ملف المخزنجي: الرَّحالة محمد المخزنجي.. جنوباً وشرقاً

ملف المخزنجي: الرَّحالة محمد المخزنجي.. جنوباً وشرقاً
        

          في الرحلة يعيد الرَّحالة اكتشاف ذاته، تكشف له الجغرافيا عن عشق دفين فيه، ويضيء له التاريخ مساحاتٍ معتمة فاتت عليه، ويقدم له الإنسان - الآخر مرآة حضارية لمستقبله حينا، وأحيانا لماضيه. هكذا هي رحلات الأديب محمد المخزنجي التي ضمها كتابه «جنوبًا وشرقًا»، بعنوانه الفرعي «رحلات ورؤى»، والذي أعاد فيه رحالتنا العربي المعاصر اكتشافه لجغرافيا قد تبدو أحيانًا مجهولة لكنها دومًا مأهولة، يستشف منها نظراتٍ وعبراتٍ تلهمنا أثناء القراءة والحياة.

          في المقدمة يكتب الرحالة عن أن هذه السفرات التي انطلق - في معظمها - جنوب البلدان العربية وشرقها، امتداد لغوايته المبكرة بالسفر والترحال، بدأت الغواية بتحريض أولاد حيه على الخروج في رحلة أسبوعية كل يوم جمعة لاستكشاف أطراف مسقط رأسه؛ مدينة المنصورة، متسلحين بزاد من الطعام وماء قليل وعصي للدفاع عن الذات ضد مفاجآت الأطراف.

عائلة إنسانية

          لكن الرحالة الذي بدأ كتابة فصول ديوان سفره، تسلح بغير العصي في تلك الرحلات الجديدة، كانت دراسته للنفس البشرية كطبيب وراء محاوراته مع البشر، وربما بحث في داخل كل ذات يلتقيها ما وراء النفوس المتعبة والبشرة الملونة، عن نقاط التقاء بينه كعربي، مصري، وبين هؤلاء الذين يلتقيهم ربما ليوم أو بعض يوم، لكنهم سيظلون في ذاكرته المدونة، ليشارك قراءه تلك الذكريات.

          هذا هو الملمح الأول في كتابات المخزنجي، لذلك كثيرًا ما يربط في الرحلة بين رائحة هناك، وأخرى هنا، بين عادات تقليدية راسخة في ثقافتين متباينتين، وكأن جوهر الإنسانية هو الذي يبتكر له هذه اللعبة في التوصيل، بين ما هو هنا، وما هو شبيه له هناك، ليقول لنا نحن أفراد عائلة إنسانية واحدة.

سلاسل سردية

          أما الملمح الثاني فهو السرد عبر رحلات مسلسلة يربط بينها أمرٌ أو سواه. في الجغرافيا تدلك الخرائط على سلاسل الجبال، تمر بك في شبكات الأنهار، تعرفك على أرخبيلات الجزر، وفي أدب رحلته قسم الرحالة محمد المخزنجي مشروعه إلى مجموعة من تلك السلاسل، تشمل منطقة أحيانا، أو تضم مجموعة من الدول التي يضعها تحت مظلة واحدة أحيانا أخرى.

          أعتقد أن أقرب ما يستدعي هذا الوصف هو تلك الورقة التي شارك بها في أحد ملتقيات مجلة العربي الذي خص للرحلة العربية نحو الشرق. على مائدة الحديث والذكريات جلست عدة أجيال تمثل أصوات مجلة «العربي» التي ساهمت على مدى أكثر من ثلاثة عقود في كتابة وإحياء أدب الرحلة المعاصر: فهمي هويدي، محمد المنسي قنديل، ومحمد المخزنجي، وأشرف أبو اليزيد، وإبراهيم المليفي، ممن جاءوا بعد كوكبة أخرى دشنها رائد أدب الرحلة سليم زبال الذي سافر بصحية أوسكار متري ليقدم الوطن العربي إلى أبنائه.

