أبوالطيب المتنبي

أبوالطيب المتنبي
        

          في هذا العدد تبدأ العربي في استضافة شعراء العربية الذين أثروا لغتنا بفريد القول. وهي تبدأ رحلتها في بحور الشعر مع أبوالطيب المتنبي الذي تجد أبيات شعره في نهايات بعض موضوعات هذا العدد

أنام ملء جفوني عن شواردها ويسهر الخلق جراها ويختصم


          بيت شعر قاله المتنبي وكأنه يقرر حقيقته الشعرية إلى الأبد, شاعرًا خالدًا, بل لعله الشاعر الأكثر خلودًا في تاريخ أمة قدّر لها أن تكون أمة للشعر والبلاغة.

          قاله المتنبي وهو يدفع به مظنة الآخرين, وشكوكهم التي أرهقت إنسانيته الطموح, وعطلت الكثير من مشاريعه, التي كان يرسمها أحلامًا مستحيلة في واقع تاريخي مرير, عاش تفاصيله مترفّعًاعن بعضها, ومنغمسًا في بعضها, وذاهبًا ضحية للبقية الباقية منها دون أن يعي مصيره المحتوم على هامش قصيدة شاردة من قصائده المذهلة الكثر.

          لقد نام المتنبي ملء جفونه عن شواردها فعلاً, ولكنه لم ينم في المطلق, فهو الذي مات مقتولاً, وحيدًا, شريدًا, مجردًا من اطمئنانه الشاعري الأخير, باحثًا عن خلاص بغير أداة سوى الشعر, وربما كان له ما أراد!

          نام المتنبي أم لم ينم, قضية أخرى, لعل استقصاءها لا يؤدي إلا إلى المزيد من الدلائل على نزق الشاعر, أي شاعر, بالمطلق, حتى وهو يواجه مصيرًا محتومًا له بالنهاية الآنية, فهي في عرف الشاعر الحقيقي, مجرد بداية, والشعراء لا يموتون على الرغم مما يتصوره الغاوون في تتبعهم واتباعهم لهم.

          نام المتنبي أم لم ينم, قلنا إنها قضية أخرى, لا تعنينا في بحثنا عن جبروت العبارة وقوتها اللانهائية منطقًا للشاعر الذي يرى في نفسه ما لا يراه فيه الآخرون حتى لو كانوا مجرد غاوين, على هامش حياة الشاعر الحافلة بكل شيء إلى مداه الأقصى, منذ أن ولد في الكوفة عام 303 هـ (915م), حتى قتل على يد فاتك الأسدي عام 354هـ (965م), وما بين هذين التاريخين من تحولات إنسانية وتاريخية تنقل خلالها الشاعر بين أمكنة عدة شاهدًا على ما كان يحدث في ذلك التاريخ العربي المضطرب, دون أن يستطيع التخلي عن أحلامه المستحيلة في السلطة السياسية بعد أن تحققت سلطته الشعرية كما لم يحدث لشاعر عربي من قبل.

          فلقد ولد باسم أحمد بن الحسين بن الحسن بن عبدالصمد الجعفي الكوفي الكندي, في محلة تسمى كندة في الكوفة وإليها نسبته, ونشأ بالشام, ثم تنقل في البادية يطلب الأدب وعلم العربية وأيام الناس. وسرعان ما قال الشعر صبيًا, ويقال إنه تنبأ في بادية السماوة (بين الكوفة والشام) فتبعه كثيرون, وقبل أن يستفحل أمره خرج إليه لؤلؤ أمير حمص ونائب الإخشيد فأسره وسجنه حتى تاب ورجع عن دعواه, وفي حين يصدق بعض الناس تلك الرواية التي استمد منها المتنبي لقبه الأشهر, فإن كثيرين يرفضونها ويقترحون أسبابًا أخرى لذلك اللقب.

الأمير الفارس

          وقد وفد المتنبي على سيف الدولة ابن حمدان صاحب حلب فمدحه, عندما رأى فيه صورة نموذجية لصورة الأمير العربي الفارس في عصر كان ملتبسًا في كل شيء, فأعجب به, ويقال إنه أحب أخته الأميرة خولة, ولأن سيف الدولة بادله إعجابًا بإعجاب, وقدمه على من سواه من الشعراء, فقد ألّب ذلك صدور منافسيه عليه, حيث نجحوا في إفساد تلك العلاقة المميزة بين الأمير والشاعر في حادثة لعلها الأشهر في سيرة المتنبي الشعرية, خاصة أنها كانت الخلفية الإنسانية لواحدة من أشهر قصائده على الإطلاق, وهي تلك القصيدة التي حدد فيها المتنبي هويته بأنه (خير من تسعى به قدم), غادر بعدها إلى مصر فمدح واليها كافور الإخشيدي وطلب منه أن يوليه, فلم يوله كافور, مما أغضب الشاعر النزق, وانصرف يهجوه بأقذع هجاء قاله على الإطلاق.

          وقصد بعدها العراق وفارس, فمدح عضد الدولة ابن بويه الديلمي في شيراز, ثم عاد يريد بغداد فالكوفة, فعرض له فاتك بن أبي جهل الأسدي في الطريق بجماعة من أصحابه, ومع المتنبي جماعة أيضًا, وعندما أراد المتنبي الهرب ذكره غلامه ببيته الشهير والذي يقول فيه:

الخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلم


          فعاد المتنبي خجلاً من محاولته الهروب من قدره تحت وطأة جبروت العبارة في بيت الشعر, فقاتل الجمع حتى قتل وابنه وغلامه بالنعمانية, بالقرب من دير العاقول في الجانب الغربي من سواد بغداد.

          وجبروت العبارة التي خلدها المتنبي, وهو بصدد تخليد شاعريته الفذة على هامش من بطولات حقيقية و وهمية لآخرين, قدر لهم أن يكونوا على رأس السلطة التي تأبت على الشاعر مجرد عبارة, مجرد كلمات, مجرد لغة, يعرفها الخلق كلهم لكنهم يسهرون في سبيل ممارستها ويختصمون وهم يحاولون الوصول إلى سدرة منتهاها, التي يقف (أو ينام) المتنبي على قمتها سادرًا في لا مبالاته (ملء جفونه).

          صحيح أن الخيل والليل والبيداء والسيف والرمح تعرف الشاعر وتألفه, كما يليق بمن يموت في فضاء الحقيقة وصحراء الوحشة, محاربًا مقاتلاً شرسًا في ذهابه إلى النهاية مصداقًا لمقولاته الشعرية, لكن الصحيح قبل هذا أن القرطاس والقلم, حيث كون اللغة وأدوات الاحتفاظ بها في تداولها البشري بين الآخرين, هي معرفة الشاعر الأولى ووسيلة هذه المعرفة وتعريفها للآخرين.

          اللغة إذن ومآرب الشاعر الأخرى فيها هي القضية, فيسهر الخلق جراها ويختصم.

          وسنكون, نحن أسرة العربي, كتابًا وقراء, من ذلك الجمهور الساهر مختصمًا, ومستمتعًا أيضًا بقصيد المتنبي التي سنختار بعضًا منه في هوامش بعض صفحات هذا العدد.