اللغة وقياس الزمن شوقي جلال

اللغة وقياس الزمن

احتاج الإنسان منذ وجوده الأولى، ومنذ أن وعى بنفسه وبالجماعة البشرية التي ينتمي إليها، وبالبيئة الطبيعية من حوله، إلى وسيلة لقياس الزمن الذي هو إيقاع وتعاقب وتوقع وتذكر أو ذكرى. ولعل الإحساس بالزمن هو الشيء الوحيد الذي أضفى معنى البداية والنهاية والأبدية. فهل للغة شأن في ذلك؟.

مع منتصف القرن 19 حدث انقلاب في مفهوم الإنسان عن الزمن الماضي.. واقترنت هذه الإنجازات بالعلوم الطبيعية وعلوم الإنسانيات، وبعد أن كان الظن السائد أن عمر الإنسان على الأرض يتجاوز قليلا بضعة آلاف من السنين، تزايد ليصبح سبعين ألفا، ثم سبعمائة ألف، ثم مليون ونصف مليون سنة.

وتواترت المعلومات المذهلة التي قدمتها الثورة العلمية والتي هيأت للإنسان حقائق جديدة ومثيرة عن اللغات والشعوب والثقافات والوقائع التاريخية، وأضحت جميعها حقائق موضوعية يقينية.

وأمكن بفضل هذه الإنجازات العلمية الوصول إلى عدد من المناهج العبقرية الفذة التي تسمح لنا بأن نحدد تاريخ أحداث الماضي بدقة فائقة، كيف نعرف مثلا أن الفينيقيين هم بنو كنعان، ومتى هاجروا من الجنوب إلى الشمال، وكيف نعرف الطريق الذي سلكته تغريبة قبيلة بني هلال من اليمن إلى مصر ثم إلى المغرب، ومتى حدثت على وجه الدقة؟.

لقد اهتدى علماء الآثار والمؤرخون إلى ساعة دقيقة يمكن الاعتماد عليها تماما لتحديد تاريخ الأحداث التي وقعت في الماضي السحيق.. خاصة تلك الأحداث التي لا تتركب من مواد عضوية لقياس زمنها الماضي عن طريق الكربون المشع. ومنطلق هذا الاكتشاف أن الإنسان لغة..وحيثما عاش أو رحل له لغته التي تمتد عبر الأجيال. اللغة هنا شيء مادي، أعني شيئا له وجوده الحي الممتد عبر التاريخ من خلال الإنسان ويمكن إخضاعه للقياس، واللغة وجود حي متغير.. وهذا التغير الذي يطرأ على اللغة بفعل تطور حياة الواقع الاجتماعي والبيئي، أو بفعل الهجرة والترحال والتداخل بين الحضارات، هذا التغير يمكن تسجيله.

ولكن كيف يمكن اعتبار هذا التغير مرجعا موثوقا به للدلالة على الزمن؟ أي زمن وقوع التغير في اللغة؟ بات واضحا للعلماء الآن أن لغتنا تتغير دائما وبشكل منتظم، بمعنى أنه ثبت لهم أن للغة معدل تغير ثابتا. حقا إننا لا ندرك مثل هذه التغيرات على نحو ما ندرك حركة عقرب الثواني. ذلك لأن متغيرات اللغة تقع بمعدل بطيء جدا. وهكذا اتخذ العلماء من تغير اللغة عبر الزمن ساعة أو ميقاتا لغويا. وتسمى هذه الطريقة في التأريخ عن طريق اللغة باسم التأريخ اللساني Glootto chronology أو الإحصاء القاموسي Lexico Statistics.

نواة اللغة والنجوم الثوابت

ولكن ينبغي أن يكون واضحا أنه إذا كانت اللغة تتغير بمرور الزمن، فإن معدل التغير ليس واحدا بالنسبة لجميع مفردات اللغة، ذلك أن بعض المفردات تتغير على نحو أسرع من غيرها، والتغير هنا يعني التغير عن طريق الحذف أو الإضافة، أي اضافة مفردات جديدة استجابة لتغير حياة المجتمع الثقافية والعلمية والمعيشية، أو إسقاط وهجر مفردات قديمة للأسباب ذاتها، معنى هذا، بعبارة أخرى، أن التغيرات اللغوية تواكب خطوة فخطوة التغيرات التي تطرأ على بنية الحياة الاجتماعية والثقافية والعلمية لهذا الشعب أو ذاك.

ولكن الملاحظ أيضا أنه على الرغم من أن التغير قاعدة، إلا أن الأجيال المتعاقبة يفهم بعضها بعضا، وأن الاتصال اللغوي مستمر في طلاقة بين الأجداد والآباء والأحفاد، سبب ذلك أن كل لغة لها قلب أو نواة أكثر ثباتا وصلابة.. وهذه النواة هي المفردات المتعلقة بألزم أمور الحياة داخل المجتمع.

فقد لا يعرف شخص متعلم مصطلحا علميا جديدا ولكنه يعرف المفردات اللازمة للتواصل الاجتماعي العام مثل ماما وبابا وخبز،. والأعداد، وبيت... وغير ذلك. وتمثل هذه الكلمات الضرورية ضرورة مطلقة لب أو جوهر أو قلب اللغة ونواتها، أو لنقل هي المفردات المعمرة. وهذا القلب هو رحم المفردات الجديدة.. بيد أن هذا القلب، على الرغم من هذا، ليس حصينا ضد التغير، ولكنه يتغير ببطء شديد جدا. إنه أشبه بالنجوم الثوابت التي نقيسه الحركة على هديها. وهذه النجوم ليست ثابتة ثباتا مطلقا، بل إنها متغيرة نسبيا، أي بالقياس إلى كوكبنا نعتبرها ثابتة ونهتدي بها لقياس حركتنا.

الساعة اللغوية

وتصور العلماء أن اللغة أشبه بساعة لتحديد مواقيت التغير اللساني والاجتماعي معا. ويرون أن هذه الساعة اللغوية لها عقربان أحدهما عقرب الدقائق يتحرك في قفزات، وتحدث كل قفزة في اتساق مع أدق التغيرات التي تطرأ على الثقافة والحياة اليومية للمجتمع. وحركة هذا العقرب واضحة في يسر وسهولة لكل من يستخدم اللغة.. مثل إضافة مفردات جديدة بسبب اكتشافات علمية جديدة، أو نتيجة حركات إصلاح اجتماعي، أو حروب أو تلاقح ثقافي بين الحضارات.. وغير ذلك. أما العقرب الثاني فإنه يشير إلى المفردات الأساسية للغة ويتحرك حركة بطيئة جدا.. أي يشير إلى رصيد اللغة من المفردات الأساسية.

ولكن فكرة الساعة اللغوية، والتي بدأ التفكير فيها منذ نصف قرن تقريبا، أثارت أسئلة مهمة مثل: هل عقرب الساعات في الساعة اللغوية يتحرك بمعدل بطيء ولكنه ثابت حتى نطمئن إليه عند قياس الزمن؟ وأيضا: هل معدل تغير رصيد الكلمات الأساسية في اللغة ثابت ومطرد؟ وهل نستطيع أن نكتشف من خلال المفردات الأساسية للغة نمطا خاصا يناظر "التحلل الإشعاعي"؟ هل يمكن أن نعتبر معدل تغير الرصيد الأساسي ساعة أو مقياسا زمنيا يحدد لنا بصورة موضوعية غير متميزة مسيرة الزمن؟ هذه هي الأسئلة التي طرحها عالم اللغة الأمريكي موريس سواديش Morris Swadesh.

حاول الباحثون بادئ ذي بدء تحديد المسافة أو الفترة الزمنية الفاصلة بين نقطتين أو مرحلتين، والتي يقطعها عقرب الساعة اللغوية في حركته ويمكن اعتبارها مسافة تساوي فترة ساعة، أي وحدة قياس زمنية للحركة. لهذا درسوا حركة اللغة على مدى حقبة زمنية طويلة تمتد ألف عام. وقارنوا بين لغتين في مرحلتين مختلفتين ومتعاقبتين، ولكنهما من جذر أو أصل واحد. مثال ذلك اللغة الإنجليزية الحديثة واللغة الأنجلو ساكسونية قبل ذلك بألف عام. وانتقوا لهذا الغرض 215 كلمة من الكلمات الشائعة التي تمثل جزءا من قلب اللغة الأم. وبحثوا كم عدد الكلمات الأساسية التي احتفظت بها اللغة الإنجليزية الحديثة من بين مفردات اللغة الأنجلو ساكسونية الأم؟ وأجروا حساباتهم ا لإلكترونية، وكشفت العمليات الحسابية عن أن ما يقرب من 190 كلمة إنجليزية (أو 85 بالمائة) لم يطرأ عليها أي تغير طوال الألف عام الماضية.

اتجهت جهود العلماء بعد ذلك إلى عقد مقارنات تجريبية مع لغات أخرى للتأكد من أن هذا المعدل شامل ومشترك بين جميع اللغات أو أنه خاص باللغة الإنجليزية فقط. ومن ثم عمدوا إلى إجراء ذات العملية بالنسبة لعدد من اللغات الحديثة الأخرى المشتقة من اللغة اللاتينية (الروما نية، الفرنسية، البرتغالية، الإيطالية، الإسبانية)، وتبين لهم أن اللغة الرومانية احتفظت بما يعادل 77 بالمائة من الكلمات، والفرنسية 79 بالمائة والإيطالية 85 بالمائة والإسبانية 85 بالمائة. وأجروا كذلك حساباتهم على اللغة الألمانية القديمة والحديثة وكانت النتيجة أن اللغة الحديثة أبقت على 88 بالمائة من رصيد الكلمات الأساسية. وانتقل البحث إلى اللغات غير الأوربية. وتبين أن اللغة الصينية الحديثة أبقت على 79 بالمائة من اللغة الصينية الكلاسيكية. واحتفظت اللغة القبطية، وهي اللغة المصرية، المنحدرة عن اللغة المصرية القديمة، بما يعادل 76 بالمائة من المفردات الأساسية للغة المصرية القديمة في عصر الدولة الوسطى (2100- 1700 ق. م) وتفصل بين اللغتين حقبة طولها ألف عام.

