفاق المستقبل

مجلس التعاون.. وآفاق المستقبل

في شهر ديسمبر 1997، تستضيف الكويت للمرة الثالثة اجتماعات الدورة السابعة عشرة للمجلس الأعلى لمجلس التعاون لدول الخليج العربية، وسط بيئة محلية وإقليمية ودولية تختلف عن تلك التي عقدت فيها القمة الأولى عام 1984، أو القمة الثانية في ديسمبر 1991.

في قمة الكويت الأولى في نوفمبر 1984, كانت روح الكويت عالية محتفظة بحيويتها وبنضارتها, ومرئياتها حول المجلس واضحة, وقناعاتها راسخة, وإسهاماتها ذات خصوبة في العقل والخيال.

في تلك القمة الأولى, قدم سمو الشيخ جابر الأحمد الجابر, أمير الكويت, ورئيس الدورة آنذاك, مقترحا يتضمن مشروع إنشاء لجنة استشارية من مواطني دول المجلس تختارهم كل دولة, من أصحاب الخبرة والرأي, ليشكلوا نواة تجمع شعبي يسهم في دعم المسيرة ويساعد في التعجيل بإنجازاتها مترجما الحس الشعبي وآمال المواطنين.

وقد كانت الفكرة سابقة في توقيتها, حيث رأى القادة التأني في هذا الموضوع حتى يحين الوقت المناسب وينضج المفهوم.

في القمة الثانية التي شهدتها الكويت في ديسمبر 1991, كانت الكويت شكلاً آخر, مزيجا من التصميم ومن معاناة الغزو, كانت الكويت, في ذلك المؤتمر, تنزف من الجروح الساخنة, وتدفع بالمجلس نحو التكامل وغرس المفاهيم الخليجية الوحدوية, بعد أن دخل اليقين الفكر الكويتي بدور المجلس في تحرير الكويت, والاطمئنان من القدرة الخليجية على اتخاذ القرارات الصعبة, وعلى تبني المواقف الواضحة عند الشدة.

جاء تحرير الكويت من أرض مجلس التعاون, ومن بحوره ومن سمائه, وبمشاركته, ومن عطائه وتضحياته ضمن الائتلاف الدولي غير المسبوق.

خيار استراتيجي

ويمكن القول بأن قمة الكويت الثانية حددت مجلس التعاون كخيار استراتيجي لا رجعة عنه في جوانبه الأمنية والسياسية والاقتصادية وفي تعميق جذوره وتصليب مؤسساته.

كما خرجت القمة بقناعة جماعية بأن الأمن الخليجي كل لا يتجزأ ورسخت المفاهيم الأمنية الموحدة, وجوهرها سلامة دول مجلس التعاون والحفاظ على أمنها واستقرارها ووحدة ترابها, وفوق ذلك الحفاظ على الصيغة الأمنية الإقليمية في حدودها المتوارثة, وتأمين استمرار الوضع الجغرافي الراهن دون حصول طرف ما على مكاسب إقليمية تدمر المعادلة المعترف بها ـ إقليميا والمقبولة دولياً. وقد جاء في كلمة سمو الشيخ جابر الأحمد الجابر الصباح, أمير دولة الكويت, في 23 ديسمبر 1991, ما يترجم التحول الفكري والسياسي والنفسي نحو الانتماء الكامل لمسيرة مجلس التعاون.

يقول سمو الأمير: "سوف يسجل التاريخ لشعوب مجلس التعاون, أن شعاراتها كانت مبادئ وأن مقولاتها تحولت إلى وقائع, ولئن ارتابت أجيال أمتنا المعاصرة بكثير من الشعارات المطروحة, والمقولات المعلنة, بسبب مواقف البعض المتباينة, وممارستهم المتناقضة, فقد أعادت المواقف الخليجية أثناء المحنة الكويتية كثيراً من الثقة إلى نفوس أجيالنا, بأن الإخاء بين شعوبنا حقيقة شعورية, لها براهينها الموضوعية".

ومن هذه تطفو أهمية المصداقية التي كان فريق من المثقفين الكويتيين يشكك في وجودها في إدارة المجلس.

وقد شاركت في ندوات عديدة حول مجلس التعاون, وجدوى صيغته وتعالي أجهزته عن النبض الشعبي الى آخر لوائح الاتهام والتشكيك من المثقفين الخليجيين وبالذات في الكويت, والتي استفاد منها الكتاب العرب في نقدهم غير المبرر للمجلس.

في قمة الدوحة الماضية "ديسمبر 1996" وافق قادة الدول على إنشاء مجلس استشاري من مواطني الدول مسؤولياته تقديم المشورة والمرئيات للقادة حول الموضوعات التي يحيلها القادة إليهم.

وشاركت في الإجتماع الذي انعقد في الدوحة في الثاني من سبتمبر 1997, من أجل وضع اللائحة الداخلية للمجلس الاستشاري وقد كان اختيار الأعضاء في اللجنة الفنية مؤشرا على اهتمام القادة بالموضوع حيث ذهبنا كممثلين للقادة, مختارين بالاسم, لمهمة محددة.

لائحة تنظيمية

أنهت اللجنة مداولاتها في اتفاق على لائحة مبسطة تنظم عمل المجلس, وتحدد علاقته بالمجلس الأعلى, ودور المجلس الوزاري, والترابط بين المجلس والأمانة العامة.

وسترفع قيود اللائحة الداخلية إلى المجلس الأعلى خلال قمة الكويت في ديسمبر الجاري, وبعدها سيختار كل قائد خمسة مواطنين من أهل الخبرة ومن الذين يحظون بالثقة, ومن أصحاب الرأي والاعتدال.

يتشكل المجلس من ثلاثين مواطنا خليجيا في مطلع 1998, ويبدأ عمله مع تحديد جدول الأعمال الذي سيكون على شكل دراسات وتوصيات ترفع إلى المجلس الأعلى عبر المجلس الوزاري.

ومهما كان الرأي في تواضع الصيغة المقيدة بالمشورة, فالواجب يدعونا إلى ملاحظة التطور الذي تعايش معه مجلس التعاون منذ تقديم مقترح المشورة في عام 1984، وعلينا تبني مفهوم التفاؤل الذي يحدد الرحلة الطويلة بالخطوات الأولى المتواضعة.

وفي ظني أن المجلس الاستشاري يعي مسئولياته في تحديد موقعه كمترجم للمطالب التي يريدها شعب الخليج, ومن أهم المطالب العمل السريع نحو تحقيق الكونفدرالية الخليجية, التي توحد السياسات الخارجية والاقتصادية والأمنية والدفاعية في إطار التنسيق والتكامل وفق ما جاء في النظام الأساسي لمجلس التعاون "الذي يحدد إنشاء المجلس من أجل استكمال ما بدأته الدول من جهود في مختلف المجالات الحيوية التي تهم شعوبها وتحقق طموحاتها نحو مستقبل أفضل وصولاً إلى وحدة دولها".

ويمكن القول بأن مجلس التعاون يعد نفسه لدخول القرن الواحد والعشرين مجهزاً بقناعة شعبية راسخة مؤمنة بصيغة المجلس كوصفة مناسبة للتضامن الخليجي الجماعي بعد أن أثبت المجلس في تعامله مع الحرب العراقية ـ الإيرانية, وفي تعامله مع الغزو العراقي لدولة الكويت, أنه يملك الإرادة في تبني القرارات الصعبة, ويملك الخبرة في التعامل مع الأزمات, ويملك القدرة على تحديد المواقف الواضحة, كما أنه مسلح بجهاز استشاري يضم أهل الخبرة والرأي من المواطنين الذي يسعون للتعبير عن هموم المواطن المتفائل بالتجربة والداعي إلى سرعة الإنجاز.

إسهامات بارزة

خلال السنوات الماضية, وحصيلة للأحداث التي تعامل المجلس معها, حقق مجلس التعاون, من ضمن الإنجازات الكثيرة, ثلاثة إسهامات بارزة أثرت في محيطه الإقليمي والعربي والدولي.

أولاً: شيد سوراً صلباً في مواجهة الحرب العراقية ـ الإيرانية, وفرت له الوقاية من إسقاطاتها, ونجح في بناء تحالف دولي مرتكز على إجماع عالمي في الحفاظ على الخريطة الجغرافية والسياسية لمنطقة الخليج, غير مقتنع بأطروحات نظام بغداد حول البوابة الشرقية وملتزم بحماية الواقع الراهن, معارضاً ـ عبر آليات مختلفة, التوسع الإيراني, ورافضاً نزعة نظام بغداد نحو التمييز الإقليمي.

ولم تأخذ مساندة مجلس التعاون لنظام بغداد البعد المؤثر إلا بعد أن صار النظام شريكاً لمجلس التعاون في الحفاظ على الترتيبات الإقليمية المتوارثة, واستطاعت دول المجلس, لما تملكه من مكانه دولية متميزة, جلب الحضور الدولي لصالح العراق في حربه مع إيران, برغم الصورة القبيحة التي يختص بها النظام العراقي في المحافل الدولية, وتواضع أداء الدبلوماسية العراقية وريفية تفكيرها.

