الأتان محمد مستجاب
عندما تحققت أمنية صابر أبومستجاب في أن يصبح له بيت جديد خارج البلد، واجه مشكلة حمارتهم، نعم: حمارة وليست حمارا، فقد كانت آخر ما بقي له من أثر أبيه حين كان يطلق عليها (الأتان) ولا نعرف حتى اليوم من أين حصل أبوصابر على كلمة الأتان الراقدة في بطون المعاجم ودواوين شعر جرير والفرزدق والأخطل حينما كانوا يتعايرون ويتشاتمون ويصنعون هجاءهم من التعبير الأثير: يا ابن الأتان، ربما- هذا التعبير- جاءه من بواقي مجالس عبدالعليم العمدة، والتي كان يتسيد فيها الشيخ راشد والشيخ علي بما لديهما من علم قديم وغزير، وظلت الأتان قادرة على أداء ما يوكل إليها بعد رحيل أبي صابر لسنوات طويلة، ثم لم تلبث أن كبرت وعجزت عن العمل ثم بدأت تستكين نائمة داخل البيت القديم.
فهل من الحكمة أن يذهب صابر إلى بيته الجديد، الذي سوف تدخله الكهرباء والمياه المكررة، مصطحبا معه تلك الحمارة الجانحة الساقط رأسها بين كاهليها؟. وبعد تفكير وتدبير رأى أن يترك الأتان مكومة في موقعها، فسوف تلحقها رحمة الله قبل أن يتسلم المشتري البيت القديم، والله يرعى الجميع.
لكن المشتري الجديد للبيت القديم أبى أن يتسلم العقار إلا بعد إخلائه من الأتان المريضة النائمة، لو كانت بقرة لجاءها عشرة جزارين وباعوها لحماً لمن يستعصي عليهم اللحم الطازج الصغير، ولو كانت بطة لحملها صابر تحت إبطه، ولو كانت... لكن المشكلة الحادة انفكت وتفككت كما تنفك الحبال الملتوية، فلأن أحداً لم يكن يملك قلباً قاسياً يختصر به المسافة بين حياة الحمارة وموتها، فقد استعان صابر بخمسة رجال ليشدوا الأتان من رقبتها ومؤخرتها كي يخرجوها من البيت إلى عرض الطريق، حيث في ناحية من الطريق يمكنها أن تنتظر نهاية أجلها، وظل الرجال يهابرون ويرفعون حتى كادت الأتان تقف، بل وقفت بالفعل على قدميها الأماميتين ثم الخلفيتين، وتحركت في بطء عسير بين الأيدي الصلبة، وخرجت الحمارة من المنزل، لترى الشمس الغائبة عنها منذ سنوات طويلة، وعندما انتهى الرجال من إيداعها حوائط الشارع، لم تسقط الحمارة، ولم تنشل منهارة، بل تصلبت سيقانها القديمة، وبدأت تكمل الخطوات، خطوة مضطربة وراء خطوة ثقيلة، والأدهى من ذلك أنها سارت وراء صابر، والرجل مشدوه ينظر في عجب، سارت في وجل واضطراب حتى كادت تسقط، لكنها استمرت، وقاومت ليس السقوط فقط، بل ونظرات صاحبها وأصدقائه، إيه ...، إيه...، وبدأت إيهات الرفاق تخرج صائحة مندهشة، فها هي الأتان تستعيد النشاط المفقود، وتسترد ربع العافية الذابلة، وتدهش بحركتها المتهاوية الرجال فيصيحون: إيه... إيه، ويصفقون في جلبة، ويصنعون هيصة تجمع المارة والعابرين، لكن الحمارة لم تلبث أن سقطت وسط الشارع تماماً محدثة صوتا مخجلاً.