          اتسعت العائلة بعد تلك الرحلات الأولى لـ«العربي»، وجاء اتساعها مع امتداد إلى العالم الإسلامي، ثم بلغت الذروة حين استقصت القاصي قبل الداني، خارج حاجز اللغة والعرق والدين، وهنا كان نبوغ قلم المخزنجي الذي وضع على مائدة تشريحه النفسي عوالم تقدم للمرة الأولى إلى القارئ العربي.

          ومن هنا كانت ورقته المشار إليها قراءة إحدى تلك السلاسل عن كمبوديا؛ هبة المطر وشجن البشر، وميانمار (بورما) في ظلال أبراج يانجون الذهبية، ولاوس التي تمثل تضاريس من الجبال والأنهار والفيلة. هنا يصنع المخزنجي من الجغرافيا جسدًا، يدعونا لنرحل في شرايينه، ونكتشف معه العالم الآسر.

بين الطب والأدب

          يمتلك المخزنجي ناصيتي الطب والأدب، الأولى بحكم الدراسة والممارسة، ولو لحين، والثانية بفضل ذلك الهوى المتبادل بينه وبين الأدب. وفي رحلاته سنعثر كثيرًا على ظلال هذين المؤثرين كملمح ثالث يضيء جوانب كثيرة، ويقود أيضا إلى أماكن مجهولة، مثلما يمثل اكتشافًا مثيرًا لدى البعض كذلك. المطالع لرحلات المخزنجي سيجد نفسه في إهاب موسوعتين؛ الأولى طبية، والجديد أنها لا تخص البشر وحدهم، وإنما تمس الكائنات الحية كذلك، وعالمًا من الحيوان والنبات يقدم أحيانا معادلا موضوعيا للإنسان!

          أما الموسوعة الثانية، فهي موسوعة أدبية، تقدم عدة وجوه يعكس الأول قراءات القاص المثير والفذ، لأدباء العالم، فنلمح تلخيصا لرواية هنا، واقتباسًا من شعر هناك، وتعليقًا على أسطورة بين رحلة وأخرى، مما يجعلنا نتأكد أن ما حظيت به رحلات المخزنجي من تأثير لم يأت من فراغ، وإنما كان نتيجة جهد في تدبيج النص الأدبي وتوشيحه وترصيعه بجواهر العالم الأدبية.

          لكن الوجه الثاني والأهم كذلك هو اللقاء مع أعلام الأدب والفكر والفن في تلك الرحلات، حيث أنني لا أعتقد أن الرحلة المهمة تكون زيارة لمكان وحسب، وإنما هي استدعاء لروح الإنسان المبدع. والحقيقة أن الإنسان المبدع لا يقف في نصوص المخزنجي عند حد الرسميين من هؤلاء الأعلام، وإنما هو يمتد إلى صور أخرى في الفنان الحرفي، والصانع التقليدي، ومن شابههما.

          أما الوجه الأخير لتلك الموسوعة فهي المفردات الآتية من عالم لا ريب في جدته، حيث يحرص على تضمين أشهر العبارات بلغات البلد التي يزورها شارحًا ومعلقًا بمرح لا تخفى روحه.

          في كتابه «جنوبًا وشرقًا - رحلات ورؤى»، كثيرا جدا ما نقف عند المخزنجي، وهو يتحول من رحالة يقص انطباعاته إلى كاتب له رأيه، فينصح العرب - قراء وحكومات - باتخاذ تدابير بعينها، وينادي المسلمين بتأمل تجربة بعينها، ويحذر الإنسانية من شرور ومخاطر تسير باتجاهها. هو هنا يقدم ما يشبه الخلاصات أو «وصفة الطبيب» الذي استبدل بقلمه مبضعه ليكتشف المرض ويفكر في الحل. وهذا الموقف لا ينفصل عما سبق، لإنسان مهموم بالبشر، مهمته إشاعة الجمال، والدفاع عنه، خارج الجغرافيا المحدودة بالخرائط، وتحت أكثر من سماء.

 

 

أشرف أبواليزيد