عالم الشاعر الجاهلي جابر عصفور
عالم الشاعر الجاهلي
العالم في عيني الشاعر الجاهلي وفي قصائده، عالم فاعل منفعل، خارجي داخلي، ذات وموضوع، وعي للشاعر وحضور لوجوده. ظاهرة لافتة يلحظها من يطالع الشعر الجاهلي، فالشاعر، في هذا الشعر، لا ينظر إلى عالم الأشياء والحيوان والكائنات نظرا محايدا، كأن العالم منفصل عنه، مستقل في الوجود، يتكون من معطيات باردة أو موضوعات بريئة من المدركات، مرآة للأنا ومحط لتطلعها، سحر تمثيلي وأداء سحري، علاقات متجاوبة لا تنفصل فيها الأشياء عن الكائنات، أو يتباعد فيها الحيوان عن الإنسان، فالجميع في داخل الكون الذي تنطقه القصيدة الجاهلية وتومئ إليه، حضور متفاعل، ينطق كل عنصر فيه لغة تشارك فيها بقية العناصر والكائنات. والشاعر كلي الوجود يهيمن على هذا الكون ويستغرق فيه، يراه في نفسه، ويرى نفسه فيه، كأن العلاقة بينهما علاقة بين مرايا متوازية متقابلة، لا تكف عن عكس الصور المتنقلة ما بينها إلى ما لا نهاية، ولكن من منظور الشاعر الذي يعرف كيف يغير الفصول، ويمارس في الطبيعة شعائره الطقسية التي تنطوي عليها القصيدة. ولأن علاقة الشاعر الجاهلي بعالمه علاقة تبادل شعوري، يتحول بها البراني إلى جواني، والجواني إلى براني، فإن الإدراك الشعري لهذا العالم لا يتحقق تحت مظلة الإدراك المنطقي الذي يفرض التمايز الصارم بين المدركات، أو يضع بينها حواجز من تصنيفات، ولا تتوقف العلاقات الدلالية اللغوية، لهذا الإدراك عند حدود التشبيه البلاغي، لأن التشبيه مقارنة تفصل بين الأشياء، وتراعي الحدود العملية بين المعطيات، وأداته تقف كالحاجز المنطقي الذي يفصل بين المدركات، ذلك لأن العالم الذي تجسده القصيدة الجاهلية لا يقبل الانفصال الذي تختزله أولوية التشبيه التي تعني سيطرة الإدراك المنطقي في النهاية، إنه عالم من حضور متجاوب، تتفاعل فيه المدركات وأدوات الإدراك، فيتشكل في كل لحظة على نحو مختلف، لكنه يظل في كل الأحوال منطويا على علاقات التراسل والتفاعل. ذلك هو السبب في أن الاستعارة تحتل أولوية الحضور في العلاقات البلاغية لإدراك العالم في القصيدة الجاهلية. تفرض وجودها بوصفها وسيلة إدراك تحطم الحواجز العملية بين الأشياء، وتزيح حجاب الألفة والعادة، وتستبدل بأصناف المنطق وتقسيماته تجاوب علاقات الوجدان وتراسل مدركات الشعور. قد تبدأ اللغة الاستعارية بالتشبيه، في القصيدة الجاهلية، لكن كما يبدأ التصاعد الموسيقي بالنغمة الاستهلالية التي سرعان ما تفارقها النغمة المتصاعدة، إلى كون أكثر كثافة وتراسلا، بواسطة الاستغراق الحدسي الذي يستبدل بالإدراك المنطقي الإدراك الفراسي. هكذا تقرأ، في القصيدة الجاهلية، عن الليل الذي هو كموج البحر، فتستهل رحلة التشبيه، ولكن هذه الرحلة سرعان ما تتحول إلى رحلة استعارية بعد كلمات قليلة فحسب، فندخل في كون من العناصر المتفاعلة، وفي عالم ينطوي على معنى الإدراك الحدسي للأشياء، ونصبح في حضرة هذا الحوار بين الأنا الشعرية والليل، وهذا التبدل الذي ينقلب به الليل كائنا يردف أعجازا وينوء بكلكل. الشاعر والطفل والبدائي الشاعر الجاهلي أشبه بالطفل والبدائي، سواء في العالم الذي يدركه أو العالم الذي يراه. وما يصل بينه والطفل والبدائي هو هذا الإدراك الحدسي الذي يلغي الحدود العملية بين الأشياء والتقسيمات المنطقية بين العناصر، أعني هذا الإدراك الحدسي الذي تكتسب فيه المدركات الخصائص الفارسية Physiognomic Character التي حدثنا عنها مصطفى سويف، في كتابه "الأسس النفسية للإبداع الفني"، إنها أهم ما يميز الكتابة الأدبية على الإطلاق. والواقع أنها أوضح ما تكون في القصيدة الجاهلية، وأوضح ما تكون في أشكال العلاقة التي تصل الشاعر الجاهلي بالطفل أو البدائي. إن الطفل ينظر إلى هذا المقعد "فيدعوه" المقعد إلى القفز عليه، شأنه في ذلك شأن البدائي الذي ينظر إلى النهر "فيدعوه" النهر إلى الدنو منه أو الابتعاد عنه، أو ينظر إلى القمر "فيدعوه" القمر إلى الاستغراق فيه أو الخوف منه، في الدائرة التي تكلمه فيها كل أصناف الحيوان، أو يخاطب داخلها عناصر الطبيعة. وليس للمقعد أو النهر أو القمر أو الليل مجرد خصائص وظيفية، عملية، نفعية، في عيني الطفل أو البدائي أو الشاعر الجاهلي، إنها حضور لعالم من قوى متفاعلة، عالم يقوم على إدراك الخصائص الذاتية للأشياء، أعني إدراك الأشياء من حيث هي دافعة للأنا إلى الفعل، ومن حيث هي مرايا للأنا في حضورها الذي يمتد إلى غيره، أو يسقط وجودها على وجود سواها، فلا ترى في الكون كله سوى تجليات وجودها. وتلك حالة لا نستطيع فهمها إلا عندما نضع في اعتبارنا ما يصنعه خيال الطفل، حين ينطلق متحررا من كل قيد، مندفعا في وصله بين الأشياء، فرحا باكتشافها، مهووسا بإقامة علاقات جديدة بينها. وهي حالة يمكن أن نقاربها حين نتمعن في المفارقة التي تركها لنا أبوداود الإيادي في قوله:
ونستطيع تخيلها، في الوقت نفسه، حين نتوقف عند هذين البيتين اللذين يكشفان عن الخصائص الفراسية لإدراك صاحبهما، ودخوله في منطقة العلاقات الطفلية التي صاغ منها رؤياه في قوله:
تجليات الأنا في الكون هل نقول إن التشبيه في القصيدة الجاهلية يبدأ من هذه الحيثيات التي يمتد بها وجود الأنا الشعرية فلا ترى في الكون سوى تجلياتها، إن الأمر ممكن، فالتشبيه، في القصيدة الجاهلية، يبدأ من الأنا لينتهي إليها، كأن الأنا مركز المشابهة المباشر وغير المباشر في كل الأحوال، وذلك بالمعنى الذي يؤكد التراسل بين الأنا وموضوعها. هكذا تظهر الثريا في السماء كما تظهر ثنيات الوشاح، فنتذكر ما تحت الوشاح وما تومئ إليه الثريا. ولو مضينا في تعداد الأمثلة من معلقة امرئ القيس وشعره على وجه التخصيص أو التمثيل قلنا إن المرأة الجميلة تشبه بيضة النعام التي سرعان ما تعود إلى أصلها الأنثوي حين يغزوها نمير الماء الذي لم يكثر حلول الناس عليه فيتكدر صفاؤه. والمرأة تشبه وجرة، لكنه الوحش الذي سرعان ما تذكرنا عيونه بعيون المرأة، فعينها عينه، وجيدها جيده، والعكس صحيح بالقدر نفسه، والشعر الفاحم كقنو النخلة وقنو النخلة كالشعر الفاحم، وسرب النعاج المتدافعة يشبه سرب عذراوات معبد دوار "أو راهباته" لا يختلف من حيث تراسله الدلالي عن المرأة التي تضيء الظلام بالعشاء كأنها منارة راهب متبتل في المساء والمرأة التي يضيء وجهها الفراش لضجيعها أشبه بمصباح الزيت في قناديل الذبال، وهي نفسها التي يتطلع إليها الشاعر، فينظر إليها والنجوم كأنها مصابيح رهبان تشب للعائدين في الطريق، وكأننا بالقدر الذي نرى كل ما يشع الضوء متجسدا في المرأة، بكل ما ينطوي عليه الضوء من دلالات، نرى المرأة في كل ما يشع الضوء كأنه مرآة لها، وليس ببعيد عن هذه العملية الدلالية ما نراه من الأشجار الضخمة التي تكب على الأذقان، والتي تغدو الوجه الآخر من السباع الغرقى التي تغدو، بدورها، في تحولات المدركات، أصول بصل بري سابح في المياه. وذلك كله في عالم فراسي الخصائص، تتجاوب مدركاته، وتتراسل معطياته، كأنها مدركة بعيني طفل لا يؤرق نفسه بالحدود العملية أو الحواجز المنطقية، وتفتنه البلورة السحرية التي يمتلكها، ويرى فيها الأشياء كما يريد ويشاء. علاقات الدلالات هذه الخاصية للعلاقات الدلالية في القصيدة الجاهلية هي نفسها التي تصل التشبيه بالاستعارة في هذه القصيدة، وتدني بهما إلى حال من الاتحاد الذي يغدو به التشبيه مجرد استهلال للاستعارة في خصائصها الذاتية، أو في البناء التركيبي للصورة التي لا نستطيع معها فصلا للاستعارة عن التشبيه، ولنتذكر أبيات عنترة:
تقليديا: كان القدماء يعلموننا أن عنترة، في هذه الأبيات، يتحدث عن الحبيبة التي تأسره بثغرها العذب الذي يلذ تقبيله، ويشبه طيب نكهتها بطيب ريح المسك، حين تسبق نكهتها الطيبة عوارضها إذا رام تقبيلها، ويمضي في تشبيه الثغر بأنه روضة لم يرعها أحد، وقد زكا نبتها وسقاه مطر، ولم تطؤه الدواب وتنقض نضرته وطيب رائحته، وقد جاءت على هذه الروضة السحب والأمطار التي تدوم أياما فتترك الحفر المليئة بالماء، الحفر التي تشبه الدراهم لاستدارتها وبياض مائها وصفائه، ويزيد التشبيه فيضيف إلى السحب المطر الذي ينصب على هذه الروضة، فكل عشية يجري عليها ماء السحاب دون أن ينقطع عنها، وخلت الذباب بهذه الروضة فلا يذايلنها، ويصوتن تصويت شارب الخمر حين يرجع صوته بالغناء،خصوصا حين نسمع احتكاك الأجنحة الذي يشبه احتكاك الزناد. ويختم القاضي حسين بن أحمد الزوزني شرحه لهذه الأبيات، في شرح المعلقات السبع بقوله: إن عنترة لما شبه طيب نكهة هذه المرأة بطيب نسيم الروض، بالغ في وصف الروضة وأمعن في نعتها ليكون ريحها أطيب. وذلك ختام لا نضارة فيه، يختزل الدلالات في "برشامة" قد تفيد القارئ العجول، تقليدي الذوق، لكنها لا تفيد القارئ المتأني الذي يريد أن يستغرق في عناصر الصورة، ويتتبع الكيفية التي تتركب بها علاقاتها، والكيفية التي تندرج بها هذه العلاقات وتتفاعل في سياق القصيدة. وليس من الضروري أن نقوم بدور هذا القارئ في هذا المقال القصير، ولكن من المهم أن نلتفت إلى أن التشبيه يأتي ضمن لغة استعارية تتجاوب فيها المدركات لتجسيد هذا الفم الذي يدخل في شبكة من العلاقات التي تلغي الفواصل العملية والحواجز المنطقية بين المرأة والطبيعة، وبين الطبيعة والأسطورة، وذلك في دلالات من الخلق والتجدد التي تجعل من الطبيعة والمرأة وجهين لفعل الولادة المتجددة للكون كله. إن مطلع الصورة يبدأ بالمجاز المرسل الذي ينطلق من وجه ذي غروب واضح "أسنان شابة حادة ناصعة" عذب القبل لذيذ الطعم، ومن هذه النقطة تتولد الصورة التي تختلط فيها الحواس، وتتجاوب المدركات فيتناغم المشموم والملموس والمتذوق والمسموع والمرئي في تركيبة تصل الطبيعة بالإنسان، وترد الطبيعي إلى الإنساني، وتسقط روح الإنسان على الكائنات والنباتات والعناصر، فتعيش دورة من دورات الخلق الذي يشمل الكون كله، لكن الذي يبدأ من الإنسان "المرأة عذبة المقبل لذيذة المطعم"، وينتهي بالإنسان "الأجذم المكب على الزناد الأجذم"، وما بين ا لإنسان ا لأول "الكامل " وا لإنسان الثاني "الناقص" تتخلق شبكة من علاقات الدلالة التي لا ينفصل فيها تشبيه عن استعارة، والتي لا نستطيع أن ندخل إليها إلا بعد أن ندرك خصوصية العالم الذي يصنعه الشاعر الجاهلي ويدركه في آن. وهي خصوصية تفضي بنا إلى الدلالة نفسها التي تصل المرأة بالحياة التي يستعاذ بها في لحظات الخطر التي تدني من الموت، فتصل دماء الفارس في المعركة بورود الحب، وبيض الهند ببيضة الخدر، والسيوف اللامعة والثغر المتبسم، وذلك في اللحظة البينية التي يختلط فيها القتل بالشهوة، والموت بالحياة، ويغدو وجود الحيوان والنبات وظواهر الطبيعة ومظاهرها مرايا لوجود الإنسان الذي يقول:
فهو إنسان يشتهي الحياة في الموت، ويرى في الموت الحياة، ويحلم بلحظة الوصل الكامل التي لا تتحقق إلا بالدماء ويبسط حضوره، في ثنايا حلمه، على الأشياء والكائنات التي يحيلها إلى مرايا له ومرآة لمن يحب.
|
|