معامل بقاء اللغة

إذن هذا التوافق ليس وليد المصادفة. فاللغات، أو المفردات الأساسية في اللغات، تتغير بمعدل ثابت على مدى ألف عام، وهو معدل منتظم. معنى هذا أن معدل سرعة الساعة اللغوية يمثل كمية حركة ثابتة ومطردة. ويسمي العلماء هذا المعدل باسم "معامل البقاء" في اللغات ويتراوح ما بين 76 و85 بالمائة كل ألف عام. ويرجع هذا الفارق بين 76 و85 إلى عدم الدقة في تحديد الزمن التاريخي لعدد من الآثار التي أتخذها العلماء أساسا ومعيارا للدراسة. مثال ذلك أن اللغة المصرية القديمة التي قارنها الباحثون باللغة القبطية يتراوح تاريخها ما بين 2100 و. 175 ق. م. وهذه فترة زمنية تمتد إلى أربعة قرون وكفيلة بأن تحدث هذا الفارق الإحصائي، أي أن الخطأ ناجم عن عدم دقة التوقيت التاريخي وليس خطأ الساعة اللغوية، ووضع العلماء لهذا التغير معادلة تحدد معدل البقاء أو معدل زمن تغير اللغات، وصيغة هذه المعادلة هي كالآتي: أن معدل البقاء- 81+2 في المائة كل ألف عام. وهذا هو معدل سرعة عقرب الساعة اللغوية.

معنى هذا أننا إذا لم يكن لدينا من أثر غير اللغة فإننا نستطيع أن نحدد الزمن الماضي عن طريق معدل البقاء، وهنا يعمد الباحثون إلى مقارنة اللغة الأم باللغة المتولدة عنها ويحسبون النسبة المئوية للمتبقي من الكلمات الأساسية في اللغة الوليدة. فإذا كان معدل البقاء 81 بالمائة فإن هذا يعني انقضاء ألف عام.

وقد صاغ العلماء معادلات رياضية لحساب الأزمنة الأقل والأكثر من ألف عام.

اللغة تكشف أسرار التاريخ

وأصبح بالإمكان الآن، بفضل الساعة اللغوية استعادة كثير من الوقائع البشرية التي يرجع عهدها إلى ما قبل التاريخ. ذلك أنه إذا ما ربط الباحثون قراءات الساعة اللغوية بقراءات وسائل القياس الزمني للآثار القديمة والفلك والكربون المشع فإنهم يستطيعون أن يحددوا بدقة شديدة تاريخ أحداث وقعت، ويخيل إلينا أنها لم تترك آثارا ألبتة، ويستطيع الباحثون الآن إذا ما ربطوا بين ما يتوافر لديهم من اكتشافات في مجا لات التاريخ والآثار والاثنوجرافيا والجغرافيا اللغوية (أي دراسة توزيع اللغات على سطح الكرة الأرضية) أن يحددوا بدقة مواقيت استيطان شعوب ما قبل التاريخ لبقاع معينة من الأرض وكذلك الطرق التي سلكوها أثناء هجرتهم من مكان إلى آخر في أزمنة سحيقة لا تعيها ذاكرة التاريخ.

مثال ذلك استيطان الإنسان الأمريكتين، إذ يرى أكثر العلماء أن الأمريكتين استوطنهما في قديم الزمان شعب وفد إليهما من آسيا في صورة هجرات متعاقبة على مدى ألف عام. وآخر هؤلاء هم أسلاف شعوب الإسكيمو والأليوتس المحدثين. ووضع علماء الجغرافيا البشرية افتراضا مؤداه أن شعبى الإسكيمو والأليوتس انحدرا عن أصل واحد، أي أنهما أبناء شعب واحد، وهذا ما يؤكده أيضا علم اللغة على الرغم من اختلاف لغتي الشعبين، وهو ما يعني أن اللغة الأم القديمة كانت لغة واحدة. بعد هذا طرحوا سؤالا: متى تمايزت اللغتان؟ أو متى انفصل الشعبان؟ هنا أفادت الساعة اللغوية: استخدم الباحثون معدل بقاء اللغة وانتهوا إلى أن اللغتين تباينتا (ومن ثم تباين الشعبان) منذ ما يقرب من 2900 سنة مضت.

وتحقق العلماء من صدق الساعة اللغوية عن طريق تحليل الكربون المشع للآثار التي تم العثور عليها في الموطن القديم لشعب الأليوتس. وأثبت التحليل أن عمر هذا الكربون يقارب ثلاثة آلاف عام.

وهكذا تطابقت قراءة الساعة المشعة مع الساعة اللغوية. وهكذا أصبحت الساعة اللغوية مرجعا معتمدا يسهم مع أدوات القياس العلمي الأخرى لتحديد الزمن الماضي واكتشاف غوامض التاريخ.

 

شوقي جلال

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات