المنصورة جزيرة الألف عام

المنصورة جزيرة الألف عام

تصوير: سليمان حيدر

أتنسم هواء المنصورة من مبعدة خمسة عشر كيلومترا, فترتاح روحي. فما أن تعبر السيارة جسر "أجا" المتهالك الصغير, وتيمم شطر "سندوب" التي باتت من ضواحي المدينة, حتى أتهيأ للإطلال في أفق الخضرة الشاسعة على بشائر المدينة التي لم أغادرها أبداً برغم ابتعادي والغياب الطويل عنها, لأنها تسكن ـ ببساطة ـ في صدري, كما في صدور كل أبنائها.

أرى أطراف أبنية المدينة تطل ناصعة في ضوء الشمس فوق اخضرار الحقول من حولها, فتهتف نفسي بعد طول غياب "المنصورة", وتجيش الروح, فأغمض على المشهد عيني حتى لا يغلبني التأثر. وأعود أفتح عيني في مدخل المدينة المحفوف بنباتات الأسيجة والأشجار وبعض الزهور قرب الاستاد الرياضي, فأحس بالتبدل, وتقبض على قلبي الأسئلة: هل ضاقت الشوارع قليلاً؟ هل ازدحمت الطرقات بالسيارات والناس أكثر؟ أشعر ببعض القلق, لكنني أبدأ في إدراك التغيرات.. لقد تطاولت العمائر كثيراً, صارت أبراجا سكنية متزاحمة, تطبق على جوانب الدروب, وتلتهم ما كان من مراتع الصبا وأطراف الحقول.

أبحث بعيني عن سجن المدينة الذي كان معلما واضحا ومباغتا عند أولها, فيتوه عن هذا السجن في بادئ الأمر بصري. لقد صار ضئيلا بين الأبنية العالية, يكاد لايبين, ويدعو الآن للرثاء والشفقة بعد أن كان مرهوبا ومهولاً ببنائه الحجري الأبيض الأصم ذي الطوابق الخمسة, ونوافذه المصفحة التي تطل منها ظلمة الزنزانات وأشباح الوجوه السجينة.

عاصمة طبية

تتوارد متغيرات المدينة تترى ونحن نشق زحامها, أحس بمرور الزمن في انحسار الأبنية القديمة, وهجوم العمائر الحديثة, وإضافات ألقاب "أستاذ" و"أستاذ مساعد" إلى لافتات عيادات بعض زملاء الدراسة في كلية الطب. وأعود ألتقي البعض منهم, أشخاصا وأسماء لامعة, في المراكز الطبية المرموقة التي تزهو بها كلية الطب ـ جامعة المنصورة, وبها أزهو وأفاخر, متمنيا أن أتوقف في رحابها وقفة أو وقفات قادمة, فهي ظاهرة فريدة تكاد لا تتكرر في مصر كلها, وربما في العالم العربي بأسره. فنادراً ما يتجمع ويتكامل حشد من المراكز الطبية المتخصصة رفيعة المستوى كهذه المراكز.. مركز أمراض الكلى عالمي المستوى الذي أنشأه ولايزال يقوده الرجل الاستثنائي ـ ربما في تاريخ الطب المصري كله ـ الدكتور محمد غنيم. وبعد مركز الكلى ـ من حيث زمن النشأة ـ يجيء مركز جراحة الجهاز الهضمي, ثم مركز العيون, ومركز طب الأطفال, ومركز الأورام, ومركز الأمراض الباطنية, ومركز علم الأعصاب, ومركز الطوارئ. اكتمل معظمها, وما بقي في طريقه للاكتمال. وهي في مجموعها, وآفاقها, ظاهرة طبية فريدة, آمل أن يكون طموحها الإنساني والاجتماعي في مستوى طموحها العلمي الكبير, لأن هذه المزاوجة هي الذروة, وهذا سر غنيم.. أعني الدكتور محمد غنيم.. حاد البصيرة, والواضح والمتمرد ـ داخل نفسه العالية أولاً ـ على نزوع البشر العادي للامتلاك وفرط الامتلاك, ومن ثم أظن أنه شديد التصالح مع أفضل ما في روحه, وأوقن أنه شديد الرقة ـ مع رقاق الناس خاصة ـ برغم الحدة البادية, ولديه من الرضا والسعادة الإنسانيين ما لا يدانيه فيهما أي من الأطباء الذين جمعوا من الطب الملايين.

ترفّع الطبيب, وإغراء الثروة.. إنها معادلة صعبة في زمن ـ لاشك ـ صعب. لكنني سمعت عن مقاربة لحل هذه المعادلة, نقلاً عن أستاذ الطب الكبير, الدكتور زكي شعير أستاذ الأمراض الباطنية الأول بكلية طب المنصورة, والذي لا يزال يمنح من نفسه ـ تطوعا ـ محاضرة مستمرة ومفتوحة لمن يشاء الحضور من أطباء التخصص. في إحدى هذه المحاضرات التي يتيح فيها الدكتور زكي شعير خبرته العلمية والعملية للأطباء الأحدث, تطرق الحديث إلى سؤال الكسب والطب, فقال الأستاذ الكبير ما معناه: "من الخطأ أن يتصور الطبيب أنه يجب أن يكون من أكثر الناس ثروة, وإلا كان عليه أن يتنافس مع تجار المخدرات"! اعتدال جميل, كأنه نسائم المنصورة الحقيقية ذاتها, وهو اعتدال صادق لأنني أعرف أن هذا الرجل النبيل يُناظر من المرضى مجانا, وبالاخلاص ذاته, أكثر عدداً ممن يدفعون في العيادة الخاصة.

أتأمل صروح المراكز الطبية العملاقة المتجاورة, وأحس بواقعية أن تكون المنصورة عاصمة طبية في دلتا مصر ـ على الأقل, وآمل أن يكون قلبها في مثل بهاء صورتها. ونعبر شارع المستشفيات, ننعطف إلى الفندق لنلقي بحقائبنا ـ سليمان حيدر وأنا ـ ثم ننطلق في رحاب المنصورة, فتستوقفني. بدءا من داخل الفندق ذاته لمحة.. بل لمحات منصورية!

جزيرة الورد

اسم الفندق الذي نزلنا به "مارشال الجزيرة", والجزيرة مأخوذة من "جزيرة الورد" ـ الاسم الشائع للمنصورة قديما قبل أن تتوج باسمها الحالي, كما أن المكان الذي يواجه الفندق هو جزيرة رملية متسعة كانت تتوسط النيل مغطاة بأحراش الغاب وأشجار الصفصاف والحور ومساحات قليلة مزروعة وبضعة بيوت طينية لأسرتين أو ثلاث من المزارعين الفقراء.. هذا كله قبل بناء السد العالي واستقرار منسوب النيل, والآن صارت الجزيرة معمورة بالأندية والحدائق, ومنحت المكان اسمها الذي منه أخذ الفندق نصف اسمه, أما النصف الآخر "مارشال" فلابد أنه يشير إلى فلسفة يعتنقها صاحب الفندق, إذ إن هناك فندقاً آخر بالمنصورة يسمى "مارشال المحطة" في ميدان محطة القطارات يمتلكه صاحب مارشال الجزيرة. والأغلب أن الرجل ـ حسين حويدق ـ أراد أن يقدم لمدينة جذوره ونشأته شيئا يمتزج فيه الحنين والوفاء بالنفع, فقام باستثمار أمواله في الخدمات الفندقية بالمدينة. وفي الفندق كانت الروح "المنصورية" واضحة, فالأجنحة تحمل أسماء المشاهير من أبناء المحافظة الذين نزلوا بها.. فهذا جناح "أنيس منصور" وذاك جناح "عادل إمام", كما أن هناك جناحاً يتغنى باسم "أم كلثوم". أما المذاق الغالب في المكان فهو مذاق منصوري أيضاً, يتسم بطابع خاص آثار استغرابي في البدء, لأنني قسته بمعايير ما رأيته في العديد من فنادق العالم, فهناك تُقدم الخدمات في صمت ومن بعد محسوب حتى تحس أن من يقومون بالخدمة هم ظلال أو كائنات أثيرية. أما في المنصورة فالأصوات مسموعة والمداخلة تنفي أي حس بالانكسار, وبعض الحروف المليئة أو المضغوط عليها تشير إلى مجيء الشبان والفتيات من أطراف المدينة, من بعض القرى المجاورة. ملمح لفت انتباهي باستنفار نقدي في البداية, ثم صار فرحا بهذه الكرامة الإنسانية الريفية, المنصورية حتى وإن كانت زاعقة, وأدركت كم كان الرجل صائبا في تفكيره بمشروع مارشال صغير للمدينة, يقدمه كل من في مقدوره أن يقدم شيئا لبلده, يُفيد ويستفيد على غرار مشروع مارشال الذي قدمته أمريكا للنهوض بأوربا بعد الحرب العالمية الثانية.

"مارشال على قدنا": يشير الصديق الأستاذ عماد الشهاوي بتقدير ومحبة إلى الموضوع ونحن نتسامر حول أكواب الشاي الدافئ الودود في غمرة من نسائم ليل المنصورة الحاني. الليل يرق, والنيل يسري, والخطى تمتد, فتكون المنصورة في الليل أرحب للقاء الأحبة, والأصدقاء, وانبعاث الذكريات من الأماكن والحنايا. لكن هناك في ليل ونيل المنصورة دائما جديدا.. فها هي زفة عُرس في مركب مضاء ينساب على صفحة النيل, أنوار وغناء وعمر يمضي وأعمار جديدة تهل. وها هي مواكب أعراس أخرى تنطلق على الشريط المحاذي للنيل, وفي جزيرة الورد, ومن الفنادق, والبيوت.

"كأن المنصورة في عُرس دائم".

يبدي زميلي هذه الملاحظة, فأعلن له عن دهشتي أنا الآخر فرغم الزحام وملاطمة الحياة التي لم تعد سهلة ينجحون في إفساح مساحات غالية مهما صغرت وندرت للحب والتلاقي.. إرادة حياة عجيبة. وحياة المدينة تستمر, تنسحب منها ملامح, وتضاف إليها ملامح, ومن جديد ملامحها.. هذه المحال الساهرة حتى الصباح.. "وكأننا في القاهرة" فثمة "مطعم" "للفلافل" والفول بالزيت الحار لا يعرف النوم, وبالكاد استطعنا أن نجد فيه طاولة في الواحدة بعد منتصف الليل جمعتني ببعض من أصدقاء زهرة العمر على لقمة شهية في موعد استثنائي, وكان للشاي مكان آخر لا ينام في المنصورة "التي اعتدناها تنام مع الغروب لنسهر نحن" وها هي تسهر, ونحن نسهر, وفي فضاء السهر الأنيس تنبعث الذكريات وتعود منصورة صبانا العذبة الرائعة التي يستحيل أن يضاهيها مكان في العالم مهما بذخ وتجمل, لأنها ببساطة ثاوية في مكمن الحنين.. في قلب القلب.

كل هؤلاء الموهوبين؟!

بينما راح سليمان حيدر يلتقط الصور من مركز دائرة الميدان الصغير في شارع الجيش, بين مبنى مسجد النصر ذي المئذنتين الناصعتين السامقتين والقباب المرمرية الأربعة ومبنى محافظة الدقهلية المشرق بالبياض تحت الشمس. كنت أتحرك حول الحديقة الدائرية الصغيرة التي تحلق مرتفعة فوق عشبها الأخضر وزهورها الصيفية سيدة الغناء العربي. وحسنا فعل محافظ الدقهلية فخر الدين خالد, بإزالة التمثال القبيح القديم من ميدان المحطة, وغرس التمثال الجديد في هذا المكان, إنه اختيار رمزي وجمالي لرجل يبدو أنه مولع بالجراحة التجميلية للمدن رغم صعوبتها. وأتحرك حول أم كلثوم متأملا آفاق المكان فتجيش في نفسي الذكريات, أنطوي متأثرا بشدة على القريب الحميم الذي يخصني منها, وأطلق العام.. أتذكر.. كنت طفلا يعليه أبوه على كتفيه ليشاهد, هنا, في شرفة هذا البرج من القصر المنيف القديم الذي كان مبنى "للمديرية" عبدالناصر وهو يخطب في بحر زاخر وهادر من البشر, وهنا في المكان نفسه اضطرب البحر ـ الذي كنت بين أمواجه البشرية طالب مدرسة ـ هاتفا ضد عبدالناصر في أول احتجاج ـ شعبي ـ ضد هزيمة يونيو 76, وهنا ارتعش موج البحر وانتفض يبكي عبدالناصر حين مات. ومن هنا كانت تبدأ دائما مواكب مهرجانات الزهور, ورؤية هلال رمضان, والمحمل النبوي, وموسيقى الشرطة التي تطوف بصدح آلاتها النحاسية شوارع المدينة صباح كل سبت وتنتهي بالعزف في كشك الموسيقى في حديقة "شجرة الدر". وها هي أم كلثوم تطفو بصورتها الأليفة وسط هذا كله, أتطلع إلى تمثالها الجديد الذي كنت أود لو أنه نُحت من المرمر, وأعرف أنني لم أدرك هذه الروح إلا متأخرا.. نعم أم كلثوم روح, منا ومن طبيعة المنصورة ذاتها, ويكفي أن تركب زورقا من "فلايك" الزمان البديع المسافر, وتضرب بمجاذيفه الخشبية ضربات توصلك إلى قلب النيل في المنصورة, ودع الزورق يتهادى مع موج النيل واسمع أم كلثوم.. يا الله.. يا خالق الشجو من ذات الموج.. لاشيء يبلغ أقصى التناغم مع شدو هذه السيدة مثل خفق الموج ورقرقة المياه في قلب نيل المنصورة التي أنجبتها. ولاشيء يستعيد نشوة ما أفلت منا من أصداء العمر الجميل مثل الأغاني.. الراقية, الحقيقية. ولا شيء يمكنه استعادة أطياف وأصداء المنصورة العذبة, مثل شدو أم كلثوم, راية المنصورة الحريرية, في "نسمات العصاري" ; على شاطئ نيلها.

أقترب وأبتعد من تمثال كوكب الشرق فتتكون أمامي لقطة أوصي سليمان حيدر باقتناصها, فمن زاوية تصوير منخفضة وحادة, تظهر أم كلثوم عالية الجبين الشادي, أعلى من كل البيوت المحيطة بالميدان.. أعلى من الأبراج السكنية الخرسانية المتطاولة, بل أعلى من كل ما يحيط بها من أبنية رسمية. أم كلثوم إبراهيم السيد البلتاجي, المولودة منذ مائة عام في طماي الزهايرة إحدى قرى مركز السنبلاوين, كانت روحاً تغني.. وهل يقدر على هذا الغناء غير روح.. روح قوي ـ قوة أبناء ريف مصر الفقراء ـ لصبية كانت ترقى على البرد والحرمان ورقة الحال. وظلت لا تغني ـ حتى بعد ارتقائها للقمة ـ إلا وهي جائعة أشد الجوع, ولا تأكل إلا بعد أن ينتهي الغناء.. عند الفجر! وكأن الغناء لديها لا يتسامى إلا بالتسامي على جذب الأرض وأثقال الجسد. ولقد كان مرهفاً وبديعاً من المنصورة, أم أم كلثوم, أن تهدينا عبر مبادرة من مدير ثقافتها الشاعر المهندس مصطفى السعدني أمسية خاصة في مسرح أم كلثوم شدت فيه فرقة المنصورة للموسيقى العربية, وهي فرقة جيدة, بأغنيات لكوكب الشرق. وكانت هناك معجزة غنائية لصبية عمرها إحدى عشرة سنة اسمها داليا حسنين عبدالواحد. أذهلتنا وألهبت أكفنا بالتصفيق, وأطلقت قلوبنا لتحلق مع أدائها الحساس القوي. والعجيب أن داليا من بلدة أم كلثوم ذاتها.. السنبلاوين! وكأن هذه الأرض ـ الدقهلية عامة, وعاصمتها المنصورة خاصة, ونواحيها جميعا ـ موهوبة تنجب الموهوبين. قطار طويل طويل من الموهوبين أهدتهم هذه الأرض لمصر والعالم العربي, فإضافة إلى أم كلثوم هناك عشرات بل مئات الأسماء اللامعة يتوارد منها على الذاكرة.. في الفن: فاتن حمامة ورياض السنباطي, وعادل إمام, والمثال محمود مختار, ويحيى الفخراني. وفي الأدب والفكر: أحمد حسن الزيات, ولطفي السيد, وأنيس منصور, وأمينة السعيد, ورجاء النقاش, وعلي محمود طه "شاعر الجندول", وعلي مبارك "أبوالتعليم", ود. محمد حسين هيكل صاحب ـ أول رواية في الأدب العربي الحديث, وسعد الدين وهبه, ونجيب سرور, وصالح جودت وكامل الشناوي وعبدالقار القط, وسيد حجاب, وسليمان فياض, وابو المعاطي أبو النجا, وأسامة الباز, وعبدالرحمن صدقي. ومن أهل الإعلام والصحافة: محمد التابعي, وجلال معوض, وهمت مصطفى, ونعم الباز. ومن رجال العلم: د. أحمد مستجير, د. سليم حسن "عالم ا لآثار الكبير", د. عبدالوهاب مورو "أستاذ الجراحة", د. عبده سلام "وزير الصحة الأسبق وأستاذ الأدوية", ود. عدلي الشربيني "رائد طب التخدير", د. فاروق الباز "عالم الجيولوجيا والفضاء", د. مفيد شهاب "مرجع القانون الدولي", والشيخ محمد متولي الشعراوي. وهذا غيض من فيض, فالأسماء كثيرة ومفاجئة بشكل مدهش, لكن المتاح من الصفحات قليل, لهذا أكتفي, متأملا بدهشة وحب صور بعض من هؤلاء في منحوتات جدارية تزين أسوار حديقة جزيرة الورد المطلة على الشاطئ قرب الجامعة وكأن المصادفة الموهوبة أرادت أن تهدي أبناء المنصورة الجالسين على الضفاف ساعة العصاري ـ وهي عادة منصورية قديمة ـ باقة من نسائم النيل, وعطر أعز الموهوبين, وظلال الشجر العطوف الوارف.