2
كان صابر أبو مستجاب يحكي الحكاية عندما كانت أخته الكبرى تعاون زوجته في رص صحاف السمك أمامه على الطبلية في مدخل الباب الجديد، فاجتاحت أهل البيت كلهم موجة مرح بدأوا خلالها يذكرون- أو يتذكرون- الطرائف الجميلة لوقائع الأتان المنقضية، فما رأوا من هذه الحمارة إلا كل جميل، والخير الذي تمتعوا به في عصرها لن يتكرر، كل واحد سوف يقضي أجله، وبيني وبينك فلو كانت الأتان قد جاءت إلى البيت الجديد لتسببت في مشاكل عديدة فكل الذي استطاعوا اقتطاعه لحساب البهائم من مساحة هذا البيت مجرد غرفة في المؤخرة، غرفة مزنوقة بين حوائط الأسمنت المسلح تقف فيها بقرة ووليدها، والمشكلة الدائمة أن البقرة نطاحة، أي ما تكاد ترى مخلوقاً- وأحياناً من أصحابها- حتى تهاجمه في ضراوة، وقد أنقذوا عجلها الصغير من عمليات نطح عدة مرات، ولما شب العجل أصبح النطح تناطحاً مثيرا للقلق، وقد شاع بين الناس ما تتصف به البقرة من شراسة مما أدى إلى فشل بيعها أو التصرف فيها، وكان صابر قد انهمك في تلقيم وليده الصغير قطعة سمك حينما أظلم مدخل الباب، نعم أظلم وكأن سحابة قد سدته، ونظر الرجل مستطلعاً، فاذا به يجد الأتان وقد وقفت على سيقانها الأربع المتصلبة، ورأسها المتساقط يكاد يلامس الأرض، وعيناها مصوبتان إلى صابر وعياله في ذل واستكانة، ثم لم تلبث- وقبل أن يصيح صابر أو يندهش أو يلعن- أن سقطت داخل عتبة البيت الجديد، وهي تمخر مصدرة أصواتها المتألمة الخشنة من جميع فتحات جسدها، فالتاث البيت كله، فقد أدى سقوط الحمارة إلى احتكاك مروع يكاد يقلب التليفزيون من فوق تربيعة الخشب، الحمد لله، وقبل أن تنتهي الأفواه من صرخة الحمد لله كانت الحمارة قد قامت نصف قومة، أي رفعت رقبتها ورأسها وجزءا من صدرها، لترفع تربيعة الخشب والتليفزيون وتهبدهما في الأرض، فانقطع المسلسل وانسكبت الموسيقى على الأرض، ياللمصيبة، وقام صابر مندفعاً إلى عرق خشب ونزل به في قسوة صارخة على رأس الحمارة، تلك التي كانت تنظر إليه في امتثال وذل، ودون أي مقاومة غير تلك الارتعاشة التي تشمل الجسد المكوم، والصوت المتحشرج الذي يهز أي وجدان.
3
وهكذا قتل صابر أبو مستجاب الأتان الأثيرة القديمة في مدخل الدار الجديدة، ووسط الفزع والوجل بدأ يتعاون مع زوجته وأخته الكبرى وبنت أخته الوسطى وثلاثة من كبار عياله في رفع هذا الجسد الثخين من المدخل، لكن أخته الكبرى عادت إلى الوراء متراجعة وصرخت: بس.. بس، وشدت بذراعيها القويتين وصوتها الحاسم الآمر الجميع كي يتوقفوا عن الرفع، كانت قد أمعنت في وجه الحمارة المغتالة ثم مؤخرتها، وصرخت في نحيب ملتاع: الأتان تلد، نعم تلد، وهذا السيل من الدم في مؤخرتها، يبرز بينه تكوين لا تخطئه عين أنثى في الوجود.
.. لا إله إلا الله.
وظهر رأس الحمار الوليد من المؤخرة، وبدأ الجميع يجرون يميناً وشمالاً بحثاً عن قطع قماش وماء ساخن، وشخص مدرب في توليد الحمير.