القواعد الأخلاقية في الخدمة العامة

القواعد الأخلاقية في الخدمة العامة

برزت في السنوات الأخيرة، وعلى مستوى عالمي، مشكلات وتحديات جذرية لم تنل اهتماماً كبيراً في الماضي، ولكنها أصبحت عقبات قاسية تعيق التنمية وتهدد الأمن والاستقرار في أية دولة.

إن الإقرار بوجود هذه العقبات والمشكلات والشعور بنتائجها أصبح من غير الممكن إنكاره أو تجاهله. وتتمثل هذه المشكلات في أخلاقيات العمل وسلوكيات الأفراد في دوائر ومؤسسات الخدمة العامة سواء الإدارية أو السياسية منها. والتركيز على مؤسسات الخدمة العامة لا يعني تجاهل أخلاق ونزاهة العمل في الشركات والمؤسسات الخاصة والتجارية.

إن تأسيس وتنفيذ قواعد الأخلاق والنزاهة يعني محاربة الفساد بمختلف أشكاله ونتائجه. نزاهة النظام الإداري والسياسي في أي بلد أصبحت قاعدة أساسية وعاملاً مشتركاً للبناء والتقدم في جميع ما يتعلق ببناء المجتمع وتقدمه. والعكس صحيح أيضاً، أي أن الفساد في المؤسسات العامة والخاصة هو القاسم المشترك لتأخر العديد من المجتمعات، بل لتدني الثقة وتداعي المؤسسات، وأحياناً لعدم الاستقرار، ولتشدد المعارضة والأمثلة كثيرة في جميع أنحاء العالم. علم الأخلاق معني بدراسة شكليات السلوك وتحديد المعايير الأخلاقية بشكل عام. وما يهمنا هنا الجانب الواقعي أو التطبيقي (Applied Ethics) وخاصة في قطاع الخدمة العامة. هنا يجري التأكيد على المسئولية الشخصية، كما تقرها البنية الأساسية لقيم المجتمع والقواعد والأنظمة والقوانين المتفق عليها.

وغالباً ما ترتبط الأخلاق التطبيقية بالثقافة الشعبية، وبالمعتقدات الدينية، وبتفسيرات وسائل الإعلام، وبالقيم العائلية، وبالتربية والتعليم، وبغيرها.

هذه العناصر هي التي تجعل الفرد كائناً اجتماعياً منذ نعومة الأظفار، وأحياناً تميّزه عن غيره من أفراد المجتمعات الأخرى.

الشفافية الدولية والفساد

تُعرّف منظمة «الشفافية الدولية» الفساد بأنه سوء استخدام الفرد للسلطة الموكلة إليه لأغراض الربح الخاص والمنفعة غير المشروعة. ومن المعروف عامة أن الفساد يضعف الثقة بالحكومة، ويحيد السياسات العامة عن أهدافها، ويحط من كرامة من يمارسونه، كما يضعف المؤسسات التي ينتمون إليها. والفساد لا يقتصر على دولة معينة، إنه واسع الانتشار في الدول النامية وفي الدول الصناعية، ونرى باستمرار أن التحقيقات تكشف النقاب عن الفساد في الحكومات الغربية، كما شاهدنا أخيراً في الولايات المتحدة وغيرها، حيث أقيل حاكم ولاية الينوي وخسر رجال في الكونجرس مناصبهم بسبب الفساد والرشوى، والأمثلة عدة عن الفساد: منها قبول الرشوات والعطايا، والتلاعب بالعقود الحكومية لتحقيق منفعة شخصية، والمحسوبية وتفضيل الأصدقاء، وإساءة استخدام المعلومات في سجلات الدولة، وتضارب المصالح الشخصية والعامة، وتزوير الوثائق الرسمية وغيرها كثير.

ردود عالمية

وإدراكاً للنتائج السيئة للفساد نرى اتجاهاً عالمياً قوياً للحد منه، وإنقاذ المجتمعات من عواقبه الوخيمة. البنك الدولي أعاد النظر في سياسة الإقراض. الأمم المتحدة دعت إلى مؤتمرات عالمية لمعالجة المشكلة. الدول النامية في أمريكا اللاتينية وفي آسيا وفي إفريقيا التقت لتحدد أسس السلوكيات في المؤسسات العامة، ولوضع قواعد الأخلاق (Codes of Ethics) التي يجب الامتثال بها ممن يعملون في الدولة.

في عام 1997، في قرار للجمعية العمومية للأمم المتحدة، أكّدت الأمم المتحدة تعهدها لمجابهة مشكلة الفساد، ودعت لاعتماد قواعد محددة لسلوكيات المسئولين في القطاع العام، وقد تبع هذه اجتماعات (2003 و2005) كانت نتيجتها اتفاقية عامة لمكافحة الفساد بمراقبة الأمم المتحدة للتنفيذ.

وفي ديسمبر 1997 انعقد مؤتمر القمة للدول الأمريكية شمالها وجنوبها في ميامي (فلوريدا) ليتناقشوا في موضوع الفساد. وكانت النتيجة أن اتفقت أغلبية هذه الدول (43 دولة) على ما سمي فيما بعد أول اتفاق دولي لقمع الفساد. لقد تعهد هؤلاء الرؤساء بمحاربة السرقة لأموال الدولة وبذل جميع الجهود للدفاع عن نزاهة القرارات الحكومية. ومما هو جدير بالذكر أن حوالي 12 من هؤلاء القادة خسروا مناصبهم وبعضهم حكم عليهم بالسجن إلى بلادهم بتهمة الفساد خلال 15 عاماً بعد التوقيع على اتفاقية محاربة الفساد.

في عام 2001، في سيول، كوريا، قرر المؤتمر الدولي بإشراف الدائرة الاقتصادية والاجتماعية للأمم المتحدة التركيز على مكافحة الفساد في إدارة البلديات، والتأكيد على سلوك أخلاقي من قبل المسئولين الإداريين باتخاذ إجراءات عدة تخدم هذه الغاية - مكافحة الفساد - وتشمل هذه الإجراءات الشفافية، وتشجيع الشراكة بين القطاعين العام والخاص في تشجيع المشاريع التنموية، واعتماد الروادع الواضحة للسلوك غير الأخلاقي.

وبتحفيز من الأمم المتحدة تمكنت الدول الإفريقية عام 2001 من التوصل إلى اتفاق بينها لزيادة الاهتمام بمكافحة الفساد والدعوة إلى مستويات أخلاقية لائقة بالقرارات العامة مع التأكيد على الشفافية والمساءلة في الأعمال الحكومية.

العالم العربي والتراث

كما قلنا، الأخلاق مرتبطة بالمحيط الذي يعمل فيه الإنسان. وخاصة التربية العائلية، التعليمات والإرشادات الدينية، التعليم المدرسي، المخالطة والمعاشرة مع الأصدقاء والمواطنين وهكذا.

التراث العربي والإسلامي غني بالقيم الفاضلة وثري بالمبادئ السامية التي ترفع المستوى الأخلاقي في المجتمع. وأي مطالعة ولو عابرة يجد الباحث تراثاً غنياً بالقيم الرفيعة وسعياً حثيثاً لاتباع «الصراط المستقيم» والابتعاد عن المنكر، حيث لا نستطيع في مثل هذا البحث العام والسريع مراجعة العديد من الآيات الكريمة التي تدعو إلى العدالة والاستقامة والنزاهة.

وبالإضافة إلى الثقافة الدينية، نجد السلوك الأخلاقي وقيم الصدق والعدالة تحتل مكانة عالية في التراث العربي، والحكم العربي والبحث الحثيث عن الحياة المثلى في المجتمع من مدينة الفارابي الفاصلة، إلى حسبة بن تيمية العادلة إلى الأدب والشعر الحديث. لابد أن قارئ «العربي» مطّلع على ما قاله أمير الشعراء «أحمد شوقي»:

وليس بعامر بنيان قوم
إذا أخلاقهم كانت خرابا

وقال أيضاً:

وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت
فإن هُم ذهبت أخلاقهم ذهبوا

تختلف الدول العربية الحديثة في الكفاءات والمستويات الإدارية. وتختلف أيضاً في مستويات السلوكيات الأخلاقية في أجهزتها الإدارية والسياسية، وكمثال نورد مقياس «الشفافية الدولية» للعام الفائت (2008)، حيث احتلت ثلاث دول عربية أدنى مرتبات السلم الذي يقيس الانطباع العام عن الفساد عالمياً. واحتلت 12 دولة عربية النصف الأدنى من المقياس الذي يقيم 180 دولة. هذا وإننا لا نجد دولة عربية بين أعلى 25 دولة على هذا المقياس بين أكثر الدول نزاهة أو أقلها فساداً.

وبما أن الاهتمام الحالي بالبناء والتنمية والتحديث يركز على عبارات ومفاهيم عدة، منها ما يتعلق بالاقتصاد ومنها ما يتناول التعليم والمواصلات والصحة العامة وما شابه، نجد من الضرورة لعمليات التنمية في المجتمع العربي أن تعطي مكافحة الفساد ونشر السلوك الأخلاقي ومؤسسة القيم العربية الأصيلة ما تستحقه من الاهتمام في جميع عمليات الإصلاح والتطوير عن طريق استراتيجية واضحة ومتكاملة وتحتوي بعض أو كل العناصر التالية:

1 - تحديد وصياغة قواعد ومبادئ أخلاق العمل في جميع مؤسسات الدولة على أسس وأفكار مشتركة للعالم العربي ونشرها في ميثاق أخلاق قومي (Code of Ethics).

2 - مشاركة الأمم المتحدة والقواسم السلوكية العالمية واطلاعها على القيم والمبادئ العربية والإسلامية الأصيلة ولتبادل المعلومات معها.

3 - تفعيل التركيبات المسئولة عن المراقبة والتحقيق والتنفيذ للمبادئ الأخلاقية في كل بلد عربي، بل في الوطن العربي الكبير أيضاً. هنا نجد مبدأ الشفافية مثلاً وتحديد ظاهرة المساءلة لكل مسئول (Accountability)، ووضع قواعد أخلاقية واضحة ستكون خطوات أساسية.

4 - تنمية الأخلاق هي أيضاً عملية تربوية وتعليمية، ولذا يجب إضافة موضوع الأخلاق للمناهج المدرسية على جميع المستويات واختيار أساتذة ومدرسين مؤهلين في هذا الميدان.

5 - تشجيع الصحافة المحققة (Investigative Reporting) من قبل صحفيين يتمتعون بالمقدرة الذهنية وبالموضوعية والنزاهة المهنية.

هذه أجزاء من استراتيجية شاملة للتنمية الأخلاقية ومقاومة الفساد في دوائر الدولة وفي القطاع الخاص أيضا.

إن هنالك الكثير من النشاط الفردي في العالم العربي للحد من الفساد. المطلوب هو وضع استراتيجية واضحة وصريحة تُمثل القيم العربية الأصيلة وتمنع اعتبار المصلحة الفردية لأي مسئول فوق المصلحة العامة، وتحرم على أي موظف في الدولة التصرّف بأموال الخزينة لمنفعة شخصية وما شابه. الخطوة التالية هي تفعيل عمليات التنفيذ التربوية منها التي تشكّل البنية التحتية للمجتمع، ثم الإدارية والقضائية، التي تتولى مسئولية التحقيق العادل والصارم في آن واحد. وبعد هذا ربط ما تقوم به الدول كأفراد بسياسة عامة تربط تعهدات الدول العربية بميثاق عام يشمل جميع الدول العربية، ويشارك في التراث الإنساني العالمي الساعي لبناء المجتمع المدني المرتبط بقيم إنسانية تسعى إليها الأمم المتحدة والمجتمعات الأخرى.

هذه الخطوات بالإضافة إلى رفع قدرات الموظفين في ميدان تطبيق المبادئ الأخلاقية عن طريق التدريب والتثقيف والقيادة الملتزمة بالمصلحة العامة أصبحت جميعها أساسية ولا يمكن تحاشيها. التقدم الاقتصادي والعمراني لا يغني عن تقدم المجتمع على سلم النزاهة والعدالة والالتزام بالمسئولية.

 

 

 

جميل جريسات