المطاف منى الشافعي

المطاف

تطلين مستندة على عكازك ذلك الصديق الوفي وسط هذه القامات المنحنية التي تعج بها الصالة على اتساعها.. بالكاد يحملك ويحمل جسدك وثقل السنين الخمسين ذلك العكاز الهرم حتى تجلسي براحة على مقعد منزو في ركن قصي من المطبخ يسمح لك بأداء دور المتفرج عن بعد.. ترقبين أولئك المتحلقين حول بعضهم يتهامسون ويتغامزون يحاولون الالتفات بنصف وجوه مسودة صوبك خشية أن تتلاقى العيون فتنكشف اللعبة، وكأنك تحسين بدناءة ما يحاك حولك.. تشردين بعيدا إلى عمق سنين قضيتها بين جدران هذا المنزل الكبير الضخم متنقلة من غرفة إلى أخرى ومن رضيع إلى وليد ليستقر بك المطاف أخيرا على هذا المقعد القوي من المطبخ الكبير.. كنت تحبينهم جميعا.. الأولاد.. البنات.. سهرت على راحة الجميع.. كبروا بين أحضانك.. ترعرعوا.. نشأوا.. تزوجوا وأنجبوا أحفادا صغارا.. تضعين يدك على وجهك.. تتفحصين.. كم خطا من التجاعيد يزين جبهتك أو تحت عينيك. أو حول شفتيك..؟!! ولماذا الآن فقط تتحسسين؟!! لماذا لم تنتبهي إلى الزمن الذي يتسارع وينسحب من بين قدميك في غفلة عنك؟!! لعلك تناسيت في غمرة الحياة وبهجتها وفرصة مولود جديد أو ليلة عرس، أنك كائن له احتياجات.. له خصوصيات..!! لقد كنت قوية..عنيدة.. صبورة.. مخلصة حتى النخاع مع هؤلاء المتحلقين الآن حول بعضهم.. حقا لقد كنت لهم نعم البديل الطبيعي والحقيقي عن والدتهم التي أنجبتهم وتركتهم بعد أن عصفت بها الحياة بعيدا عنهم!! كنت لهم نعم المربية الحنون!! ويقطع عليك سيل ذكرياتك ذلك الصوت الطفولي البرئ..

- خالتي أم سعد.. أين وضعت حذائي الأسود.. إنني لا أجده بين أحذيتي؟!!

وتجيبين بكل حنان وقد اختفى بكاؤك الصامت خلف عينين قد أتعبها طول السهر.

- تجده يا عزيزي هنا.. تحت الطاولة الكبيرة.. فقد فرغت للتو من تلميعه!!

يجري الصغير وعيناك تغسلانه متجها بكل براءته إلى حيث الطاولة الكبيرة وإلى حيث أشرت له بيدك المعروقة الواهنة.. ثم.. تستديرين فجأة مرة أخرى إلى حيث الباب.. تحاولين أن تستطلعي ما سر هذا التجمع العائلي غير العادي بهذا الشكل المفاجئ ؟! تقولين.. "إن في الأمر سرا كبيرا يخصني.. " لا تدرين لماذا رجحت هذا الاحتمال.. أهو الإحساس.. إحساسك من الداخل؟!! أم هو لعدم دعوتهم لك بالمشاركة؟!! أم هي أحداث الفترة الأخيرة التي عشتها تصارعين المرض وبعناد تحاولين الشفاء مع حفنة أقراص طبية.. ولكن من أين يأتي الشفاء وأنت تسمعين الوشوشات التي كنت تلتقطينها باردة تخترق طبلة أذنيك فتؤلم شعورك وتؤذي أحاسيسك الطيبة وتؤخر الشفاء.

- لقد كبرت..بالكاد تخدم نفسها..!!

- حقا.. لقد كثرت عللها وأمراضها..!!