ثلاثة انتصارات, وهزيمة

أشعر بالزهو لأنني من المنصورة.. إحدى مدن الشرق القليلة التي لم تنحن أبدا للجبروت الآتي من الغرب, بل إنها لقنت هذا الغرب, حين طغى وتكبر وتجبر, ثلاثة دروس ماضية كحسام العدل والحق القاطع. وأحكي لمن معي ونحن نتجه إلى دار ابن لقمان كيف أنني صحبت مرة زائرة فرنسية شابة إلى دار ابن لقمان, وفي الدار رحت أحكي لها حكاية حملة لويس التاسع الصليبية, وكيف هزمت الحملة, ورحت ونحن نتنقّل في دار ابن لقمان أحكي لها ما قرأته عن تفاصيل الأيام الاثنين والعشرين التي قضاها لويس أسيرا في هذه الدار حتى جمعت له زوجته مارجريت الفدية وتم إطلاق سراحه. كنت أحكي للفرنسية الجميلة, المثقفة, العصرية, المتسامحة, حكاية الحملات الصليبية وحملة لويس خصوصا, وبينما كنت أنثر الحكاية على وقع خطواتنا المتمهلة في الدار العتيقة كنت أمر على قطع الآثار القليلة داعيا السيدة إلى لمسها.. "هذه الجرة الرخامية كان يستقي منها لويس في الطابق الثاني والقادة العسكريون الفرنسيون المسجونون في الطابق الأول. على هذا الكرسي الخشبي العتيق جلس, وعلى هذه الكنبة الأرابيسك كان ينام.. من هذه الكوة بمقعد الطابق الثاني كان يطل, وعلى هذا الدرج الخشبي صعد وهبط. هذا سيفه, وهذه سيوف قادة جيشه". كنت أظن أننا متفقان, كمثقفين غير متعصبين ننتمي إلى الحقائق الإنسانية العادلة الواضحة, لكنني انتبهت إلى طول صمت السيدة المطبق, وكان وجهها قد التوى وامتقع حتى بارحته آخر لمحات الجمال. وما أن خرجنا صعودا من أرض الدار الحجرية, وعبرنا الباب الخشبي الكبير العتيق حتى بدا أن السيدة تتنفس الصعداء.. تنهدت تنهيدة حرى, زفرت كل هواء العالم المر الذي خبأته في صدرها, وشهقت كل هواء جسر النيل الندى الشفيف, وقالت لي: "لويس التاسع.. انه يُدعى سانت لويس.. لقد كان درويشا"!, أي أننا لم نأسر غير مُسالم مسكين.. زاهد وورع وليس له في الحرب ولا في القتال. يومها سكت لأنني أدركت ألا فائدة معها, فكيف أؤكد لها عبر حكايات التاريخ الموثقة كم كان لويس القديس هذا مغرورا ومتعجرفا وعدوانيا إلى أبعد حد.. لأنه كان شديد التعصب. وهي لم تكن لتقل عنه تعصبا.

