نحو حوار عقلاني متكافيء: نعم لتحرير مضامين المصطلحات نصر حامد أبوزيد

نحو حوار عقلاني متكافيء: نعم لتحرير مضامين المصطلحات

سعدت أيما سعادة بالحوار الذي بدأه الدكتور محمد عمارة حول بعض المفاهيم والمصطلحات الأساسية التي استخدمتها في مقالتي عن "المقاصد الكلية للشريعة"، وقبل أن أدخل في حوار معه حول "تحرير مضامين المصطلحات "، أحب أن أبرز نقطة الاختلاف الأساسية التي أخشى أن تجعل من الحوار "حوار طرشان" حسب تعبيره.

نقطة الاختلاف الأساسية تكمن في حقيقة هذه "الازدواجية/ الثنائية" التي يفترض البعض وجودها بين تيارين فكريين يمثلان قطبي النهضة في تاريخ هذه الأمة قديما وحديثا، وانطلاقا من تصور وجود هذه الازدواجية الثنائية يحدث هذا الفصل/ الفجوة فى تصور خطاب كل تيار لخطاب التيار الآخر، إذ يتصور أصحاب "الحل الإسلامي " أن الخطاب الآخر يستبعد "الإسلام " بالضرورة استبعادا كليا من مفهوماته ومن مضامين مصطلحاته، ومن هنا منبع القول بأن هذا الخطاب الآخر "وافد" تماما، هكذا يقسم الدكتور عمارة الخطابات إلى خطاب "أهل الموروث " وخطاب "أهل الوافد"، مع أن هذه القسمة ليست صحيحة على الأقل فيما يتصل بخطاب الدكتور عمارة ولا فيما يتصل بخطابي كما ظهر في المقالة التي يناقشها.

لا أريد أن أطيل في مناقشة نقطة الاختلاف الأساسي تلك، ويكفي أن أشير إلى أنها هي المسئولة عن حالة "التوجس" وتوقع "سوء القصد" إذا تصدى للكتابة عن الإسلام والتراث الإسلامي باحث لا ينتمي بدرجة أو بأخرى إلى تيار " الحل الإسلامي ". كلنا نعيش واقعا تداخلت فيه على المستوى الثقافي والفكري عناصر الوافد والموروث وتفاعلت، بحيث يصبح الكلام عن "أهل الوافد"، و"أهل الموروث " هكذا على الإطلاق مسألة في حاجة إلى مراجعة، والدكتور عمارة نفسه يشكو من أنه صار "متهما" من "النصوصيين" المقلدين ومن "الظاهرية الجديدة" بأنه رائد الاتجاه العقلاني، وفي تقديري أن جزءا من هذا الاتهام نابع من أرضية هذه "الفجوة" التي يحرص البعض على تأكيد وجودها بين "الوافد" و"الموروث"، ويعلم الدكتور عمارة أن بعض الكتابات تعتمد على تصور وجود هذه الفجوة لكي تنفى "الفلسفة الإسلامية" قاطبة من تاريخ "الفكر الإسلامي"، وذلك على أساس أنها فكر تسربت إليه عناصر "وافدة" من التراث السابق على الإسلام، ولا أظن الدكتور عمارة يوافق على هذا الرأي، أو يحبذ مثل هذه الكتابات.

لو أمكننا حسم هذه القضية لأزلنا حالة "التوجس" ودخلنا في حوار حقيقي عقلاني، على أرض الندية والتكافؤ المغايرة لأرضية " الاستبعاد" الحالية على أساس "وافد" و"موروث".

عن المقاصد الكلية الثلاث "العقل- الحرية- العدل" التي اقترحتها في مقالتي يتساءل الدكتور عمارة عن "المضامين" المختبئة داخل كل مصطلح من هذه المصطلحات، والتساؤلات تنبع جميعا من "التوجس" وتصور "سوء القصد" النابعين من تلك الفجوة التي أشرت إليها في تصور الدكتور عمارة للوافد والموروث.

يتساءل الدكتور عمارة عن أى عقل وعن أي عقلانية نتحدث: عقلانية التنوير الغربي أم العقلانية المؤمنة؟! مع أن المقال شرح مفهوم "العقل " و"العقلانية" على أساس أن المقصود بهما "الحلم " الذي يمثل نقيضا للجهل المتمثل في السلوك الجاهلي والقيم الجاهلية التي جاء المشروع الإسلامي مناقضا لها، وهو مفهوم يبدأ من "ضبط " السلوك وفق قوانين "التعقل " و"التسامح "، لا وفق قوانين "العصبية"، لكن تساؤل الدكتور عمارة يتيح لنا الفرصة لمزيد من الشرح والتوضيح لأنه أثار مسالة القيمة المعرفية للعقل. يرى الدكتور عمارة أن "العقلانية المؤمنة" تجعل سبل المعرفة أربع هدايات، هي "العقل، والنقل، والتجربة الحسية، والوجدان " "فلا تقف فقط عند العقل والتجربة كما صنعت عقلانية التنوير الغربي: الوضعية والمادية"، وهو بذلك يجعل "العقل " إحدى وسائل المعرفة، بل ويبالغ إلى حد جعل "النقل " هو الذي يحكم "العقل " بعد أن يمون "النقل " مقروءا به. ومن الواضح فعلا أننا مع الدكتور عمارة إزاء مفهوم للعقل لا يكاد يتجاوز دلالته اللغوية قبل الإسلام، حيث هو "الإمساك " بالمعرفة والقبض عليها، كما يمسك "عقال " الدابة بها في مربطها فلا تنفلت وتكون سائبة، هذا المفهوم النابع من الدلالة اللغوية طوره علماء الكلام فميزوا بين "العقل الضروري " و"العقل النظري " على أساس أن الأول يمثل البديهيات المشتركة بين الناس جميعا، في حين أن الثاني هو النظر في الأدلة للوصول إلى المعرفة انتقالا من المعلوم إلى المجهول، وهذه الأدلة هي "المحسوسات والتجارب والنقل"، التي يجب أن تمر جميعها من خلال "العقل" لكي تتحول إلى معرفة. إن الأدلة وحدها لا تمثل معرفة دون عمليات التحليل والتصنيف والتجريد، التي يقوم بها العقل المفكر، العقل إذن ليس "العضو المادي " وليس " الجوهر المجرد" وليس " الغريزة والملكة اللطيفة "، بل هو "الفعالية" الذهنية التي تحول الأدلة- حسية كانت أم نقلية أم تجارب وجدانية- إلى معرفة تعمق بدورها هذه الفعالية وتمنحها مزيدا من الصقل والصفاء والحدة.

والنص الطويل الذي اقتبسه الدكتور عمارة من "الاقتصاد في الاعتقاد" لأبى حامد الغزالي لا تتضح دلالته إلا في سياق فكر الغزالي الأشعري المختلط بأبعاد إشراقية غنوصية " وافدة "، وكان الأولى بالدكتور عمارة أن يستشهد بمفهوم "المعتزلة"- والقاضى عبدالجبار بصفة خاصة- للعقل، وهو المفهوم الذي يمثل الأساس الكلامي لعقلانية ابن رشد التي يفتخر بها الدكتور عمارة ونحن معه تماما. إن مفهوم الغزالي للعقل يسجنه داخل حدود إجرائية هي إثبات صحة "النقل "، وبعدها (كما يقول في المستصفى من علم الأصول، الجزء الأول، ص 6) "ينتهي تصرف العقل، بل العقل يدل على صدق النبي ثم يعزل نفسه ويعترف بأنه يتلقى من النبي بالقبول ما يقوله فى الله واليوم الآخر مما لا يستقل العقل بدركه ولا يقضي أيضا باستحالته، ولا أظن أن أحدا يجادل بأن عملية "فهم " النقل وتحليل مضمونه عملية لا تتم خارج فعالية العقل، إلا إذا زعم زاعم أن عمليات "التفسير" و"التأويل " نشاط لغوي لا علاقة له بفعالية العقل، وذلك زعم لا يتقبله عاقل فضلا عن باحث. وكما فعل الدكتور عمارة مع مصطلح "العقل " يفعل مع مصطلح "الحرية"، أي يناقشه من منطلق "التوجس " وتصور "سوء القصد"، فيتساءل: حرية من؟ وفي مواجهة العبودية لمن؟ ويدخل في مقارنات واستطرادات تقرن الحرية ب "الإباحية" و"الفوضى"، إن مفهوم "الحرية" في المشروع الإسلامي يبدأ من مناهضة مستوى عبودية الإنسان للإنسان على مستوى الامتلاك المادي ويعلو إلى آفاق تحرير الإنسان من وصاية أية قوة إلا أن يختار راضيا بملء إرادته الحرة دينه وعقيدته ونهج حياته.. الإسلام هو الدين الوحيد الذي أطلق للإنسان حرية اختياره و! يجعل وصاية لأحد على تلك الحرية، وهذا المفهوم الساطع في المشروع الإسلامي لا يستبعد- بداهة- كثيرا من "الضوابط " التي تنظم هذه الحرية حتى لا تتحول إلى فوضى، مسألة "الضوابط " هذه مسألة بديهية، سواء كانت اجتماعية أو فكرية أو سياسية أو دينية، لكن "الضوابط " تلك ليست أزلية وليست بمنأى عن التطور من عصر إلى عصر ومن مجتمع إلى مجتمع والتمييز بين "الثابت " و"المتغير" في القيم والحريات، فضلا عن المفاهيم وأنماط السلوك هو دائما محور "الاختلاف" بل و"الصراع" الذي يفجر الثورات ويحرك التاريخ. وهنا نأتي إلى المماحكة اللغوية التي أحدثها الدكتور عمارة بين قولنا: "سنن التاريخ" ورفضه لهذا التعبير مفضلا عليه "سنن الله" ولا يسعني هنا إلا أن أذكر الدكتور عمارة بمفهوم "الدهر" في التراث الإسلامي الذي يرى أنه لا يجوز للمسلم أن يسب الدهر لأن الدهر هو الله، فالقول بوجود قوانين وسنن تاريخية لا يعني إنكار الوجود الإلهى، نعوذ بالله من الخسران. هذا الخلاف اللغوي على أية حال يجسد مسألة "التوجس" وتصور "سوء القصد"، حتى على مستوى اللغة، وهو من ناحية أخرى يكشف أن كثيرا من أوجه الاختلاف ترجع إلى تمسك البعض بمخاصمة اللغة الفلسفية والعلمية لتوهم أنها لغة تتعارض مع اللغة الدينية أو تحاول أن تنفيها، والدكتور عمارة خير من يعلم أنه لا مشاحة في الاصطلاح أو العبارة إذا اتفقت المعاني والدلالات. ولكن من المماحكات اللغوية أيضا اعتراض الدكتور عمارة على عبارة "اللحاق بركب الحضارة" لأنه فهم منها "الالتحاق بالمشروع الغربي"، والاندماج فيه، مع أن الدكتور عمارة يعرف الفارق بين مفهوم "الحضارة" ومفهوم "الثقافة"، كما يعرف أن عبارة "الحضارة الغربية" تعكس مفهوما أيديولوجيا يرسخ المركزية الأوربية. والحقيقة أن "الحضارة" سياق إنساني متحرك ساهمت فيه كل المجموعات البشرية، وكل "الثقافات" بها هو جوهري وأصيل وإنساني فيها، والتمايز والخصوصية إنما تكون في "الثقافة" وليس في "الحضارة" خاصة مع تطور وسائل الاتصال وثورة المعلومات التي جعلت العالم "قرية صغيرة" بالفعل وليس على سبيل المجاز، ويعتمد الدكتور عمارة في تأويله لعبارة " اللحاق بركب الحضارة" على التحليل النفسي "الوافد والغربي " قائلا إنها عبارة تمثل "أمنية المهزوم نفسيا"، وأنا أوافق الدكتور عمارة على حالة الهزيمة الملموسة على جميع المستويات والأصعدة في وضعيتنا الراهنة كأمة وثقافة، وهي حالة لا تمكننا من المساهمة في إنتاج الحضارة والمشاركة في صنعها، وتجعلنا نكتفي بموقف المستهلك والتابع، إنها ليست حالة "نفسية" فردية، ولكنها وضع نتفق عليه جميعا، وتجاهله أو التهوين من شأنه يدخل الفكر في دائرة "أحلام اليقظة"، والأماني والرغائب التي مهما تكن عذوبتها تساهم في تكريس الأزمة وتأبيدها. وقبل أن أبين مفهوم الدكتور عمارة لمبدأ "العدل "- ثالث المبادئ الكلية التي اقترحتها- أتوقف عند اختلافنا حول "مركز" المشروع الإسلامي الذي وضعته في "العقل" بالمعنى المشروع، هنا وفي المقال السابق، بينما يحدده الدكتور عمارة في "التوحيد" بمعناه الشامل، وفي "الاستخلاف ". وفي تقديري أن التوحيد والاستخلاف لا يمثلان "مركز" المشروع الإسلامي، وذلك لسبب بسيط هو أنهما جوهر الرسالات السماوية كلها.