وتنظرين حولك تمسحين المكان بعينين دامعتين.. مايزال الجمع متحلقا.. ثم تشردين ثانية وتعودين تتحسسين جسمك الواهن المتعب.. ركبتيك الضعيفتين.. يديك المعروقتين..جلدك الذي بدأ لونه يميل إلى اللون القاتم.. لقد فقد بياضه ومرونته وليونته.. أحقا كبرت؟!! أحقا هرمت؟!! هل غزتك شيخوخة مبكرة..؟!! يحاولون إذن أن يتخلصوا من وجودك الثقيل بينهم فأنت الآن في نظرهم عجوز مريضة ضعيفة واهنة بالكاد تلمعين الحذاء الصغير.. تعرفين الآن جيدا سر هذا الاجتماع فالنظرات جميعها اتجهت إلى حيث المطبخ المشرع الأبواب.. نظرات اختلط بها اللؤم والتبرير والإقناع وأيضا لا تزالين تتذكرين وأنت في جلستك هذه وتعيدين شريط تلك الليلة ليلة البارحة.. سمعت حوارا مصادفة أحسست بعده بأن الموت يدنو منك.

- لقد أتعبتني العجوز .. أنا بالذات تعبت منها؟!!

- وماذا تريدينني أن أفعل.. ما العمل؟

- لا أدري...؟

- لقد أصبحت فردا من العائلة بعد هذه السنين الطوال..؟!!

- إنها ليست إلا مربية؟!!

-........!!

- وقد أصبحت عبئا على الجميع وليس علي أنا فقط..!!

- أعرف هذا يا عزيزتي.. ولكن!!

- نحن لن نتخلى عنها.. سندفع نفقات إقامتها في دار العجزة والمسنين..!! ويصلك الحوار قاتلا حادا كالسيف.. باردا من كل العواطف والأحاسيس.. جائرا.. ظالما.. له رائحة عفنة نتنة تسد الأنوف وتدمع العيون.. وتسيل دموعك ساخنة بصمت.. وتصطك أسنانك وترتجفين.. وتشعرين بقشعريرة اللؤم.. فترتجف ركبتاك.. ويصيبك الغثيان.. حتى أنك لا تقوين على تحريك أصابع قدميك الواقفتين.. وكأن روحك تحاول أن تنسل من بين أصابع قدميك التي مازالت ترتجف.. تغزوك كآبة.. وبالكاد تجرين ثقلك وتصلين إلى غرفتك الصغيرة في آخر الممر دون أن يشعر بك أحد.. بضعف ترتمين على السرير.. فتستيقظ في داخلك الكرامة الكامنة وتبدو عيناك المرهقتان غاضبتين.. ترددين لذاتك.

- أحقا سأرحل عن هنا..؟!!

وأترك خلفي نصف قرن من الذكريات..؟ لقد غرقت في أعماق هذا المكان .. عرفتني حوائطه العتيقة.. حفظتني حجراته وردهاته الواسعة.. عرفت دهاليزه الطويلة وقع أقدامي.. سامرتني شرفته في الليالي لصيفية الحارة.. وحمتني أسقفه في ليالي الشتاء الممطرة الباردة.. لم أكن أتصور أن تلغى فصول من قصتي التي لم تنته بعد!! تخيلت أنني معشوقة في هذا البيت من وجهي حتى عظامي مرورا بشراييني وعروق يدي؟!! لحظتها.. انتابتك رغبة ملحة في النهوض من سريرك والسير إلى حيث باب غرفتك وفتحه والخروج منه.. إلى.. أي مكان؟!! إلا هنا..!! ولكن ساقيك تخونان رغبتك.. تمتنعان عن الحراك تستسلمين للقدر.. ومن قوة الصدمة يعود رأسك على مخدتك نادما.. وتنامين!.. في الصباح تستيقظين متعبة.. مرهقة.. ساخنة.. قد عقدت صدمة البارحة لسانك.. واليوم لم تكلمي أحدا غير الصغير.. مشعل.. ولم تحاولي النظر في الوجوه.. تحاشيت حتى الجلوس قربهم فقط اليوم شعرت بغربة ووحشة حتى وأنت لا تزالين بينهم.. وها أنت الآن قابعة في ركنك القصي تنظرين حولك وتعتدلين في جلستك المملة السلبية.. تواجهين الباب بإصرار وعناد تنتظرين قرار المحكمة العليا التي انعقدت منذ ساعة زمن.. ولكنك أيضا تعرفين مسبقا أن القرار سيكون جائرا ظالما والتهم ملفقة.. وأيضا تعلمين أن سبل دفاعك غير كافية.. فالعلل تحيطك والهرم يتقدم قدميك.. وعليه فإلادانة واضحة وصريحة تحيطك من رأسك إلى أخمص قدميك والشهود على هذا يحيطونك من كل حدب وصوب للشهادة ضدك وضد عجزك المؤقت.. ولنفرض تجاوزا أنك ستترافعين عن نفسك في هذه القضية التي لم يوكل لها محام لبشاعتها!! ماذا كنت ستقولين؟!! فهل يكفي قولك إن علاجك بسمة من صغارهم، وأن قوتك كلمة طيبة من كبارهم..!! هل يكفي أن تقولي إن حياتك مرهونة بوجودك.. بينهم.. وأن علتك ستختفي وستشفين منها حالما تسمعين صراخ رضيع جديد أو بكاء طفلة جميلة.. أو حتى لوم أحدهم لتأخرك في تحضير فنجان قهوته أو كوب الشاي المفضل لديه، ولكن هل يدرون الآن لو أنهم تحلقوا حولك بدلا من تحلقهم حول أنفسهم..!!.. لو أن صغارهم تقبل يديك وكبارهم تقبل وجنتيك وتمسح بحنان الأيادي على ركبتيك.. وتنطلق ألسنتهم تلهج بكلمات الحب والاعتذار؟!! هل يعلمون بأن الحياة ستدب رويدا رويدا إلى ساقيك وركبتيك.. وأنك ستلقين بعكازك الهرم خلف ظهرك.. وستفاجئينهم. وتمشين كأقوى ما تكون امرأة ..!!! وتمر كل هذه الخواطر بمخيلتك وهم لا يزالون متحلقين حول بعضهم.. ثم.. تعبسين وتشيحين بوجهك عنهم إلى حيث النافذة الكبيرة المفتوحة المطلة على الحديقة الخضراء.. وتواجهين قرص الشمس الأحمر الغارب تراقبينه حتى يختفي خلف الأرض.. تشعرين بأن كل شيء سينتهي أو يختفي.. تنهضين بعزم وقوة مرددة بصوت عال.

سألملم كل أشيائي..!!

وقبل أن تكملي عبارتك.. تصطدمين بكل العيون الزجاجية البراقة التي توجهت إليك مقتربة منك، تتسع أحداقهم لتبدو لناظريك الضعيفين أكبر وأكبر.. تشعرين كأنك بداخل تلك العيون وتتخبطين بأعماقهم.. تصارعينهم بقوة.. فتهشمين ذلك الزجاج الهش.. فينغرز بقسوة في بدنك الخائر الواهن.. تنظرين مشدوهة إلى الدم الأحمر الذي بدأ ينبثق من كل حواسك.. تحاولين الكلام.. تتحشرج الكلمات في داخلك المجروح.. يشتد عليك الألم.. يتدفق دمك بغزارة أمام عينيك فتطفر دموعك ساخنة مختلطة بحمرة دمائك.. تشعرين أن كل شيء يسيل ساخنا وكأنك ستنتهين.. وتحسين بأن صوتك يهرب منك ولكنك أيضا تحاولين فترددين..

- سألملم... أشيائي...!!!

 

منى الشافعي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات