ذلك الذهب العتيق كيف نصونه؟ محمود شاهين

ذلك الذهب العتيق كيف نصونه؟

الحرف والصناعات اليدوية الشعبية الأصلية، وعلى امتداد الساحة العالمية، تشكل امتيازا رفيعا، تحمله في العادة أسر معينة، أو مؤسسات معروفة، تتناقله بالوراثة وبما يشبه النذر المرصود الصعب، وهو بقدر ما يضرب في الماضي الأبعد والأقرب للأمية أو الشعب، يضرب في الحاضر والآتي أيضا!!.

اشتهرت دول عديدة في مجال معين من هذه الصناعات والحرف، فذهبت مضربا للمثل فيها، فالصين الشعبية، على سبيل المثال لا الحصر، تعتبر من الدول العريقة والشهيرة بالخزف، وألمانيا بالبورسلان، خاصة" بورسلان مايسن" الذائع الصيت والذي يطلق عليه "الذهب الأحمر" نسبة إلى التربة الحمراء التي يصنع منها وإلى الدخولات الهائلة التي تجنيها ألمانيا من تسويقه إلى شتى أنحاء العالم.

كما أن العديد من بلداننا العربية، تشتهر بصناعات وحرف عديدة، كصناعة الزجاج والنسيج والموزاييك والقاشاني والفخار وغير ذلك الكثير. هذه الصناعات والحرف والفنون الشعبية التقليدية الأصيلة، هي الوعاء الذي يحتضن الروح الشعبية بكل نقائها وطيبتها وحساسيتها، وبالتالي فإن هذه الروح، هي الحاضن الأهم لتراث الأمة ومناخه الصحيح. فيه يحيا ويتناسخ ويتجدد، عبر جملة من المظاهر تختصرها العادات والتقاليد والأعراف الشعبية المتداولة في الحياة والحاجات اليومية للإنسان الشعبي.

الذهب العتيق

تداخلت في عصرنا بعض الفنون والحرف والصناعات اليدوية التقليدية، خاصة تلك التي نصت على أصول الفن الشعبي ومصادره الأولى، تداخلت بالفن التطبيقى والتشكيلي، فأخذت منه وأعطته، لنجد أنفسنا أمام هجين جميل من الفن والصنعة، يشير للتراث الأصيل في جانب، وللعصر بكل خروقاته وتطوراته المذهلة، من جانب آخر.

مثل هذه الفنون والحرف المتداخلة، نجدها في العمارة الداخلية والخارجية، وفي الثياب والأدوات والحاجات والنسيج والسجاجيد والرسوم واللوحات والمجسمات التزيينية الخالصة. هذا التداخل بين الفن والحرفة، أو بين الصنعة والابتكار، تزايد بشكل كبير خلال هذا العصر، بتأثير عدة عوامل اقتصادية واجتماعية. فمثل هذه التراثيات أصبحت رمزا لأصالة الشعوب وعراقتها وحضارتها وتطورها، أو هي بمعنى آخر، صورة لهويتها الوطنية والقومية.

على هذا الأساس، أو من هنا تحديدا، تأتي أهمية العاملين في مجال الحرف والصناعات اليدوية التقليدية التراثية وضرورة رعايتهم والمحافظة على أيديهم التي "تلف بالحرير" كما يقال، أو يجب أن تلف في حقيقة الأمر؟!!.

إن تراكم الخبرات الفنية العملية والنظرية لدى الحرفيين والصناع البارعين، تعتبر كنزا من كنوز الأمة والوطن، ليس من الضروري المحافظة عليها وحمايتها وتطويرها فحسب، بل من الأهمية بمكان، حفظ هذه الخبرات وإيجاد شتى السبل لاستمرارها من جيل إلى جيل، ذلك لأن هذا "الذهب العتيق" قد لا يتكرر أو يعوض بنفس الخصوصية والنكهة المميزة.

إن المخضرمين من الصناع والحرفيين الفنانين الشعبيين البارعين الذين أمضوا العمر في تكوين هذه الخبرات وتكريسها وتجميعها بالممارسة، أشبه بالذهب الذي يزداد قيمة وأهمية وفرادة كلما تقادم عليه الزمن وتعاقبت السنون.

