التأثير الإسلامي على الفكر الديني اليهودي.. فرقة القرائين

التأثير الإسلامي على الفكر الديني اليهودي.. فرقة القرائين

ينضوي موقف المسلمين من اليهود في البلاد الإسلامية تحت الموقف الإسلامي العام من «الآخر» الديني، أي أن اليهود من الناحية القانونية قد عوملوا باعتبارهم من «أهل الذمة», وهو الوضع القانوني للرعايا غير المسلمين في الدولة الإسلامية آنذاك.

ومن الناحية العملية, كان لأهل الذمة أن ينظموا الشئون الداخلية لجماعاتهم بالكيفية التي تلائمهم؛ فإذا لجأوا إلى حاكم مسلم كان عليهم أن ينصاعوا لحكمه وفقا للشريعة الإسلامية.

وإذا كانت السطور السابقة قد حددت الإطار العام الذي استقر فيه الوضع القانوني لأهل الذمة- ومنهم اليهود بطبيعة الحال- في ظل الحضارة العربية الإسلامية، فإننا ينبغى أن نضع في اعتبارنا أن نصوص التشريعات والقوانين لا تصنع حركة التاريخ الذي تصنعها الفعاليات البشرية على المستوى الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والسياسي على أرض الواقع الذي يعيشه الناس في حياتهم اليومية. ذلك أن القوانين والتشريعات تنشد الحال المثلى التي يجب أن تكون عليها الأمور، ولكن الواقع التاريخي له منطق آخر تحكمه الحقائق لا التصورات. ومن هذا المنطلق نجد أن أوضاع اليهود في ظل الحضارة العربية الإسلامية كانت محكومة بحقائق التاريخ أكثر من نصوص الفقهاء. ومن ناحية أخرى, فإن الجوانب المتعددة لأوضاع اليهود في ظل الحضارة العربية الإسلامية تشير بوضوح إلى الحقيقة القائلة إنهم كانوا جزءاً عضوياً من الكل الحضاري.

وقد أتاح هذا الموقف التفاعل المتبادل بين المسلمين وغير المسلمين في المجتمعات الإسلامية المختلفة، باعتبار ذلك نموذجا للحوار الثقافى داخل إطار الحضارة الواحدة. ومن الثابت تاريخيا أن اليهود في ظل الحضارة العربية الإسلامية لم يعيشوا في جيتو اجتماعي، أو سكني، أو حرفي، أو ثقافي: وهو ما أتاح لهم أن يؤثروا في المجتمعات الإسلامية ويتأثروا بها.

ومنذ فتح المسلمون المنطقة الواقعة على الشواطىء الشرقية والجنوبية للبحر المتوسط، وعلى شواطىء البحر الأحمر وساحل الخليج العربي, بدأت مرحلة جديدة في تاريخ الجماعات اليهودية في تلك المناطق على كل المستويات. ونتيجة للموقف الذي اتخذه المسلمون تجاههم, حسبما جاء في السطور السابقة, تمكن اليهود من تنظيم جماعاتهم بشكل مستقل وصار لهم رئيس يتولى أمور الطائفة. ويذكر بعض المؤرخين أن الخليفة عمر بن الخطاب منح رئيس اليهود في العراق لقب «رأس الجالوت» وجعل له سلطة إدارة شئون اليهود في الدولة الإسلامية.

اليهود في الأندلس

وفي مصر والأندلس كان الفتح الإسلامي فاتحة خير بالنسبة لليهود، فقد كانوا أقلية منبوذة مضطهدة تحت حكم الفيزيقوط في إسبانيا قبل الفتح، كما كانوا أقلية منبوذة أيضاً تحت الحكم البيزنطي في مصر. وبعد الفتح تحسنت أحوالهم كثيراً.

ويصدق هذا الكلام, بشكل عام, على اليهود في العالم الإسلامي كله. فالثابت تاريخياً أنه في غضون القرون الثلاثة الأولى بعد الإسلام جاءت جماعات يهودية كثيرة لتسكن المنطقة العربية لأسباب تتعلق بالمعاملة القانونية والسياسية، التي عوملوا بها من ناحية, وبسبب إمكاناتها وموقعها في عالم ذلك الزمان من ناحية أخرى. وقد استقر منهم عدد كبير في مصر. ومن الأمور المثيرة للانتباه في هذا الصدد أن عدداً كبيراً من يهود فلسطين آنذاك قد هاجروا من فلسطين إلى مصر هربا من «... المجرمين ذوي الشعر الرمادي...». لقد كان موقف الإسلام من «الآخر الديني» وراء هذه الظاهرة إذ إن التسهيلات التي وفرتها البلاد الإسلامية؛ باتساعها الجغرافي الشاسع، وإمكاناتها الاقتصادية الهائلة، والأجناس والثقافات المتنوعة التي ضمتها في رحابها, كما وفرت فرصا لم يسبق لها مثيل للمشاركة الاجتماعية والتجارية والثقافية من ناحية، كما تقبلهم المسلمون باعتبارهم من رعايا الدولة الإسلامية من ناحية أخرى. وكان التفاعل على جميع المستويات بين الجانبين. وكان نتاج هذا الموقف أن مارس اليهود حياتهم باعتبارهم من رعايا الدولة, لا باعتبارهم غرباء, بحيث استطاع علماؤهم أن ينتجوا الفكر الديني الذي أعاد الحيوية إلى الديانة اليهودية بعد طول ركود، وبالشكل الذي جعل المتخصصين يطلقون على هذه الفترة من تاريخ الفكر الديني اليهودي في المنطقة العربية اسم «العصر الجاؤوني» أو «عصر الجاؤونيم»، أي العباقرة والمجددين بفعل تأثير الحيوية الثقافية والفكرية التي اتسمت بها البيئة الفكرية في العالم الإسلامي عامة, والعراق خاصة, وطوال تلك الفترة أخذ المفكرون اليهود يتجهون إلى التعمق في الأمور الفلسفية لاسيما فيما يتعلق بالمعتقدات الدينية. ويرى كثير من الباحثين أن السبب في هذا كان راجعا إلى تأثير المفكرين المسلمين، وإطلاع اليهود على النتاج الفكري العربي الغزير في مجال الدين, والأدب, والفلسفة، بفضل الحوار الثقافي الذي تجلى في كثرة مجالس الأدب والفكر في قصور الخلفاء والأمراء. ومن ناحية أخرى, كانت نشأة الفرق المذهبية الإسلامية، التي كانت بدورها نتاجا لجو الحوار والجدل الفكري والثقافي، وراء ظهور بعض الفرق المذهبية اليهودية, وتطور الفكر الديني لدى البعض الآخر.

فرقة القرائين

والمثال الذي نقدمه في هذه الدراسة هو فرقة «القرائين» اليهودية، ثانية الفرق اليهودية من حيث عدد أتباعها, وذات الأهمية الكبرى في تاريخ الفكر الديني اليهودي عامة. ويرى بعض الباحثين أن هذه الفرقة ترجع في الأصل إلى أنها لا تؤمن إلا بالتوراة ولا تؤمن بالمرويات الشفاهية التي يتضمنها التلمود. وقد رفضت هذه الفرقة الروايات الشفوية الواردة في المشناه والتلمود.

ومن الراجح أن هذه الفرقة كانت نتيجة مباشرة للتأثيرالإسلامى، أو على الأقل طورت أفكارها ومذهبها نتيجة لهذا التأثير. إذ يرجع بعض الباحثين أصل هذه الفرقة إلى النصف الثاني من القرن الثاني الهجري -الثامن الميلادي- عندما مات الحاخام الأكبر في العراق, والذي كان هو المسئول عن الحفاظ على التلمود بحكم منصبه, دون أن يخلف من ذريته من يتولى منصبه. وكان أحق المرشحين لتولي المنصب حسب التقاليد اليهودية لمنصب رأس الجالوت ابن أخيه «عانان بن داود» الذي كان متأثرا بالفكر الإسلامي المعتزلي، والذي عرف بميوله التحررية. وقد أدى هذا إلى معارضة اليهود المحافظين له، مما جعل المنصب يتخطاه إلى أخيه الأصغر «حنانيا». وقد نتج عن هذا فتنة بين أنصار كل من الأخوين. وحاول أنصار عانان أن يستنجدوا بالخليفة العباسي أبى جعفر المنصور, لكى يفرضه رئيسا على اليهود ولكن الخليفة آثر ترك المسألة لليهود لكي يحلوها فيما بينهم. وبعد عدة تطورات دعا عانان بن داود إلى مذهب يهودي جديد.

