البرتغال من عصر الاكتشافات إلى زمن العزلة

البرتغال من عصر الاكتشافات إلى زمن العزلة

وقعت في غرام "الترامات" القديمة منذ النظرة الأولى وهي تسير مجلجلة بأجراسها الخفية وسط الشوارع التي لاتكف عن الارتفاع أو الهبوط, لقد بدأت الترامات في الانقراض في معظم المدن الكبرى وأخذت الأتوبيسات الكئيبة التي لاينبعث منها أي أنغام تحل محلها, ولكن لحسن حظي كانت لشبونة حافلة بعدد كبير منها, أخذت أتقافز من واحد إلى آخر تاركا لها عناني لتأخذني إلى أي اتجاه, وكعادة الترامات فإن كل شيء يجب أن يتم في تمهل, من الذي يحتاج إلى السرعة على أي حال, وبرغم ذلك فقد وقعت في غرام ترام رقم 28 وأصبح أحب ترامات لشبونة إلى قلبي, إنه يتجه دوما بعد العديد من الالتفافات والانحناءات إلى الجزء القديم في المدينة فيكشف لك عن سحر القرون الخفي الذي لم تطله يد التحديث, خشب وملاط وقرميد وكساءات من الفسيفساء كأن المدينة تحلم في وضح النهار, ومن الميدان التجاري أو باركا دي كومورشيو حيث ينتصب التمثال البرونزي لجواد أسود يمتطيه الملك جوز الأول, تبدأ رحلة الحنين إلى قرن خلا من الزمن, من نهر التاج الذي يفتح قلب المدينة على الأطلنطي ليذكرك بأن البرتغال قد اجتازت هذا الطريق ذات يوم حتى تبني مملكة شاسعة خلف البحار, ولشبونة التي نراها من خلال نوافذ الترام تعود في بنائها فقط إلى عام 1755 لأن المدينة الأقدم عنها قد طواها الزلزال المدمر, وفي هذا الوقت وبرغم أن الوباء قد التهم العديد من السكان برزت عزيمة الماركيز دي بومبال رئيس الوزراء الذي أعاد إنشاء المدينة من جديد ومازالت تحمل اسمه وطابعه حتى الآن.

البرتغال من عصر الاكتشافات إلى زمن العزلة

ندخل إلى مدينة بومبال عبر بوابة ضخمة تفصلها عن النهر والميناء, في المركز تمتد ثلاثة من الشوارع المتوازية شارع الذهب وشارع الفضة وشارع الماس, إشارة واضحة لكل الثروات التي تدفقت على هذه المدينة من العالم الجديد وتمتد المدينة تحت قضبان الترام الذي يحملنا إلى جزئيها, الجزء السفلي منها حيث حارات الصيادين والحرفيين والجزء العلوي الذي بني فوق تلال سبعة.

"البياكسا" أو الجزء السفلي من المدينة يتكون من الشوارع الواسعة تحيط بها من الجانبين منازل تنتمي إلى طراز عصر النهضة مزينة بلوحات من الفسيفساء يغلب عليها اللونان الأبيض والأزرق, بقايا التأثيرات الأندلسية التي لاتخفى, وحي "الروسو" هو قلب المدينة القديمة ممتلئ بباعة الأزهار وموزعي أوراق اليانصيب والعديد من المهاجرين الإفريقيين جاءوا من بلادهم ليعيشوا على الأرصفة وليجربوا الضياع في شوارع البلد الذي احتلهم ذات يوم, هناك أيضا أكثر من شارع مغلق أمام السيارات وهي فرصة طيبة للمقاهي حتى تنشر مقاعدها ومظلاتها وللفنانين الذين يرتزقون من رسم وجوه المارة وللممثلين الهزليين الذين يؤدون استعراضاتهم وللغجر الذين يتسولون بواسطة عزف الموسيقى.

الترام لايهدأ.. يخترق شوارع "الافاما" الضيقة وبيوتها القديمة حيث تتعالى صيحات النساء مختلطة بروائح السمك الطازج الخارج لتوه من نهر التاج, ثم نبدأ الصعود فوق التلال ثم على الأقدام إلى قلعة "ساوجور" حيث يمكنك رؤية لشبونة كلها في لمحة واحدة, تتشابك أطراف الماضي والحاضر في هذا المكان مثلما تتشابك ضفاف نهر التاج بواسطة الجسر المعلق الضخم الذي يتفوق في ضخامته على الجسر الشهير في سان فرانسيسكو, القلعة التي نقف عليها تعطينا أيضا هذا الإحساس, فقد بناها الفينيقيون الذين كانوا أول من وصل إلى هذا المكان, ثم بنى الرومان على أنقاضها قلعتهم, ثم جاء عرب الأندلس ووضعوا لمساتهم على تحصيناتها وأخيرا جاء دور ملوك البرتغال.لقد كان الفتح العربي لهذه البقعة من الأرض التي يطلق عليها "شبه جزيرة إيبيريا" علامة فاصلة في تاريخها, فقد حارب العديد من أهل إيبيريا مع العرب أنفسهم ضد حكامهم الغاليين الظلمة وكانت نتيجة الفتح قيام عهد ازدهرت فيه التجارة والثراء, وانشئ فيه العديد من مدارس الطب والرياضيات والهندسة والملاحة والفلسفة والعمارة وعاش المسلمون والنصارى واليهود حياة متكافئة ومتساوية, وجلب عرب الأندلس إلى الجزيرة طرقا جديدة في الزراعة مثل طواحين الذرة والقمح وابتكروا السواقي لرفع المياه من الأنهار إلى الحقول وأدخلوا أنماطا معمارية مميزة وتركوا آثارهم على الموسيقى والطعام وطريقة العيش.

ثم دب الوهن ونخر سوس الصراعات في جسد الأندلس وانهارت ممالكه تباعا في أيدي الأمراء المسيحيين, وكان هنري دوق بورغندي ـ القادم من إحدى المقاطعات الفرنسية ـ واحدا من الذين تم اختيارهم لقيادة الحرب ضد المسلمين. وكمكافأة له على ذلك منحته الملكة إيزابيلا حكم الأراضي التي استولى عليها من نهر "الدورو" حتى نهر "المنهو" وهي المنطقة التي تتوسطها مدينة بورتو وبعد ذلك بسنوات قليلة عندما تولى الملك ألفونسو العرش خلفا لأبيه أعلنها مملكة مستقلة وبدأ في بناء التحصينات لمقاومة حلفاء الأمس من الإسبان, من هذا التاريخ وبعد قتال مضطرب ولدت مملكة البرتغال عام 1174.

لم يسر التاريخ على مجرى عادته في خط مطرد ولكن تناوبت عليه عصور المجد والضعة ولحظات التألق والأفول ولعل أغاني الفادو هي الأصدق في تصوير هذه اللحظات.

لحظات الشجن والذكرى

مقهى مزدحم بالناس, ضبابي بعض الشيء, أحجار الجدار بارزة, تضفي على المكان طابع القلاع التي أولع البرتغاليون ببنائها, تخفت الأصوات عندما يصعد عازف الجيتار النحيل ويبدأ في ضبط أوتار جيتاره المتعددة, يعلو التصفيق الحار عندما تأتي المغنية, لأول وهلة أدهشني منظرها, لم تكن صغيرة, لا في السن ولا الحجم, كانت عريضة الكتفين منتفخة العنق, ربما كانت حنجرتها هي التي تحتل كل هذا الحيز, تساءلت في نفسي. أي نوع من الأصوات يمكن أن يخرج من هذه الحنجرة, توقعت أن يرتج المكان كالزلزال عندما تبدأ الغناء, ولكن لدهشتي خرج صوتها خافتا ناعما, كأنه وتر آخر من أوتار الجيتار, يعلو, ينساب من حولنا ويملأ حيز الفراغ, لا أفهم ماذا تعني الكلمات ولكنني أستمع في دهشة واستغراق, من أين يأتي هذا الحزن الشجي? وكيف تتأتى له تلك القدرة على أن يوقظ كل ما في النفس من ذكريات وأحلام وأسى شفيف, أحسست أنني على وشك البكاء, أنني أود أن أنهض وأنصرف ولكن شيئا أبقاني عاجزا حتى عن التصفيق, كان لاعب الجيتار يهمس إلى الأوتار تاركا الفرصة لحنجرة المغنية بكل ما فيها من شجو إنساني عذب, أفقت قليلا, أخذت أحدق في الوجوه التي تحيط بي, كانوا هم أيضا مشدوهين إلى الصوت وعلامات الشجن مرسومة على وجوههم, كان هذا الغناء جزءا أساسيا من طبيعتهم ومن إيقاع حياتهم, وعلى حد تعبير البروفيسور خوان ريد جريجو أستاذ التاريخ بجامعة لشبونة: "بالطبع "الفادو" تعبير عنا, نحن شعب حزين, هناك إحساس دفين في أعماق كل واحد منا بالظلم, لم نأخذ من التاريخ إلا مكانا في الذيل, لقد تدفق علينا ذهب العالم وبرغم ذلك لم نستفد منه شيئا, ويبدو أن سنوات الاستعمار التي عشناها قد شوهت جزءا داخل نفوسنا".

هذا الشعور بالحزن يتحول أحيانا إلى نوع من الانطواء يجعل أهل البرتغال أحيانا ينظرون إلى الغرباء في عداء, الأمر الذي جعل الزوار لايقبلون بالأعداد الكافية برغم رخص أسعارها ومناظرها الطبيعية الرائعة فابتسامة واحدة تعدل كل ما في الدنيا من أودية وجبال, وجدت نفسي أتساءل: لماذا كنا نكرههم إذن?

أهو أمر يعود إلى التاريخ القديم حين اكتشفوا الطرق البحرية الحديثة وحطموا أسطول المماليك وحولوا طرق التجارة بعيدا عن العالم العربي? أم إلى تاريخ أحدث عندما اقتحمت سفنهم مياه الخليج فأحرقت المدن الزاهرة وأبادت قرى الصيادين الوادعة? أم إلى تاريخ أحدث, عاصره الكثيرون منا حين كانوا يكوون إخوتنا الأفارقة بالحديد والنار ويقاومون ببشاعة وقسوة حركتهم من أجل الاستقلال في أنجولا وموزمبيق?

البرتغاليون يحاولون الآن الابتسام, لقد دخلوا صناعة السياحة ولايريدون الخروج منها. ويختتم البروفيسور حديثه معنا قائلا: "لاتنس أن عمر الديمقراطية في البرتغال لايتجاوز العشرين عاما وهو عمر بالغ القصر بالنسبة لأوربا".

المغنية تجسد في صوتها ثقل هذا التاريخ البرتغالي, ولعل هذا هو سبب ما أثارته هذه الأغنيات في نفسي من مآس وشجن, أنا الشرقي الذي أنوء تحت أعباء التاريخ, فبرغم أن البرتغال دولة صغيرة حتى بالمقاييس الأوربية فإن تركتها التاريخية يمكن مقارنتها بتركة مصر واليونان, لذا فإن أغاني "الفادو" ليست فقط مليئة بالحنين إلى الماضي "النوستالجيا" ولكنها تأخذ تقاليدها الأساسية من موسيقى الغجر الذين ظلوا يتجولون في شبه الجزيرة الإيبيرية منذ مئات السنين, وأخذوا الكثير من إيقاعات الموشحات الأندلسية, وهي تدور دائما ـ كما عرفت فيما بعد ـ حول الاشتياق إلى الوطن وفقدان الحبيب والموت المترصد, وتغنى بمصاحبة جيتار فيه اثنا عشر وترا واسمها مشتق من كلمة "المصير" باللغة البرتغالية.

ولم يعرف أحد عوالج الاشتياق إلى الوطن كما عرفه البرتغاليون, فقبل أن يهيموا في محيطات العالم المجهولة أخذتهم الأمواج في رحلات الصيد الطويلة, ومن يتأمل خريطة البرتغال ير أنها مجرد شريط ضيق من الأرض ظهرها ملتصق في إسبانيا أو بالأحرى ضائع فيها ووجهها للمحيط الأطلنطي وبالتالي ليس لها مهرب إلا إليه ومازال أثر هذا الاشتياق قائما فوق أحجار قلعة "بلم" الصغيرة التي تطل على نقطة التقاء نهر "التاج" بالمحيط الأطلنطي ويعني اسمها قلعة التجارة.

تقع ضاحية "بلم" على بعد 6 كيلو مترات فقط من لشبونة, وهي تعد من أحيائها الراقية المليئة بالخضرة ولكن أهم ما فيها بطبيعة الحال هي معالم عصر الاكتشافات الجغرافية التي قام بها البحارة والقباطنة البرتغاليون وغيروا وجه العالم, والقلعة ـ التي كانت تحت الترميم وقت أن قمنا بزيارتها ـ أقرب ما تكون إلى برج من خمسة طوابق ومكسوة بالفسيفساء ذي اللونين الأبيض والأزرق, بني هذا البرج عام 1515 ومن أمامه قامت كل رحلات الاستكشاف وإليه عادت السفن التي قدر لها أن تعود, وقد تحولت صورة أبراجه العالية في نفوسهم إلى رمز للأشواق والعودة إلى الوطن.

وبرغم ذلك فإن هذه القلعة ليست هي المعلم الرئيسي فالأنظار تتجه كلها إلى تلك الكاتدرائية الضخمة التي بنيت تخليدا لنجاح أشهر بحار برتغالي "فاسكو دا جاما" واكتشافه طريق البهار المؤدي إلى الهند, إنها واحدة من أكبر الكاتدرائيات في العالم, ولابد أنها استهلكت كمية كبيرة من ذهب المستعمرات, ولم يكتف المعماري الفرنسي "ويتاك" الذي قام بتصميمها بذلك الطراز القوطي الرائع بل قام أيضا بتزيينها بأشكال الحبال والعقد والأشرعة وحيوانات البحر الغريبة التي صادفت هذه الرحلة. وبالرغم من كل هذا الاحتفاء فإن قبر فاسكو دا جاما لايتصدر مكانا بارزا بها, بل إن الذي يتصدر الباحة الرئيسية هو قبر "هنري الملاح" الأمير والابن الثالث لملك البرتغال, الذي لم يكن له أمل في اعتلاء العرش فأنشأ المدرسة البحرية التي مهدت لكل هذه الاكتشافات, وهو رغما عن لقبه "الملاح" لم يتجاوز في إبحاره أكثر من نهر التاج الذي يسير في محاذاة "لشبونة", أما قبر المكتشف فيرقد في مكان قصي في أعماق الكنيسة. وفي جزء ملحق بالكاتدرائية يوجد واحد من أروع متاحف العالم وهو متحف البحرية الذي يحتوي على نماذج وقطع أصلية من عصور الاكتشافات.

نفس الشيء نراه في ذلك النصب الذي يشرف على النهر ويقع في مقابل الكاتدرائية الضخمة, وقد صمم على هيئة مقدمة السفينة محفور عليها تماثيل لكل الذين شاركوا في رحلات الاستكشاف يتقدمهم هنري الملاح خلفه يقف فاسكو دا جاما فاتحا كتابه ثم بقية المغامرين والبحارة والقساوسة, أما الساحة الممتدة أمام النصب التذكاري فقد رسم عليها بالفسيفساء خريطة هائلة تمثل العالم كما كانوا يتخيلونه في هذا الوقت.

اكتشاف العالم

ولكن لماذا كان هذا الشغف البرتغالي بالرحيل إلى خلف الأفق? وما الذي دفع هذا الشعب الصغير إلى محاولة اكتشاف العالم الكبير?

تاريخ الإنسان هو سلسلة من الاكتشافات المتواصلة, اكتشافات داخل ذاته واكتشافات في عالمه المجهول الذي يؤرقه دائما وتلك الرغبة المتوقدة في أعماقه لايطفئها إلا الموت, إنها رغبة تسللت إلى أعماق نفوسنا من الإنسان الأول الذي كان دائب البحث عن مناطق غير مطروقة من أجل الصيد والطعام, وحتى وقت قريب ظلت هناك مناطق شاسعة من العالم مجهولة وغير موجودة على الخرائط, بل إن الأجزاء التي كانت معروفة منه لم يكن بينها أي نوع من الترابط المنطقي.

ولكن البرتغاليين قد سبقوا الجميع في هذا المجال لأسباب دينية وسياسية, لقد كانت هذه الاكتشافات بالنسبة لهم هي نوعا من مواصلة الحروب الصليبية التي شعروا بأنهم لم يخوضوها كما ينبغي, وقد جذبت مدرسة هنري الملاح في راس فنسان في الجنوب البحارة من جنوة ورسامي الخرائط من إسبانيا والمشتغلين بالفلك من ألمانيا, وعلماء الرياضة من بادو وفينيسيا وقد ساهموا جميعا في ترسيخ النظرية الحديثة حول كروية الأرض, ولكن الهدف الأول كان الالتفاف حول العالم الإسلامي ومهاجمة سلطان مراكش من الخلف, وكان هذا الأمر حلما مسيحيا قديما منذ أن استولى الإسبان على غرناطة, والسبب الرئيسي وراء دعمهم لرحلة كريستوفر كولمبس, فقد اعتقدوا أنه سوف يكتشف طريقا خفيا إلى آسيا يتيح لهم تطويق بلاد المسلمين, أما الهدف الثاني الذي أخفاه هنري الملاح عن بحارته فهو اعتقاده بوجود مملكة أسطورية في إفريقيا حافلة بالذهب, ففي هذا الوقت من القرن الخامس عشر كانت مناجم الذهب والفضة في أوربا قد استنزفت ولم يعد ما فيها كافيا لمطالبهم المتزايدة. وهكذا انتشرت الأساطير عن الكنوز الخيالية في إفريقيا وآسيا وتكونت لديهم رغبة عارمة للوصول إليها والحصول على هذه الكنوز بأنفسهم. فوق ذلك كله كانوا في حاجة إلى عبيد يعملون في مزارعهم وإلى ألوان يصبغون بها منسوجاتهم وإلى البهار كي يطيب مذاق طعامهم, وإلى العاج والسكر, باختصار كانوا في حاجة إلى كل شيء يملكه الآخرون.

حين أبحرت السفن كانوا يرفعون شعارا مكونا من ثلاث كلمات, الإنجيل والمجد والذهب, وكانوا كما وصفهم سرفانتس مؤلف رواية "دون كيشوت": "كانوا أرواحا قلقة تسعى خلف مشاريع أكبر من طاقتها".

وقد ساهمت الطبيعة إلى حد ما في جعل إسبانيا والبرتغال من أوائل الدول التي قامت بهذه الرحلات الاستكشافية, ففي هذه البقعة يتعاقب الانقلاب في اتجاه الريح ففي الصيف يكون اتجاه الريح مناسبا لبلوغ السفن عرض البحر, وفي الخريف يكون اتجاهها مناسبا لعودتها إلى الشواطىء, وقد فهم ملاحو الجنوب البرتغالي "الجارف" هذه الحقيقة واكتسبوا البراعة في استغلالها, كما أن اعتمادهم على الاتصال بالعالم القديم كان على البحر في المقام الأول, فالبحر خال من العوائق الأرضية, وتوفر أمواجه القوة اللازمة لنقل الأحمال بحوالي 35 ضعفا عنها في البر, كما أنه لاتوجد عوائق ولا مستنقعات ولا جبال أو قطاع طرق يهاجمون القوافل.

كذلك ساعد التطور في صناعة السفن على مواصلة عمليات الاستكشاف, فقد اخترعت السفن ذات الدفة المحورية وابتكر البرتغاليون السفينة ذات الأشرعة المربعة التي تستفيد من الريح التي تهب من الخلف وكذلك الأشرعة المثلثة التي تمكنهم من الاستفادة من الريح المعاكسة.

وفي عام 1487 خرج المستكشف البرتغالي "برتلوميو دياز" في محاولة لاكتشاف طريق بحري يدور حول إفريقيا وبعد عدة أيام من الرحلة دفعته عاصفة عنيفة نحو الطرف الجنوبي من القارة فاكتشف أنه قد أصبح يدور حول إفريقيا متجها إلى الشرق وهكذا تم اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح.

في هذا الوقت تقدم كريستوفر كولمبس بمشروع للوصول إلى آسيا عن طريق الإبحار غربا عبر المحيط الأطلنطي إلى الملك جون حاكم البرتغال ولكن المستشارين في البلاد رفضوا مشروع "ذلك القبطان المجنون القادم من جنوة" فذهب إلى إسبانيا حيث كانت الملكة إيزابيلا أكثر شراهة للذهب وأشد حماسا للمغامرة. لقد رفض البرتغاليون فكرة الاتجاه غربا حتى بعد أن اكتشف كولمبس العالم الجديد وأصروا على أنه لم يجلب معه التوابل أو أيا من المنتجات الآسيوية المعروفة وظلوا واثقين أن الطريق الوحيد إلى آسيا هو الدوران حول إفريقيا.

في عام 1497 بدأ فاسكو دا جاما رحلته الشهيرة سالكا نفس طريق رأس الرجاء الصالح محاولا أن يكمل الرحلة حتى نهايتها إلى شواطىء آسيا, وكان في صحبته أربع سفن بدأت رحلتها من لشبونة في الثامن من يوليو, وأبحرت كما هو مقرر لها بمحاذاة الساحل الإفريقي ولكن العواصف الهوجاء لم ترحمها فقد تحطمت الصواري وشح الطعام, وتفشى مرض الإسقربوط بين البحارة, وبعد ثلاثة شهور من الإبحار الشاق لم يبد أي ملمح لرأس الرجاء الصالح على حافة الأفق حتى أن البحارة طلبوا منه العودة والتخلي عن الرحلة, ولكن دا جاما كان في السابعة والثلاثين من عمره يحلم بلحظة من المجد لن يدعها تفلت من يده لذلك أصر على مواصلة الرحلة غير عابئ بأي اعتراض وحتى وصل إلى رأس الرجاء الصالح بعد شهر آخر.

لقد توقف دا جاما بعد ذلك في أكثر من مكان على الساحل الإفريقي وخاصة في "ماليندي" التي توجد الآن في كينيا, عند هذا الحد من الرحلة تختلف الروايات, فكل المصادر تؤكد أن دا جاما بعد كل ما عاناه لم يكن ليجرؤ على الرحيل دون دليل يعرف الطريق جيدا وسط مجاهل المحيط الهندي ولم يكن هناك أقدر من البحارة العرب في هذا المجال, لذا فقد استعان بأحد البحارة العرب, ولكن هل كان هذا الدليل هو البحار العماني الشهير أحمد بن ماجد الملقب بأسد البحار كما تردد الروايات الشعبية, لم أجد ـ في حدود علمي ـ مصدرا يؤكد هذا الأمر, والأرجح أنها رواية اعتمدت على شهرة أهل عمان بسبر أغوار المحيط الهندي. وقد وصلت سفينة دا جاما إلى كلكتا على الساحل الهندي في 20 مايو عام 1498 أي بعد حوالي 11 شهرا من بداية رحلته, ولم يكن الاستقبال طيبا بأية حال فالحاكم الهندي لم تعجبه الهدايا الزهيدة الثمن التي أحضرها دا جاما وكذلك ارتاب فيه التجار المسلمون الذي كانوا يتحكمون في التجارة ورأوا فيه قرصانا أوربيا جديدا.

عاد دا جاما إلى البرتغال فارسا مظفرا برغم أنه لم تكن في حوزته إلا سفينة واحدة وبضعة من البحارة المنهكين ولكنه اكتشف مؤخرا طريق البهار وشاهد العديد من المواقع الإفريقية التي يمكن احتلالها واستخراج الذهب منها, لقد فتح شهية البرتغاليين لدخول عصر الاستعمار أسوة بإسبانيا, من أجل هذا كله أنعم عليه الملك إيمانويل الثاني بلقب "الدوم" وهو يعادل لقب سير عند الإنجليز ثم مالبث أن أعطاه لقب أمير البحر الهندي عندما قام برحلته الثانية إلى الهند.

كانت هذه الرحلة مختلفة فقد تكونت من 15 سفينة مسلحة هاجمت التجار المسلمين الأبرياء وحصدتهم بمدافعها وثبت أن ارتيابهم فيه كان في محله, وبهذه المذبحة غير المتوقعة احتكرت البرتغال التجارة في المحيط الهندي ولم يمض إلا عام واحد حتى أصبحت أسواق القاهرة ودمشق وبغداد خالية من بضائع الشرق.وقد قادت المصادفة البرتغاليين عام 1500 إلى اكتشاف آخر لايقل أهمية عن طريق البهار عندما كان البحار بيدرو الفاريز كابرال يحاول الدوران حول إفريقيا في طريق عريض, وبدلا من ذلك رست السفينة على شواطئ البرازيل في أمريكا الجنوبية وقد واصل بعد ذلك إلى الهند دون أن يدري أنه اكتشف أكبر كنز للذهب يمكن أن يخطر ببال البرتغال.

البرتغاليون ساهموا أيضا في اكتشاف كروية الأرض, فقد كان ماجلان بحارا برتغاليا ماهرا, سافر مع الأسطول البرتغالي الذي قام باحتلال "ملقا" ثم آمن بنظرية أنه يمكن الوصول إلى الشرق عن طريق السير غربا والدوران حول أمريكا الجنوبية, ولكن كالعادة لم يوافقه الملك البرتغالي إيمانويل الثاني على هذا الرأي لسبب بسيط هو أنه كان يكرهه, بينما تحمس له ملك إسبانيا, وبدأ ماجلان رحلته فوق سفن إسبانية في شهر سبتمبر عام 1519 وعبر المحيط الأطلنطي متوجها نحوالأرض الجديدة واستطاع أن يكتشف ممرا ضيقا عند الطرف الجنوبي من القارة عرف فيما بعد بمضيق ماجلان ومنه عبرت سفنه الثلاث من المحيط الأطلنطي إلى المحيط الهادي, ولم تكن جزرالهند قريبة كما اعتقد ماجلان فقد ظلوا يبحرون فيه لمدة ثلاثة أشهر متواصلة دون أن يروا أرضا اللهم إلا جزيرتين خاليتين من السكان, ونفدت المؤن فأكل البحارة جلود الثيران والفئران, وأخيرا وصلوا إلى جزر الفلبين حيث دارت معركة مريرة بينهم وبين السكان المحليين قتل فيها ماجلان وقد شاهدت في جزيرة "ماندناو" تمثالا للبطل الفلبيني "سابو" الذي قتل "ماجلان", ثم واصلت الرحلة بعد ذلك سيرها تحت قيادة أحد الضباط في اتجاه الغرب حيث عبرت رأس الرجاء الصالح عائدة إلى إسبانيا واكتملت بذلك رحلته الكروية حول الأرض أخيرا.وبرغم كل شيء فعلينا الاعتراف بأن هؤلاء الرجال الذين ألقوا مصيرهم بين الأمواج يمتلكون نوعا من البسالة النادرة, فقد تحدوا العديد من أساطير الرعب مثل المياه التي تغلي عند خط الاستواء وجبال المغناطيس التي تجذب كل مافي السفن من مسامير وتفككها وحوريات البحر التي تنادي البحارة حتى تفقدهم عقولهم, تغلبوا على هذه الأساطير ولكن حقائق البحر بقيت, العواصف والأنواء العالية والجوع والعطش والضياع والغرق, حاصروا العالم الإسلامي وأغرقوا سفنه, وحاولوا محاصرة تغلغله في أصقاع آسيا, وقادوه إلى حالة من الضعف الاقتصادي جعلته يسقط فيما بعد في أيدي القوى الأجنبية. ومن الغريب أن تقوم دولة لم يكن تعدادها يصل إلى مليون ونصف ولاتبلغ مساحتها أكثر من شريط صغير على المحيط بتكوين تلك الإمبراطورية التي تمتد حدودها من البرازيل إلى شواطئ إفريقيا ومن جزر الهند إلى إمارات الخليج العربي.

لقد أتيح للبرتغال كل الفرص وتدفقت عليها كل الثروات التي شهدها العصر الاستعماري ومع ذلك ظلت في نهاية القائمة, لماذا حدث هذا? إنها أغنية أخرى من أغاني "الفادو".

طعم الصبر المالح

عندما انقطعت بنا الطرق في قرية "براجانكا" في الشمال لم تفعل صاحبة النزل الصغير لعشائنا أكثر من أنها أخذت قطعة من سمك "البكلاة" المملحة التي كانت معلقة في مطبخ النزل وطهتها على النار بإضافة زيت الزيتون وسلقت بجانبها بعض حبات من البطاطس وقدمت لنا واحدا من أشهى الأطباق التي يمكن تذوقها.وحتى الآن لا أدري ما السحر الذي كان موجودا في هذا الطعام? أهو الجوع بعد يوم طويل من التجوال? أم ما أثاره طعم البكلاه المملح في نفسي من ذكريات? تذكرت أبي في الأيام الأخيرة من رمضان وهو يدخل علينا حاملا هذه الشريحة الضخمة من السمك ويعلقها أمامنا حتى ليلة العيد حيث تأخذها أمي وتنقعها في الماء استعدادا لطهوها أول أيام العيد, كان من المدهش أن أتذكر في هذه القرية النائية طعم العيد في إحدى مدن الدلتا المصرية وأن يشاركني أبي الطعام وأن يتشابه وجه سيدة النزل مع وجه أمي.

لم يكن هذا الطبق إلا وصفة واحدة من أصل 365 وصفة يطهى بها هذا النوع من السمك في البرتغال, وهو ليس أفضل أنواع السمك ولكنه أفضل مذاق يمكن أن تعرف به البرتغال, إنه طعم أيام الانتظار الطويلة عندما كان الرجال يخرجون للصيد أو إلى رحلات الاستكشاف ولاتجد نساء القرى غير هذا الطعام "إنه طعام الصبر الطويل" كما قال لي الشاعر البرتغالي "ميجو ميكالا" وهو يتجول معي في طرقات القرية في اليوم التالي, كان شابا مثقفا هجر القرية لبعض الوقت للعمل في الصحافة في لشبونة ثم عاد إلى قريته حين اكتشف أن المدينة قد "أكلت جزءا من روحه" قلت له مدهوشا: أنت تحدثني عن البرتغاليين وكأنهم شعب من الفقراء, أين ذهبت ثروات الإمبراطورية الشاسعة التي حكمتموها?. قال: كان الأمر أشبه بلعنة, لقد استلزم حكم هذه المستعمرة كمية كبيرة من الجنود جعلت عدد البرتغاليين المقيمين في البلاد لايتجاوز المليون من أصل مليون ونصف كانوا هم كل تعداد الشعب في ذلك الوقت, أخذ الناس من القرى والحقول والمعامل ولم يعد شيء ذو قيمة ينتج في البلاد, ثم حل العبيد بدلا منهم وهم أناس مقهورون جاءوا من المستعمرات وبالتالي لم يكن لهم أي ولاء للبرتغال, بل كانوا على العكس أحد عوامل عدم الاستقرار, وحتى الثروة التي تدفقت على البلاد لم تذهب إلى الرجل العادي, لم تتحول إلى صناعات أو مشاريع منتجة ولكنها بقيت في أيدي الكنيسة الرومانية الكاثوليكية والملك وبضعة من النبلاء, ولم تفكر البرتغال في تطوير أي من صناعاتها المحلية فقد كان دائما من الأرخص استيراد البضائع بدلا من إنتاجها, لقد تسبب الصراع مع الإسبان في ضياع العديد من المستعمرات, وكانت هذه فرصة ذهبية لأوربا ـ وخاصة إنجلترا وفرنسا وهولندا ـ التي سارعت بالاستيلاء عليها, وهكذا أصبحت أمام البرتغال فرصة ثانية للاعتماد على نفسها وتنمية صناعاتها المحلية ولكن بدأ الذهب والماس في التدفق مرة أخرى من البرازيل عام 1960م وهكذا عدنا لبناء القصور والكاتدرائيات الفخمة وتركنا البنية الأساسية للبرتغال على نفس حالتها من التخلف, لقد ظل العمل الأساسي هو البناء وبقي معظم الناس فقراء يعيشون على سمك "البكلاة" المملح.

بيت الملكة

هناك طعم خاص للمدن الصغيرة المتناثرة في سهوب البرتغال وعلى شواطئها الممتدة, مازالت في معظمها تحتفظ بطابع العصور الوسطى, أحسست بذلك ونحن نقف أمام أسوار مدينة "أوبيدوس", وهي مدينة صغيرة تبعد عن لشبونة بحوالي 59 كيلومترا, مقامة فوق تل منخفض ومحاطة بالحقول الخضراء الخصبة, في مقدمتها تنتصب القلعة بجدرانها الصفراء تفرض سيطرتها على المدينة والسهل المحيط بها, داخل المدينة تتقاطع الدروب الضيقة, وتهبط بنا الدرج الحجري إلى باحات وحدائق سرية, البيوت بيضاء والسقوف ملونة وأبوابها مليئة بالنقوش, مرسوم عليها ديكة بأعراف مشرئبة لعلها تجلب الحظ لسكان المنزل, تطل علينا الأزهار الملونة من النوافذ والشرفات.

كانت هذه المدينة هي هدية زفاف الملك "دينس" إلى زوجته "إيزابيلا" ومن يومها وقد أصبح من التقاليد المرعية إهداء هذه المدينة إلى كل ملكة برتغالية, وأصبح لقبها بيت الملكة, عند بوابة المدينة تطالعنا لوحة جدارية من الفسيفساء الأبيض والأزرق, إنها لوحة نادرة قامت برسمها امرأة هي "جوزفينا دي أبيدوس", ولعلها الرسامة الوحيدة من نوعها في العصور الوسطى, رسومها منتشرة في أكثر من مدينة.

لاتكاد تخلو مدينة أو قرية برتغالية من قلعة, وقد بنيت هذه القلاع لحماية البلاد من العرب المغاربة ثم من الفرنسيين والإسبان, وقد ظلت تستخدم حتى القرن التاسع عشر, وترتبط معظم القلاع باسم الملك "دينس" الذي حكم البلاد في القرن الثالث عشر, ويمكن أن نطلق عليه ملك القلاع, فقد بنى ورمم أكثر من 500 قلعة كلها تشرف على المواقع الاستراتيجية التي تواجه إسبانيا.

والأمر لايختلف كثيرا في "فاتيما" ولعلكم تلاحظون الأصل العربي للاسم, إنها المزار الديني لآلاف الحجاج من كل البرتغال, وصلنا إليها قبل يوم واحد من احتفالها السنوي في 13 أغسطس, وكان المنظر مثيرا ونحن نشاهد عشرات القرويين وهم يفترشون الأرض ويعدون طعامهم على قارعة الطريق مثلما يحدث في أي "مولد" في بلادنا العربية, والأغرب من ذلك هو مشهدهم وهم يسعون سيرا فوق ركبهم إلى مسافات طويلة في مسيرة معذبة لتخليص النفس.إن الكاثوليكية ـ التي يعتنقها 95% من السكان ـ تمارس هنا بطريقة خاصة, ففي أجزاء من البلاد مازالت الطقوس ذات الأصل الوثني تمارس, ورغم صدور التعليمات من بابا الفاتيكان بإيقاف كل الأمور التي تعذب النفس ـ مثل السير على الركبتين كما شاهدناها في فاتيما ـ فإنها تمارس, ولقد تحول هذا المزار إلى أسطورة بعد أن أعلن ثلاثة من الأولاد في عام 1917م أنهم قد شاهدوا تجلي العذراء, وانتشرت أنباء المعجزة فتجمع في المكان أكثر من 70 ألف شخص كي يشاهدوا الرؤيا التي لم تتكرر ورغم ذلك تواصل تجمع المحتاجين وذوي الأمراض المستعصية ووجدها الديكتاتور "سلازار" ـ الذي كان يحكم البرتغال حكما مطلقا ـ فرصة للفت أنظار الجميع إلى هذه المعجزة فقام ببناء كنيسة بالغة الضخامة وبدأ طقس الحج السنوي إلى هذا المكان.

جذور السحر الأسود مازالت خاصة في القرى النائية في الشمال, حيث يقوم السكان بزيارة "البروكسا" أو الساحر المحلي ومازالت الطقوس الغريبة تمارس عند الميلاد أو الموت أو من أجل الإخصاب.

جولة على نهر الذهب

لا أحد يزورالشمال ولايقع في عشق نهر "الدورو" أو نهر الذهب, مصبه هنا عند رأس مدينة "بورتو" حيث يذوب في مياه الأطلنطي بعد أن يقطع حوالي 200 كيلومتر في البرتغال قادما من الجبال الإسبانية, وكما قالت لنا كارولينا إحدى فتيات بورتو وهي تقودنا عبر النهر: "لا يوجد نهر ينطبق عليه اسمه مثل "الدورو" فهو يروي مزارع العنب التي تنتج أشهر أنواع النبيذ في العالم". كنا نعبر النهر تحت جسوره الأربعة العملاقة, كل واحد منها تحفة فنية, أشهرها قام ببنائه المهندس جوستاف إيفل الذي صمم برج باريس الشهير.

بدأنا زيارتنا لبورتو بالضياع, ضللنا طريقنا وسط البلدان الصغيرة التي تحيط بها, وعبثا حاولنا أن نسأل عن الطريق المؤدي إلى غايتنا وسط القرويين الذين لايفهمون كلمة واحدة من الإنجليزية, وأخيرة جاءت فتاة تميل إلى السمرة ونظرت في وجوهنا بحنان بالغ وهي تقول: "آربو" قلنا لها بلهفة: أجل نحن عرب, كيف تعرفت علينا? قالت: أنا أبي عربي من الجزائر, قلنا بلهفة: أنت تعرفين العربية إذن? قالت في أسف: أمي فرنسية, لم نكن نتكلم في البيت إلا الفرنسية. من جهتنا نحن لم نفقد الأمل, قلنا لها: أنت إذن زائرة مثلنا, قالت: كلا, أنا مقيمة هنا لأن زوجي برتغالي. كان الأمر معقدا إذن إلى حد كبير ولكننا عرفنا طريقنا إلى بورتو في النهاية.

عندما تسير في بورتو إما أنك تصعد تلا أو تهبط من على آخر, بقدر ما سرت فيها لم أجد شارعا مستويا إلا النهر, إنها ثانية مدن البرتغال, بالمقارنة بلشبونة فهي مشتعلة بالحركة والنشاط, مساكنها العتيقة الطراز تضفي عليها نكهة خاصة وأروع مشاهدها يمكن أن تراها وأنت على ظهر سفينة تعبر الدورو, يقال إن تاريخها يعود إلى أيام الرومان وقد كانت هي البقعة الأولى التي ولدت عليها دولة البرتغال قبل أن تتوسع وتأخذ شكلها الحالي.وبورتو من المدن الشديدة القرب إلى الشاطىء الإنجليزي وقد كان نبيذها سببا في توثيق الصلات بينهم, فلم يتصور الإنجليز أن يحاربوا بلدا ينتج هذاالنوع الفاخر من النبيذ, وقد ساهمت هذه الصلات في زواج الملك جوا الأول من فلبينا أوف لانكستر وقد ولدت له ثلاثة من الأبناء أحدهم هنري الملاح, ولم يكتف الإنجليز بذلك ولكنهم استغلوا لحظات ضعف البرتغال وعقدوا معاهدة يمدون فيها بورتو بالأنسجة والمواد الضرورية مقابل إنتاجها من النبيذ وبذلك تحكموا في صادراته.

"ساو بنتو" هو قلب المدينة, يبدأ السير الذي لاينتهي, الكاتدرائىات المكسوة بالقيشاني الأزرق والأبيض, الشوارع الضيقة المنزلقة التي أغرم جراهام جرين بوصفها في رواياته, المباني القرميدية الأسقف والمقاهي الصغيرة المكسوة بالفسيفساء, البرج العالي الذي بني في القرن الثامن عشر وصل ارتفاعه إلى 200 متر بحيث ترى بورتو كلها من فوقه, قصرالكريستال والمتحف الرومانتيكي وشارع دي سانتا كاترينا أفخر الشوارع في بورتو, ومقهى ماجستيك ملتقى الفنانين والشعراء بمقاعده الوثيرة ومراياه الكلاسيكية التي ترتفع إلى السقف, بيوت عصر النهضة ومتاهات الأزقة المتداخلة, يا له من ماض مازال حيا ومتدفقا كنهر الدورو.البرتغال تبدو الآن مثل سيدة عجوز تستيقظ من نومها الطويل, وجهها يشبه الأيقونة القديمة بينما تنبعث من ثوبها المخملي العتيق روائح النعاس والنبيذ والسمك, مرت عليها كل أنواع العصور, الإقطاع والفروسية والملكية والديكتاتورية, أساءت للآخرين بقدر ما أساءوا إليها ودفعت ثمن اتكالها على أموال الآخرين, لقد شهدت أولى حكوماتها الديمقراطية مؤخرا في عام 1974 أي منذ حوالي 23 عاما وهو عمر طفولي للديمقراطيات الغربية العريقة وأصبحت عضوا في الاتحاد الأوربي عام 1986 ولم يقربها هذا من أوربا فحسب ولكن الأهم من ذلك أنه قد قربها من إسبانيا الأشد قربا, الأشد بعدا, وقد خطت خطوات مسرعة نحو خصخصة المشاريع الصناعية وأحدثت هذه الخطوة نوعا من الانتعاش الاقتصادي لم تشهده البرتغال في اعتمادها على نفسها من قبل, لقد لوثت نفسها بمرض الاستعمار طويلا, ومازالت هناك البقعة الأخيرة من تركتها الاستعمارية في جزيرة "مكاو" في جنوب شرق آسيا, وقد آن للبرتغال أن تنظف نفسها لعلها تظفر بالخلاص.

 



 
  




المعالم السياحية في البرتغال





إحدى وسائل الترفية





الفنون في البرتغال





البرتغال من عصر الاكتشافات إلى زمن العزلة





بوابة الماركيز دي بومبال الذي أعاد بناء لشبونة بعد أن دمرتها الزلازل





بائع الجرائد الصغير





وفنانة صغيرة أخرى تمارس هوايتها في الهواء الطلق





أحد المصاعد الذي يحملك من المدينة السفلى إلى الجزء العلوي





الساحة القديمة :الروسو" وسط لشبونة حيث يحط الحمام غير آبه بالزحام





قلعة "بلم" الصغيرة التي أبحرت من أمامها معظم سفن الاستكشافات





النصب التذكاري العملاق على حافة نهر التاج والذي يجسد كل المستكشفون





وجه برتغالي. إحساس عميق بالحزن حتى لدى الأجيال الحديثة





في شوارع لشبونة يثير المهرجون ابتسامات المارة





كاتدرائية "فاتيما" أكبر مزار ديني في البرتغال حيث يتوافد آلاف الناس





إحدى الرقصات الشعبية، الملابس الملونة وباقات الزهور





قلعة لشبونة، بناها العرب، وجددها البرتغاليون





فاسكو داجاما المكتشف الذي دخل التاريخ عندما اكتشف طريق البهار





خريطة العالم مرسومة بواسطة الفيفساء الملونة وخلفها تبدو الكاتدرائية





المدخل الرائع لمحطة قطار بورتو حيث تزينه لوحات جدارية من الفسيقساء





صورة تفصيلية لإحدى اللوحات. واحدة من المعارك التي دارت





فلكلور برتغالي





فلكلور برتغالي





فلكلور برتغالي





في مزار فاتيما يسعى العشرات سيرا على ركبهم لمسافات طويلة





الكاتدرائيات الضخمة التهمت كل ذهب الاكتشافات





الآف الشموع تحرق يوميا في مزار فاتيما وتتصاعد أدخنتها





نهر الدورو.. أو الذهب الذي تنتشر على ضفافه مزارع العنب





واجهة أحد البيوت في بورتو مكسو بالفسيفساء





وجوة برتغالية أصيلة من بورتو، فتاة تتهيأ لعزف الموسيقى





فتاة تقف على نهر الدورو