ثانيا: تهميش التطرف الأيديولوجي والأنظمة الحزبية وإنهاء احتكار القرار العربي في العواصم التقليدية, وبروز الدور الخليجي كمؤثر جوهري في القرارات العربية الأساسية, وتحقيق اعتراف إقليمي بدور القوة الاقتصادية في صياغة القرار وخروج منطقة الخليج من الابتعاد الجغرافي إلى الاندماج السياسي في الشأن العربي, والموافقة على مد الوقاية السياسية للأنظمة العربية العاجزة عن التناغم مع الوضع العالمي الجديد.

ثالثا: عولمة الشأن الخليجي, بأبعاده الأمنية والسياسية والاقتصادية, وتدويل الهموم المحلية لتصبح قضايا عالمية تأخذ الأولويات في جدول أعمال الأسرة الدولية, بعد أن ترابط الأمن الخليجي بالأمن العالمي إلى حد استحالة الانفراط, في إطار منظومة أمنية واقتصادية قائمة على المنافع المتبادلة, وبات التعرض للأمن الخليجي شأناً عالمياً باعتبار الخليج عاملا مهما في إستراتيجية الاستقرار والهدوء الدولي وفي الحفاظ على صحة وحيوية النظام الاقتصادي العالمي.

وصار مجلس التعاون عضوا فعالاً في نادي النخبة الدولية ذات الأثر في اعتدالها, وذات القوة في اقتصادياتها, وذات الانسجام في دبلوماسيتها, وذات التقدير في سجلها رغم وجود نظامين في المنطقة, نظام منبوذ عالمياً في العراق, متمرد على قواعد السلوك المتحضر, ونظام آخر في إيران لايزال في حالة السيولة والتجارب لم يستطع التكيف مع الضوابط التي تحترمها الدبلوماسية العالمية ورسم لنفسه صورة العاصي في المجتمع الدولي.

المواطنة الاقتصادية

نعود إلى الواجبات التي سيتولاها المجلس الاستشاري, فمن المفيد في المرحلة الأولى, أن يتوجه المجلس المنتظر إلى موضوع مهم في ترسيخ جذور مجلس التعاون, وهو المواطنة الاقتصادية التي يعمل المجلس منذ إنشائه على تحقيقها في كل جوانبها.

والمواطنة الاقتصادية تعني التمتع بالمساواة لجميع مواطني دول المجلس في جميع الدول الست, وفي جميع المجالات الاقتصادية بما فيها ممارسة التجارة والتملك الاستثماري, وفتح المكاتب, وجلب العمالة والاقتراض من المؤسسات المتخصصة, وتوحيد الامتيازات مع توحيد المسئوليات في دفع الرسوم, واحترام اللوائح المالية والضريبية في الدولة التي يمارس المواطن الخليجي العمل فيها. وبرغم أن المجلس قطع شوطاً لا بأس به في مجال تحقيق المواطنة فمازالت القيود ثقيلة في حقل الاستثمارات والتجارة والعقار والاقتراض.

واعتقد ان المجلس الاستشاري سيتعرض إلى ضغط شعبي من المواطنين في جلب الاهتمام إلى إزالة القيود التي لاتزال تقف عقبة أمام انسياب الاستثمارات والتجارة وأمام تفعيل آليات المجلس التي لم تتمكن من التوصل إلى نظام موحد في توحيد التعرفة الجمركية كأساس لقيام السوق الخليجية الموحدة.

وأتصور بأن موضوع التعرفة الجمركية سيكون من أبرز القضايا على جدول أعمال المجلس الاستشاري القادم, وستشكل التعرفة الموحدة جدول أعمال دائما كما ستأخذ الجزء الأكبر من مداولاته.

كنت من الذين يدعون إلى التريث في عدم التسرع بإطلاق الأحكام على تجارب مجلس التعاون لاسيما في مراحله الأولى عندما خضعت التجربة إلى مناقشات صاخبة وسلبية حول المجلس وأهدافه ومفاهيمه.

وأعتقد, من المناسب, التريث في عدم الاستعجال في التقليل من شأن المجلس الاستشاري والانتظار حتى يقوم المجلس ويبدأ عمله ويحدد أولوياته وفق قناعاته.

ومن المهم ألا ينشغل المجلس في علاج الحاضر بمطالبه الملحة ومشكلاته القائمة عن النظرة للمستقبل والتخطيط لمواجهة احتمالاته ليتحقق للمجلس مكان فيه, يليق بالمجلس وبطموحات شعبه ـ كما جاء في الكلمة التي ألقاها سمو الأمير في الجلسة الختامية في قمة الكويت الثانية في ديسمبر 1991.

 

عبدالله بشارة

 
  




عبدالله بشارة





تعاون عسكري مشترك للقوات الخليجية في حرب تحرير الكويت





صيانة إحدى الناقلات داخل الحوض الجاف في البحرين





مصهر ألبا ومحطاته الكهربائية الثلاث، نموذج خليجي ناجح