ولما كان العراق في هذه الفترة يموج بتيارات حية من الحوار الفكري والتفاعل الثقافي, ويشهد ظهور العديد من الفرق والمذاهب الفلسفية والدينية, فقد تأثر اليهود بهذه الأجواء الثقافية الحيوية، وتأثر بعضهم بفكر المعتزلة وأصحاب علم الكلام من المسلمين، فأخذوا في نقد تعاليم الربانيين وتوجيه انتقاداتهم لتعاليم التلمود وأحكامه. وكان على رأس هذه الحركة ثلاثة من أحبار اليهود في العراق هم: إفرايم, وأليشع المعلم, وحنوكة. ووجد هؤلاء الثلاثة في حركة عانان بن داود، والنزاع الذي نشب بينه وبين أخيه الأصغر حنانيا فرصتهم بسبب ما كان عانان يتمتع به من نفوذ ومكانة كبيرة بين اليهود آنذاك، ونصبوه رئيسا لحركتهم. ومنذ ذلك الحين عرفوا باسم «القرائين».

ومن الواضح أن عانان وأتباعه تأثروا كثيرا بموقف المعتزلة فيما يتعلق بعدم الأخذ بالحديث والتحرج من اعتباره مصدراً أساسياً من مصادر التشريع الإسلامي. وهنا يبدو واضحا أن عانان بن داود وفرقته قد تأثروا تماما بموقف المعتزلة، إذ كان الأمر واضحاً أمام عانان والقرائين تجاه المرويات الشفاهية التي يحويها التلمود. وقد عزز موقف عانان أن هذه المرويات الشفاهية الأصل التي يحويها التلمود لاتتصل بسند يرفعها إلى النبي موسى عليه السلام أو من جاء بعده من أنبياء بني إسرائيل. ومن ناحية أخرى, كان عانان بن داود عارفاً بالتلمود والكتابات القديمة التي عارضته, كما كان عارفا بالإنجيل والقرآن الكريم. ولا غرابة في ذلك فقد كان الرجل ابنا للثقافة العربية الإسلامية في التحليل الأخير.

وهناك من ذكر أن أصل فرقة اليهود القرائين يعود إلى فترة سابقة على ظهور الإسلام، وقبل ميلاد المسيح. وفي رأيه أن عانان قد تأثر بالمسلمين في عدد من المسائل الدينية: مثل رد القرائين إلى الاعتماد على الهلال في تحديد مواسمهم وأعيادهم مما زاد في تباعدهم عن الربانيين، فقد منع الأحبار الزواج فيما بين الفريقين. ولكن الدور الذي قام به عانان بن داود على الرغم من أهميته لم يكن الدور الأول في الانقسام التاريخي بين اليهود الربانيين واليهود القرائين؛ وإنما جاء متمما له، ويؤكد المؤرخ تقي الدين المقريزي هذه الحقيقة بقوله إن العانانية فرقة أخرى غير القرائين الذين أرجع تاريخهم إلى فترة سابقة.

هنا نجد المقريزي يؤكد وجهة نظر الباحثين والمؤرخين القرائين، بيد أنه يكشف أيضا عن مدى التأثير الإسلامي على هذه الفرقة اليهودية. ويبدو أن القرائين والعانانية قد اندمجوا في كيان واحد بعد موت عانان.

وعلى الرغم من أن بداية القرائين كانت في العراق, فإن عصرهم الذهبي كان في فلسطين ومصر إبان العصر الفاطمي خلال (القرنين الرابع والخامس الهجريين/العاشر والحادي عشر الميلاديين). ومن المناسب أن نشير هنا إلى أوضاع اليهود في ظل هذه الدولة تغيرت بشكل جذري حيث صارت لهم رئاسة مستقلة عن رئاسة العراق. ومن ناحية أخرى اشتد الصراع بين الربانيين واليهود القرائين على المستوى الديني وأعلن أحبار طائفة منهما تكفير الأخرى ونجاستها وحرمانها من رحمة الله، ومنعوا الصلاة في معابد كل منهما الأخرى. ولكن رئيس اليهود في مصر كان من اليهود الربانيين منذ العصر الفاطمي حتى نهاية عصر سلاطين المماليك على أقل تقدير. لكن الدولة كانت تعتبر رئيس اليهود من بين موظفيها الرسميين الذين تحاسبهم إذا ما فشلوا في القيام بواجبهم، حسبما تكشف الوثائق التي حفظتها المصادر التاريخية.

