شريط الورق

شريط الورق

ما كان في برنامجنا الأسبوعي "وقد كنا نرسم مخططات لكل أسبوع على حدة" أن نخوض تلك المغامرة! بل هي لم تخطر لأحد منا ـ نحن الذين سمينا أنفسنا: عصابة الكف الأسود ـ على بال يوما. فبرامجنا كانت تنحصر في تسلق صخور جبل قاسيون, أو إقامة مايشبه مخيماً في أحراج "دمر", أو معاودة غزو بساتين "جوبر" لسرقة مشمشها وتفاحها برغم لسع خيزرانات أصحابها, بل نحن رسمنا وغيّرنا, سطرنا ومحونا, جمعنا وطرحنا للمغامرة الكبرى, تلك التي سيخادعنا الزمن فنشب, ونودع يفاعتنا ثم نتفرق من دون أن ننجزها أبداً: السفر من دمشق إلى البحر مشياً على الأقدام!

أما تلك اللعبة الشيطانية فقد ابتكرتها لنا المصادفة البحتة, وورطتنا بها, ثم أوثقتنا إليها, إلى أن صارت هاجساً في رءوسنا, وبديلاً جاهزاً, سهلاً, ما وقعنا في عجز الاختيار مرة إلا وصاح أحدنا: "ما رأيكم بشريط الورق"?! صحيح والله.. كيف نسيناها?! ثم نرمح, والشريط معنا, إلى الشوارع, متقافزين, بدافع اللذة الموعودة, كحبات برتقال تتدحرج نحو السفح!

يومها, كنا نلوب في شوارع "البحصة" حين أدارت رءوسنا زمامير قوية, متصلة, فالتفتنا لنجد سيارة بيضاء, فارهة, مزينة بالأشرطة الملونة والزهور, تشق الشارع كعروس, فيما تلحق بها سيارات كثيرة يزغرد ركابها ويهللون.

لحظة وقفنا لنتفرج, انفلت, من عزم السرعة, شريط أحمر من السيارة العروس. تلوى في الهواء لثوان ثم اضطجع على الرصيف, قريباً منا. هجمنا عليه ورفعناه, ثم انتحينا, متحلقين, نتملى به.

كل الوقائع الليلية, المثيرة, التي ولدتها سيارات مشابهة في خيالاتنا, أو بحلقت فيها أعيننا في بعض الأفلام, راحت تنثال على الشريط وتتبدى, رحنا نمر بأصابعنا المرتجفة, على سطحه اللماع, الأملس, المتثني, فتسري من سلاميات أصابعنا إلى أطراف أقدامنا, مويجات تبدأ خفيفة, ثم تنشط وتحتدم وتفور, فتخضنا خضات متتالية تقطع أنفاسنا وتجفف حلوقنا, مبددة من حولنا المحلات, والناس, والأرصفة, والشوارع, والضجيج.

أأراد أحمد أن يستأثر بالشريط السحري حتى نتركه من أيدينا وكاد يهرب به? ربما, غير أن ماحدث هو أن التف الشريط حول شجرة وعمودين رخاميين قاطعاً الرصيف, وحاجزاً بين الذاهبين عليه والآيبين.

في قلب اللحظة تلك, كوميض خيزرانة البستاني, ومضت الفكرة الجهنمية في رءوسنا, وتجسدت!

من فورنا, وكأنا على اتفاق مسبق, عمدنا إلى ربط نهايتي الشريط بين شجرتين وعمودين متاخمين لمحل ملبوسات, فشكل مربعاً خالياً من المارة.

هرعنا إلى الرصيف المقابل, وأقعينا, بانتباه بالغ, نراقب نتائج اكتشافنا هذا, كان المشهد مثيراً بأكثر مما توقعنا:

المارة اللاهون بالكلام كانوا يتسمرون, في اللحظة الأخيرة, عند تخوم الشريط, مقوسين أبدانهم, كأنهم على شفا حفرة, ثم يتراجعون عنه بخفة خشية مسه. وآخرون كانوا يتريثون أمامه لحظة, مرسلين نظرات استطلاع إلى أعالي المباني وحولهم, ثم يرفعون أكتافهم حيرة وهم يلتفون عنه ماضين في طريقهم. والذين على عجلة من أمرهم أظهروا استياءهم وتذمرهم بتشويحات من أيديهم وهزات من رءوسهم من دون أن يخالفوا غيرهم في المباعدة بينهم وبين الشريط, بل حدث أن رأينا شاباً يهرع إلى امرأة عجوز تكاد تدهم الشريط, فينبهها, آخذاً بيدها, ودالاً إياها على كيفية تجاوزه بسلام. وكذا لفتنا زعيق امرأة تفزغ إلى طفلها الذي حاول التسلل من تحت الشريط, فتجذبه إليها ثم تضم كفها إلى صدرها, وتسرع مبتعدة, وهي تخطف نحو الشريط نظرات عجلى كأنها لاتصدق نجاة ولدها منه.

ما لم نصدقه هو: كيف نجحت لعبتنا, ولم يفتضح أمرها? إذ إن نظافة واجهة المحل, المجاور لمربع شريطنا, ولمعان بلوره, وكذا خلو الرصيف من أي حفرة أو كومة تراب أو عمال أو آلية إصلاح, أوقع في ظننا أن عمر اللعبة سينقصف بعد ساعة من الزمن أو أقل, بيد أنها عاشت وعمرت, تصديق الناس وتصرفاتهم أحياها, وجملها, وأمد عمرها, بل وجعلها اللعبة الأشهى لدينا.

وللحق, فقد خبلتنا اللعبة. طيرت عقولنا, فلم تعد تغرينا لعبة أو رحلة أومغامرة أكثر من لعبتنا هذه. بشر من لحم ودم, كباراً وصغاراً, رجالاً وشباباً ونساءً, فتياناً ومسنين, كلهم طوع لعبتنا نحن. طوع شريطنا الورقي المرفرف اللماع: يزيحهم عن الرصيف, فينزاحون. يفصل بينهم, فينفصلون. يعترضهم, فيلتفون. يباغتهم, فيجفلون ويتسمرون محاذرين مسه, صيرنا الشريط ملوكاً متوجين. سادة الأرصفة, والزوايا, والحارات. فكنا نتعانق, ونصفق كفاً بكف, منقلبين على أقفيتنا من الضحك بين مصدقين ومكذبين من أننا استطعنا, مع كل هؤلاء, أن نفعل هذا.

ومن خبلنا عشقاً باللعبة, طفقنا نطور طرائقها ونتفنن بها. فأحضرنا شرائط فسفورية لساعات الليل, انتقينا الشوارع المزدحمة, نقاط العبور الضيقة, بعض الحارات المهملة, واهتدينا إلى زوايا خفية هنا وهناك لنفاجئ الناس, ونتلذذ بانفعالاتهم واستياءاتهم وتحايلاتهم على الشريط المنصوب.

ولاندري ماذا أصابنا?

فكلما عانى المارة من عرقلة شريطنا لهم, ازدادت حميتنا لعقده في طرقاتهم ومعابرهم, وكلما انصاعوا للعبتنا وانكووا بها, فاضت شهيتنا لصوعهم وكيهم, حتى أننا في فصل الشتاء, رحنا نتصيد الأرصفة التي تجمعت المياه على حوافها, فنعقد الشريط لننتشي بمشهد رجل يرفع ولده على كتفيه ويخوض في المياه مبتعداً عن الحاجز, وامرأة تخلع حذاءها وتعبر, ويافع يشمر عن ساقيه النحيلتين ويجوز, وشاب ـ بعد تلفت حائر ـ يغامر بالانتقال إلى الرصيف المقابل متحملاً رشق السيارات له وشتائم السائقين.

وما رقت قلوبنا, ولا أخذتنا الشفقة بأحد يوماً, سوى حين حاول خالد أن يثنينا, إثر تعثر عجوز وسقوطها أرضاً, فنبينا, مجتمعين, بوجهه, ثم فصلناه عن مجموعتنا حين أصر على رأيه وظل على عناده.

ما لم نتوقعه, أو نفطن له إطلاقاً, أن تموت لعبتنا بين ليلة وضحاها.

لم تقتلها عصي أصحاب المحلات التي لاحقتنا أكثر من مرة, ولا نهرنا من بعض الرجال العابرين ولبطهم لاقفيتنا, ولا كذلك تهديد شرطي ـ كان ضبطنا ـ بسوقنا إلى السجن, ما أمات لعبتنا إحساس غريب, طاغ, لم تعهده يفاعتنا, ولاحدث أن أطفأت نار حميتها مشاعر لعبة أخرى, وهو أن مختلفاً, مثيراً, جاذباً لنا, ومجدداً لاندفاعنا, لم يحدث أبداً, وأبداً لم يتغير المشهد: المارة الذين حاذروا ظلوا محاذرين, والذين استاءوا ثم التفوا ظلوا يلتفون مستائين, والذين شمروا مابرحوا يجوزون الطريق مشمرين, بل أكثر من ذلك, كانوا إذا ما ابتعدوا عن شريطنا وصادفتهم حفرة, أو اعترضهم حاجز معدني ـ مما لم ننصبه نحن ـ فعلوا الشيء نفسه, حتى صارت لعبتنا مثل أسطوانة مشروخة أو شريط سينمائى بعينه, تتكرر مشاهده وتعاد أحداثه أمام أعيننا, إلى أن وجدنا أنفسنا, في يوم, نقلع عن لعبتنا, فلانعود إليها, وقد تسرب إلى أرواحنا, وتفشى فيها, ذلك الإحساس غير المألوف منا, والمحبط لنا تماماً: السأم.

 

إبراهيم صموئيل