وقد فطنت العديد من الدول إلى هذه الناحية، فأولتها العناية والرعاية اللازمتين والضروريتين، وذلك بإنشاء ورش أو معاهد صغيرة لهؤلاء النادرين من معلمي الحرف والصناعات التقليدية والفنون التطبيقية، وقامت بإلحاق مجموعة من الشباب الموهوبين الذين أبدوا استعدادا بينا لتمثل هذه الخبرات والمضي بها قدما نحو المستقبل، محققين بذلك، عملية التواصل مع تراث الأمة، واستمرارها وصونها من الضياع والتلاشي بضياع حامليها ورحيلهم، و بالتالي، تطويرها والإضافة إليها بما يتلاءم وخواصها التي تحتضن تراث الأمة وتعكس أفكارها ومعتقداتها وعاداتها الأصيلة والنبيلة.

خصوصية وفرادة

والصناعات والحرف والفنون التقليدية المختلفة، المبنية على روحية شعبية أصيلة، تتوزع مطارح وأمكنة وحاجات يومية، منها ما هو استعمالي بحت، ومنها ما هو فنى، فقد تكون جدارا أو حليه أو أثاثا أو ثوبا أو علبة او قنديلا، وقد تكون عملا فنيا كاللوحة والتمثال، والسجادة الجدارية أو غير ذلك من المعلقات الجدارية التزيينية.

وكما تتعدد وظائفها ومهامها، تتعدد خاماتها، فهي إما من الرخام والحجر والخشب والمعادن المختلفة، وإما من النسيج والألوان والأحجار الكريمة والأصداف.. وغير ذلك. وقد تكون مفردة التنفيذ بخامة واحدة، أو مطعمة بأكثر من خامة.

وهنا نقف على نوعين أو فئتين من الحرفيين والصناع والفنانين الشعبيين:

- الفئة الأولى: التزمت رغبات التجار والسماسرة وإغراء الإثراء السريع، فتحولت إلى منتج (كم) على حساب (النوع) لتغطية حاجة السوق السياحية، وبالتالي، تحقيق أكبر قدر ممكن من الربح بأسرع وقت، وهذا ما دفعها إلى ميكنة هذه الصناعات والحرف، فأعطيت جانبا تعبيريا وفنيا مهما فيها.

- الفئة الثانية: التزمت الأصول الصحيحة، لإيمانها بقيمة وأهمية ما تنتجه، كتعبير وموضوع وعلاقة ورمز، وهؤلاء عادة، يتعثرون في حياتهم ويبقون فقراء، إن لم تتوافر لهم يد المساعدة والرعاية من الدولة، أو من جهات واعية ومثقفة، تدرك قيمة منتوجهم وتقدره.

على أن نظرة عامة، إلى الحرفيين البارعين (خاصة في بلداننا العربية) تؤكد أن غالبيتهم يخرجون من الحياة، بخبرتهم الرفيعة وكرامتهم، يرافقهم إحساس مر بالغبن والجحود!!.

والحقيقة التى تتأكد يوما إثر يوم، ان التراث الحقيقي والأصيل للشعوب والأمم، هو ما يستمر بين الناس، في حاجاتهم اليومية المادية والروحية، وهو الماضي الأقرب الذي يختصر ويختزل الماضي الأبعد. أما الحياة الشعبية، فهي الوعاء والحاضن لهذا التراث، أو لنقل هي رحمه الحنون الذي يتناسخ فيه ويتجدد، ويبقى الفنانون الشعبيون المؤمنون الماهرون، سدنته وحراسه وحاملي صيانته وحفظه واستمراره.

هؤلاء.. وفي زمن مسكون بالرداءة والعطب والاستهلاك المخيف.. في زمن السياحة المجانية، وقطع الجذور، وتدمير الأصيل الجميل.. في هكذا زمن، يصبح الحرفي الماهر، والصانع الأصيل، والفنان الشعبي الحقيقي، مثل النجوم الشاردة التي من المفترض أن تلم لتلم هي بدورها، الإضاءات الصغيرة الطالعة حولها، فتسلمها أمانة حراسة الجذور والصعود بها دوما مع الحياة!!.

 

محمود شاهين

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




ذلك الذهب العتيق كيف نصونه؟





الصين من الدول العريقة في الصناعات والحرف اليدوية





الصناعات التقليدية كالذهب العتيق يجب أن تصونها ونحافظ عليها





الثياب الشعبية تضفي على كل شعب سمات خاصة تميزه عن الشعوب الأخرى





الخرف موجود منذ بدء الحضارة وسوف يبقي شاهدا يحمل حروفها الأولى