لم يتوقف الدكتور عمارة طويلا عند مصطلح "العدل" محررا لمضمونه كما توقف عند "العقل " و"الحرية" لكن وضعه لمفهوم "العدل " داخل مبدأ "الحفاظ على المال "- الذي اعتبره هو التعبير عن قوام الرخاء الإنساني والعدالة الاجتماعية- يجعلنا نستنبط أنه يقصر مفهوم "العدل " على دلالته الاقتصادية. وإذا كان هذا المفهوم الجزئي للعدل صحيحا- وهو ليس كذلك- فمن حق الدكتور عمارة أن يتساءل عن "الجدة" في القراءة التي نقترحها للمقاصد الكلية للشريعة، إن مفاهيم " العقل " و"الحرية" و"العدل "، مفاهيم كلية تتجاوز حدود المقاصد الجزئية التى صاغها الفقهاء، بمن فيهم الشيخ الطاهر بن عاشور ودلالة جزئيتها واضحة في شرح الدكتور عمارة لها. إن مبدأ "الحفاظ على العقل " لا يستوعب مفهوم العقلانية لأنه يرتبط باستنباط علة تحريم الخمر عند الفقهاء، في حين أن مفهوم "العقلانية" أوسع كثيرا من مفهوم "الوعي" المناقض لحالة "السكر"، وليس المقصود بمبدأ "العدل" ما فهمه الدكتور عمارة فأدرجه في "الحفاظ على المال"، ولم يجد لمبدأ "الحرية" مقابلا في المبادئ الخمسة، فاكتفى بالقول إن الشيخ الطاهر بن عاشور قد أضافه، رغم أنه يعلم أن مفهوم الطاهر بن عاشور للحرية يحتاج لكثير من الإضافات، وإذا كان الدكتور يتقبل اجتهاد الطاهر بن عاشور في الإضافة، فلماذا يتصور ان محاولة اجتهادي تقوم على الحذف والاستبعاد؟! هل المسألة هنا تكمن في الإضافة الكمية التي يعتبرها معيارا للإضافة متجاهلا سياق الاستيعاب "الكيفي "؟! أتمنى ألا تكون الأحكام مصدرها منبع آخر ليس هو "تحرير مضامين المصطلحات "، كان كان ذلك لا يمنع إطلاقا أن يستمر الحوار بالعقل وعلى أساس الندية والتكافؤ. وكما اتفقت مع الدكتور عمارة في أهمية "تحرير مضامين المصطلحات" وضرورته، أجدني أتفق معه كل الاتفاق في خاتمة مقالته بعد ان أضيف إليها ما هو موضوع بين قوسين كبيرين، نعم "إن أغلب حواراتنا هي ضحايا بائسة للفوضى الشائعة في مضامين المصطلحات "، (وللتوجس المتبادل والبدء من افتراض سوء القصد)، وعلينا كي يفهم كل منا الآخر، ولتحديد مناطق الاتفاق، ومناطق الاختلاف، ولتنظيم حوار موضوعي وجاد وبناء، أن نبدأ بتحرير وتحديد مضامين ومفاهيم المصطلحات (مع استبعاد تلك الثنائية الوهمية بين الوافد والموروث وما ينطوي فيها من إقصاء واستبعاد).

والله من وراء القصد..

 

نصر حامد أبوزيد

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات