سفن قديمة

سفن قديمة

لاحظت أنه يتكلم إلى ابنه دون أن يرفع عينيه عن زجاجة الجعة فوق المنضدة البيضاء الصغيرة ولا أعرف هل كان الولد يصغي إليه أم لا. لقد بدا لي مبتهجا بشرب زجاجة "السفن أب " يصوب عينيه من خلف الزجاج الشفاف إلى الأطفال المبتهجين في الشارع.

كان اليوم عيدا. وكنت أرسل عيني إلى أبعد من الشارع والأطفال. إلى البحر المترامي في كسل صافي الزرقة، فوقه الفضاء أبيض بلا نهاية، والسماء البعيدة تحتها سحب قليلة خفيفة هشة تتحرك بلا نظام، وتتمزق بسلاسة فتتبعثر قطعا صغيرة تسبح تحت السماء

صلعة الأب كبيرة متحدة مع جبهته العريضة. الرأس أكبر من ذلك الرأس الذي عرفته، ربما لاتساع الصلعة وربما لازدياد النعمة! لكن الشارب العريض كما هو فوق الشفة العريضة للفم الواسع، والأنف في مكانة، فقط ازدادت قاعدته اتساعا!

لايزال الأب يشرب الجعة مركزا عينيه على الزجاجة. والجرسون لم يعد إلى الظهور، والمشرب خال إلا منا والوقت ظهر. ليس هذا هو الموعد المناسب لشرب الجعة. دائما اختار أنا الموعد غير المناسب. أحب أن يكون المشرب خاليا أو شبه خال. تلك عادتي عندما أكون وحدي في بلد من البلاد. لا يسلي وحدتي إلا انفرادي! أستطيع أن أتفحص جدران المشرب واللوحات الجميلة اعلى الجدران التي عادة ما يصرفنا الزحام عن تأملها. وفي كل الأحوال أجد تاريخ المكان يتجلى أمامي خارجا من الصور، ومن الأسماء التي يكتبها أصحاب المحلات الأذكياء للمشاهير الذين زاروا محلاتهم. رأيت ذلك في باريس وفيينا ونيويورك وشيكاغو وموسكو أيضا. كثيرا ما أفكر أن أصحاب هذه المحلات شطار أو نصابون. إذا قلت إنه هنا كان يجلس "جان بول سارتر"، كما هو موجود في مقهى "الدوماجو" في بوليفار سان جيرمان. فهل سيناقشك أحد في ذلك؟ هل سيعترض أحد على ذلك؟ سيحدث العكس، ويتواطأ الزبون معك ليجلس مكان سارتر ويقول ذلك للآخرين.

إن السعادة هي الهدف الحقيقي للإنسان، حتى لو راح يحققها للآخرين. وإننا نبحث عن السعادة ولو عن طريق الكذب. لكن هذا المشرب السكندري العتيق لا يعلق صورا للمشاهير. رواده يعرفون أن صاحبه يوناني ترك الإسكندرية إلى أثينا في أواخر الخمسينيات. الحقيقة أنه بدأت موجات هجرة واسعة من الإسكندرية بعد حرب 1956. كان اليهود هم أول المهاجرين وأكثرهم. ولا أحد يعرف لماذا هاجر اليونانيون والإيطاليون والقبارصة. لقد احتفظ صاحب المحل الجديد، السكندري المصري، بالصور القديمة للمحار وأسماك البحر والسفن الشراعية القديمة مبحرة في الآفاق تحت الغيوم، وسفن أخرى في يوم صحو ترقص حولها لاهية. كنت أحب البحر وأحلم بالعمل فوقه لكن لم يتركني البر.. هكذا كان.

- لحضرتك أخ اسمه إدريس؟

- أنا ادريس.

هذا ما حدث بالضبط. سألته السؤال الذي ظللت بعض الوقت مترددا فيه وأجاب هو في اللحظة نفسها كمن كان في حاجة إلى ذلك! ابتسمت وشعرت بارتياح غريب برغم أني لم أكن متضايقا من قبل!

- لقد عرفتك من صوتك.

- لكنى لم أتحدث.

- لقد اجبتني على الأقل.
ضحك ضحكة قصيرة وأحمر وجهه. سألته: هل تعرف كم مر من السنين؟
- عشر.

- تسع.
عاد يضحك ويحمر وجهه. قلت:

- لم تكن قد تزوجت بعد.

ورأيت عددا من الأطفال يتطلعون إلينا من خلف الزجاج. عيونهم صغيرة لاتستقر. كانوا في البداية طفلا واحدا انضم إليه آخر ثم ثالث ثم راحوا يزدادون. يتطلعون إلينا ويبتسمون في دهشة حقيقية.

- كنت وأنا في سنهم أفعل مثلهم.

- الأيام تدور

- لكني كنت لا أكتفي بالنظر.

- الأجيال الجديدة جبانة

أدهشتني إجابته. وكان ابنه يبادل الأطفال الابتسام. وسكتنا قليلا ثم قال:

- لقد طلقتها في اليوم التالي لوصولي.

- من هي؟

- زوجتي. ألم تسألني عنها الآن

لم أكن قد سألته لكني قلت:

- أجل.

- سافرت أعمل في ليبيا وعدت لأجدها على علاقة بشخص آخر. أخذت الولد معي.

أشار إلى ابنه الذي كان لايزال مستغرقا في مبادلة الأطفال الابتسام واستمر هو يتحدث:

- حضرت من ليبيا يوم سبعة وعشرين وطلقتها يوم ثمانية وعشرين، أنا لا أنسى ذلك اليوم.

كان الولد قد تركنا فجأة وخرج ليقف يتحدث مع الأطفال ويشير إلينا معهم، ويبتسم مثلهم وتزداد ابتسامتهم من خلف الزجاج، تشرق أكثر. وفجأة تناقصوا. شيئا فشيئا تناقصوا حتى صاروا ثلاثة مع الولد، ثم عادوا يزدادون. وهكذا مثل موجات متعاقبة كانوا، ودائما أنا أتجاوزهم بالنظر خلف الشارع إلى البحر الذي يمتد سلساً هادئا في مثل هذه الأيام الشتوية الدافئة. وأحسست بالضيق فجأة من حديثه وسألته:

- هل ستعود إلى ليبيا من جديد؟

- ربما. لكني افتتحت محلا للأثاث في شارع خالد بن الوليد. المحل القديم الذي بعته قبل الجواز، كان يخسر كثيرا.

- أذكر ذلك.

وأذكر أنك بعته لتحصل بثمنه على شقة في حي أرقى.

- هذا صحيح. لقد ساعدني والدك كثيرا. إننى لا أنسى فضله عليّ.

ولم تكن هذه حقيقة. لقد مات والدي منذ عشرين سنة. واستمر هو يتحدث:

- لولا والدك ربما كنت خرجت من المنطقة مديونا ملعونا. ثم إن والدك أيضا حذرني من تلك الفتاة.

- أي فتاة؟

- التي صارت زوجتي وطلقتها. التي سألتني عنها وحدثتك الآن.

وسكت هو وأنا بدوري سكت ورحت أتطلع إلى ابنه والأطفال الذين ينظرون إلينا من خلف الزجاج، ثم تناقصوا حتى بقي الولد وحده. وفي اللحظة التي كاد فيها يعود إلينا ظهرت امرأة شابة وقفت تتحدث معه. انحنت عليه وقبلته، ثم أشارت إليه أن يخرج إليها. بسرعة ترك حسابه على المنضدة وخرج.

فعل ذلك بينما أنا مشغول بالنظر إليها. لم يكن من الصعب أن أتذكرها. لقد تهدل صدغاها قليلا وزاغت عيناها وذبلتا كثيرا ورأيت شفتيها باهتتين متشققتين وهي تبتسم لي من خلف الزجاج. كانت ترتدي "جوب " أزروا قديما فوقه "بلوفرا أبيض واسع. كانت أمي تقول دائما عنها: "ظهرها ممسوح وناشفة" لكني كنت أميل إليها كثيرا، وأنتظر ابتسامتها من البلكونة العالية في الدور السابع، أنا الواقف فوق السطح. كانت الابتسامة تتألق في الشمس، ويبدو لي أننا معلقان في فضاء بعيد لن ننزل منه إلى الأرض، لكنها كانت تسرع بالدخول من البلكونة، وتتركني معلقا في الفراغ وحدي. لا أنسى طعم البهجة التي كانت تضيع في صدري. هي نفس البهجة التي تسللت إلي الآن بعد الابتسامة الواهية من الشفتين المتعبتين. لكنها ليست بنفوس الاتساع، ولا العمق، أجل. قلت حلاوة الأشياء ولم تعد كما هي ولم يبق على حاله سوى الضجر

 

إبراهيم عبدالمجيد