وقد انتقل مركز الثقل عند اليهود القرائين إلى مصر منذ ذلك الحين فصاعدا.

بين القرائين والربانيين

وإذا كنا قد أوردنا الحديث عن القرائين باعتبارهم مثالا على التأثير الإسلامي في المذاهب اليهودية, فإن ظهور هذه الفرقة نفسها أشعل نوعا من المنافسة والجدل بين القرائين والربانيين كان بدوره انعكاسا للجدل بين الفرق الإسلامية المختلفة من جهة ,كما أن اليهود من الجانبين، استخدموا مناهج التفسير الإسلامية في خضم هذا الجدل من ناحية أخرى. فقد ظهر في مجتمع القرائين مدارس قوية هاجمت الربانيين بعنف, ورد عليهم الربانيون بالعنف نفسه. وفى غمار هذا الجدل تجلى أثر العلوم الإسلامية واضحا على الفكر الديني اليهودي «... وقد عظم هذا التأثير أولاً وقبل كل شيء في ميدان الفكر الديني والنظر الفلسفي...» و«... من الناحية الشكلية اتخذ اليهود لأنفسهم مناهج العرب العلمية في فروع الدين، والأخلاقيات, والنحو، وتفسير الكتاب المقدس. بل حتى في ميدان الشريعة...» لقد جاء التأثير الإسلامي في العبادات اليهودية نفسه عن طريقين: أولا - إدخال عادات خاصة بالعبادة في الإسلام لم تكن لها جذور في التراث الدينى اليهودى. ثانياً - إحياء عادات يهودية قديمة كانت قد اندثرت ثم عادت بتأثير الدين الإسلامي. ومن أهم العادات التي تنتمي إلى المجموعة الأولى أن اليهود «... اقتبسوا سائر أركان الوضوء ,نحو غسل الذراعين وما وراء الأذنين ومسح الرأس والاستنشاق...», فضلا عن غسل الرجلين قبل الصلاة عن المسلمين .ومن العادات اليهودية القديمة التي عادت من خلال الإصلاحات التي أدخلها الربانيون بتأثير البيئة الإسلامية المحيطة بهم «... السجود والجلوس على هيئة البارك، واستقبال القبلة وقت الجلوس, ووقوف المصلين في صفوف, وبسط اليدين... وقد نقلت من المسجد إلى الكنيس...».

ومن ناحية أخرى, فإن البيئة الفكرية والعلمية التي تميزت بالخصوبة والحيوية, والتي عرفها العالم الإسلامى بداية من القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي، واستمرت عدة قرون بعد ذلك ,قد تركت آثارها الإيجابية على النتاج الفكري الدينى لليهود في شتى أرجاء العالم الإسلامي. ولدينا مثالان بارزان على التأثير الإسلامي في ميدان التفسير والشريعة اليهودية نفسها هما: «سعديا سعيد بن يوسف الفيومي» المصري الأصل و«موسى بن ميمون» الأندلسي الأصل.

سعديا الفيومي

وقد نشأ سعديا الفيومي في مدينة الفيوم بمصر كما يتضح من نسبة اسمه, وكان مولده بها سنة 882 ميلادية وامتدت حياته حوالي ستين سنة. ويرجح كثير من الباحثين أن يكون سعديا الفيومي قد درس العلوم الإسلامية إلى جانب اللغة العربية، فضلا عن التراث الديني اليهودي الذي استوعبه جيدا. والدليل على هذا أن سعديا الفيومي كتب الكثير من مؤلفاته باللغة العربية، وإن كان بعضها قد كتب بحروف عبرية اصطلح الباحثون حديثا على تسميتها «اليهودية العربية». وفي تصورنا أن اللغة العربية التي استخدمها اليهود آنذاك كانت واحدة من تجليات الحقيقة القائلة إن اليهود كانوا جزءا عضويا في محيط الثقافة العربية الواسع، ومن ثم فإنهم تخلوا عن اللغة الآرامية واللغة العبرية، واتخذوا اللغة العربية لغة للكتابة والإبداع الأدبي والفكري. ومن الواضح أن اللغة العربية كانت بالنسبة لهم لغة الحياة اليومية ولغة العلم والثقافة على حد سواء، ولذلك كان لابد لمن يريد لكتابته الانتشار أن يكتب باللغة العربية. أما اليهودية العربية, فكانت مرتبطة بتراث الدين اليهودي إلى حد بعيد.

ومن الثابت أن «سعديا الفيومي» غادر مصر صوب بغداد عن طريق فلسطين، حيث قابل المؤرخ المسلم والمفسر ابن كثير. ومن بلاد الشام توجه إلى العراق، حيث كان النزاع محتدما بين القرائين والربانيين. وعلى الرغم من اتساع شقة الخلاف بينهم لم يتدخل الخليفة. ولما كان سعديا الفيومي من اليهود الربانيين فقد آلى على نفسه أن يدافع عن مذهبهم في مواجهة هجوم القرائين، مستخدما منهج المتكلمين المسلمين, كما كان تأثير أعمال علماء اللغة العرب عليه واضحا من ناحية ثانية. وقد اتضح هذا التأثير في المقدمة التي كتبها لكتابه الذي يحمل عنوان «الشعر العبراني» والذي كتبه بالعربية.

وقد عمل سعديا على ترجمة أسفار العهد القديم إلى اللغة العربية لخدمة اليهود في العالم العربى, والذين لم يكن أغلبهم يعرف العبرية أو الآرامية. وعكست المقدمات التي كتبها لهذه الترجمات مدى الأثر الإسلامي في فكره ومعلوماته. وقد تأثر سعديا أيضا بعلم الأخلاق لدى طائفة المعتزلة المسلمين. ولأن الرجل عاش في فترة شهدت تراكما كميا هائلا وتحولا نوعيا في نتاج علم التفسير عند المسلمين, وكان شطراً كبيراً من هذا النتاج قائماً على قواعد النحو والمنطق، فإن الدارسين المتخصصين يلمسون أثر هذا بوضوح في كتاباته «... وليس هذا فحسب, بل إنه بفحص المصادر الإسلامية أيضاً يمكن تتمة أجزاء الجنيزا الناقصة بسبب الطمس والفراغات الموجودة في وثائق الجنيزا ...». إن اليهود أتباع دين وليسوا مجموعة عرقية أو قومية، وهو ما يعني أيضا أن مفكريهم حتى الذين تفرغوا للأمور الدينية كانوا أبناء بيتهم شأنهم في ذلك شأن المسلمين والنصارى. ومن ناحية أخرى لم يكن سعديا الفيومي مثلا وحيدا أو فلتة شاذة بين اليهود آنذاك، ولكنه كان مثلا متكررا حسبما تشهد المصادر التاريخية والتراث الذي وصلنا من تلك العصور بشكل عام.

موسى بن ميمون

ومن الأمثلة البارزة على ما ذكرناه الطبيب والفيلسوف اليهودى «موسى بن ميمون» الذي ولد بقرطبة في بلاد الأندلس سنة 1135م، وعاش حياة حافلة بين الأندلس والمغرب وفلسطين ومصر التي مات بها سنة 605 هجرية (1204م) ودفن بالقرب من بحيرة طبرية في فلسطين حسب وصيته. ويرى الباحثون اليهود الربانيون أن الرجل كان «... الشخصية الفكرية البارزة في تاريخ الفكر اليهودي في العصور الوسطى....» وكان ابن ميمون قد اضطر إلى إعلان إسلامه.وعندما لاحت الفرصة أمام ابن ميمون للهروب هرب سنة 1148م، وبعد فترة من التجوال جاء إلى مصر سنة 1165 م، أي في السنوات الأخيرة من عمر الدولة الفاطمية.

وفي الفسطاط أفاد من ثروة أخيه ليتفرغ لدراسة الشرائع اليهودية. وعاش في الفسطاط التي كانت لاتزال العاصمة الحقيقية لمصر، على حين كانت القاهرة لاتزال مقر الحكم وعندما سقطت الدولة الفاطمية, صار صلاح الدين الأيوبي صاحب السلطة في مصر. وتم تعيين ابن ميمون طبيبا في البلاط, وسمح له السلطان بالرجوع الى اليهودية وقرر له القاضي الفاضل، وزير صلاح الدين، راتبا يعيش منه «... فكان يشارك الأطباء, ولا ينفرد برأيه لقلة مشاركته...»، ويقول ابن العبري إنه كان عارفا بشريعة اليهود, عارفا أسرارها وصنف شرحا للتلمود, كما صنف كتابا في شريعة اليهود سماه دلالة الحائرين أو «الدلالة»، وكان بعض اليهود يرونه جيدا على حين كان البعض الآخر يرونه سيئا، بل إن بعض اليهود في المناطق التي احتلها الصليبيون، مثل أنطاكية وطرابلس كانوا يكفرون موسى بن ميمون بسبب هذا الكتاب. ومن الواضح أن تأثير هذا الكتاب على اليهود الربانيين في مصر كان عميقا لأن المقريزى (عاش في القرن الخامس عشر الميلادى) كتب: «...ولذلك لما نبغ فيهم موسى بن ميمون القرطبى عولوا على رأيه, وعملوا بما في كتاب الدلالة, وغيره من كتبه, وهم على رأيه إلى زماننا...».

وفي كتاباته يكشف موسى بن ميمون عن مدى تأثير الفكر الإسلامى مرة أخرى على الفكر الدينى اليهودي، فقد كان عربي اللسان بطبيعة الحال, ومن الواضح في أعماله أنه كان متأثرا بعلم التوحيد وعلم الكلام عند المسلمين، وهو ما انعكس على مؤلفاته عن العقائد اليهودية التي وردت في شروحه للجزء الرابع من المشناه مثلا. كما أنه تأثر بالموقف الوسطي للأشاعرة (بين المعتزلة الذين قالوا بحرية الإنسان الذي يخلق أفعاله وموقف الجبرية الذين قالوا إن الإنسان مسير لا مخير).

ومثلما يصدق هذا على موسى بن ميمون وسعديا الفيومي من قبله، يصدق على جميع المفكرين والأطباء الشعراء اليهود الذين عاشوا في ظل الحضارة العربية الإسلامية، فقد أتاحت لهم الفرصة لإظهار مواهبهم في خدمة الجماعة اليهودية من ناحية، وخدمة المجتمعات الأوسع في بلدان العالم الإسلامي من ناحية أخرى.

وتنسحب هذه الحقيقة أيضاً على اليهود في كل المجتمعات الإسلامية في تلك العصور. وإذا نظرنا إلى الحالة الأندلسية، مثلا, وجدنا هذه الحقيقة واضحة جلية، حيث عاش اليهود باعتبارهم رعايا داخل الإطار العام للبيئة الأندلسية، وكانت هناك مراكز للفكر الديني اليهودي في المدن الأندلسية الكبرى. ولعل التأثير العربي على الشعر اليهودي في تلك البلاد آنذاك يكشف عن هذه الحقيقة بقدر ما يجسدها.

***

والخلاصة أن التفاعل بين اليهود والمسلمين في إطار الحضارة العربية الإسلامية كان تفاعل حياة تلقائيا بين رعايا يعيشون في إطار سياسي واحد على أرض واحدة دون تدخل من طرف خارجي يزعم لنفسه حق تمثيل فئة دون الفئات الأخرى، ويمارس هذه الوصاية القسرية على نحو ما تفعل الدولة الصهيونية الآن. ومن هنا فإن وجود هذا الكيان العنصري العدواني تسبب في الحيلولة دون التفاعل الإيجابي على أساس من التعاون الإنساني والاعتماد المتبادل بين الطرفين، مثلما كان الحال قبل ظهور الكيان الصهيوني بخصائصه العدوانية التي خلقت ذاكرة تاريخية تصطبغ بالدماء بين العرب مسلمين ومسيحيين من ناحية, وبين اليهود الذين تحتكر الدولة العنصرية العدوانية، التحدث باسمهم من ناحية أخرى.

 

 

 

قاسم عبده قاسم