أنهيت حكايتي ونحن نترجل إلى دار ابن لقمان, في زحام مدخل شارع بورسعيد, على ضفته اليمنى للقادم من جهة "الكوبري الجديد" الذي لم يعد جديدا, من مفرق "السكة الجديدة" التي لم يغيرها الزمان. وشعرت بالهزيمة, بل بالجريمة. وحتى تستشعروا معي ذلك, سأرجئ الحديث عن الهزيمة أو الجريمة في حق المنصورة, والشرق العربي كله, وسأقدم صوت التاريخ العميق, عمق أناس بسطاء لم يرتضوا الذل أبدا, اتساقا مع الفطرة الصافية وإبداع الوجود الذي خلقه رب العالمين, فكالوا للغرب ثلاث هزائم قاسية.

أول مرة.. منذ 877 سنة.. عام 616 هجري, الموافق 9121 ميلادي..

كان ذلك بعد أكثر من قرنين من بدء انطلاق الحملات الصليبية على الشرق والتي رفعت الصليب مخاتلة ونفاقا واذكاء للتعصب, بينما كان الهدف الحقيقي هو استعباد الشرق البكر والمليء بالخير والدفء حينها. وبعد انتصار صلاح الدين الأيوبي على الصليبيين في حطين عام 7811م واستعادته لبيت المقدس ومعظم ما وقع من بلاد الشام في أيدي الصليبيين. أدرك الغزاة أن الطريق إلى بيت المقدس يبدأ من القاهرة. وخرجت حملة الصليبيين الخامسة عصرا من عكا بقيادة جان دي برين الملقب بملك أورشليم قاصدة مصر عبر دمياط. وبعد حصار استمر سبعة عشر شهرا سقطت دمياط في عام 9121م. مات الملك العادل شقيق صلاح الدين الأيوبي في دمشق كمدا عند سماعه نبأ سقوط دمياط, وآلت المسئولية إلى ابنه الكامل الذي تقهقر جنوبا من العدلية تهيؤا لمواجهة الصليبيين واتقاء لمؤامرات بعض قواده. وفي يوليو 1221 بدأ زحف الصليبيين جنوبا مستهدفين القاهرة وتوقفوا على ضفة البحر الصغير فيما كان الجيش المصري يقابلهم من الضفة الأخرى لرأس "الجزيرة" التي أسميت "المنصورة" تفاؤلاً بالنصر.

يحكي التاريخ عن خطط الملك الكامل البارعة وأيادي الناس العاديين التي قطعت الطريق بين جيش الصليبيين وقاعدتهم في دمياط عن طريق البر وفي مجرى النيل فمنعت المؤن والمدد عنهم. وكان الوقت صيفاً والفيضان في ذراه مما أوقع الجيش الصليبي في مصيدة حقيقية من المستنقعات والوحول فصاروا طريدة سهلة لجيش المصريين الذي راح يتدفق عليهم عبر جسر بُني على الفور مما جعل "الفرنجة" يتقهقرون شمالاً للنجاة برقابهم عبر الطريق الوحيدة التي ظلت مفتوحة. وكان الحصار وكان الاستسلام الصليبي وتسليم دمياط ثم الرحيل المندحر عن مصر المنصورة في سبتمبر 1221م.

***

ومرة ثانية.. منذ 748 سنة, عام 1249 ميلادية. عاد الصليبيون في حملة جديدة بقيادة لويس التاسع ملك فرنسا قاصداً إخضاع مصر لاستباحة الشرق العربي كله. اجتاح دمياط, واتجه إلى القاهرة, وكانت المنصورة في الطريق. مات الملك الصالح نجم الدين أيوب "حفيد صلاح الدين" فأخفت زوجته شجرة الدر نبأ موته حتى لا يفت عضد جنوده والناس. ويبدو أن المنصورة كانت قد تمرست في هزيمة الصليبيين, فأعادت الكرة رغم صراعات أهل الحكم وعنجهية الغزاة. وكان النصر الذي بدأه الأهالي في أزقة المنصورة وشوارعها واختتم في دار القاضي ابن لقمان حيث أُسر "الفرنسيس" لويس التاسع ملك فرنسا وقائد حملة الصليبيين السادسة. ثم كان تتويج النصر انسحابا نهائيا مخذيا للصليبيين عن كامل التراب المصري بعد أن دفعت مارجريت زوجة ملك فرنسا لزوجها الأسير الفدية.

***

ومرة ثالثة.. منذ 991 عاما, سنة 8971 ميلادية..

عادت فرنسا أيضا, لكن ليس تحت راية الصليب هذه المرة, بل في عباءة نابليون بونابرت, وبحلم جعل البحر المتوسط "بحيرة فرنسية", وكانت المنصورة أيضا في الطريق, إذ يبدو أنها تخصصت في هزيمة غزوات الفرنسيين تحديدا..! كانت مصر في نهاية زمن البكوات والمماليك تتخبط في ضعفها بعد القوة, وفي فقرها بعد الغني, وكانت السلطنة العثمانية توحل في مستنقعات أذاها الطويل. واغتنم بونابرت الفرصة فأنزل قواته على شاطئ الإسكندرية في 2 يوليو 8971 ليبدأ حملته على مصر ويستشري. فيها. عين الجنرال "فيال" قائدا لمديريتي المنصورة ودمياط. فذهب الجنرال الفرنسي بفرقتين كاملتين لإخضاع المديريتين. لكن يوم 01 أغسطس 8971 كان يوم السوق في المنصورة, وما أدراك ما يوم السوق فيها! توافد الناس من الجوار والتحم العامة بالخاصة, وتنادوا جميعا بالثورة حتى ليقال إن النساء كن يحرضن رجالهن على مقاومة الفرنسيين. وكان كرُّ المنصوريين وفرّ الفرنسيين, وآزر النيل - كما العادة ـ أهله فمن لم يُفتك به على البر من الفرنسيين فتكت به مياه النيل وهو يحاول الهرب دون جدوى من زورق يغيثه أو خشبة أو قشة يتعلق بها. وخلع بونابرت قناعه كاشفا عن وجه الرجل الغربي الذئب.

أرسل نابليون الجنرال "دوغا" مفوضا في القمع و"قومندانا" حاكما بالحديد والنار على مدينة المنصورة. أمره بقتل تسعة أو عشرة من المنصوريين والطواف برءوسهم المقطوعة على أسنة الرماح في الشوارع لردعها. وأمره بإحراق القرى التي اتهمت بالضلوع في "الاعتداء". كانت الغرامات ثقيلة لم يدفعها حتى الأعيان. وكان غضب المنصورة ومؤازرة الفيضان الذي عطل تنقلات جيش بونابرت في النيل. واندلعت شرارة الثورة التي باتت حريقا دفع أمامه الفرنسيين ليخرجوا من مصر بعد ثلاث سنوات وشهرين.

***

تلك هي الانتصارات الثلاثة التاريخية للمنصورة. أما الهزيمة ـ الجريمة, فهي عصرية تماما, وفي أعز أركانها. وإحقاقا للحق فالهزيمة الجريمة ليست من فعل المسئولين الحاليين, بل هي تراكمات رديئة لبعض المسئولين الذين ذهبوا مع الريح, فمنذ سنوات طويلة جرى الإهمال الذي ينبغي أن تُسأل عنه أولا هيئة الآثار المصرية, تم وقع الاعتداء الأكبر ممن سمح بإقامة أبراج سكنية قبيحة ليس في رحاب منطقة تاريخية فقط, بل على قلب وأضلع الرمز الأهم لهذه المنطقة.. دار ابن لقمان.

إنها دار كاتب الإنشاء فخر الدين إبراهيم ابن لقمان الأسعردي, التي كان يقيم فيها عندما يذهب إلى المنصورة في بعض أعماله. والدار الحالية هي جزء من الدار الفسيحة التي كانت, والتي أتسعت لأسر الملك لويس وأخوته والمكلفين حراستهم وخدمتهم, بل يقال إن في طابقها الأرضي كان يقيم الأسرى من قادة الجيش الصليبي.

ما بقي من دار ابن لقمان صار قليلاً وضئيلاً عند سفل عمارة عالية من عمارات هذا الزمان التي لا شكل ولا معنى لها, أما قلب الدار والذي لم يسمح لنا الموظفون المرتعدون بدخوله رغم إذن المحافظة ووجود مندوب من العلاقات العامة معنا, إلا بعد مكالمة مع الآثار في القاهرة, فلم يُسمح لنا إلا برؤية جدرانه. وأين الآثار التي كانت هنا؟ سألت. فقالوا: إنها تُرمم في القاهرة. كُرسي, وكنبة, وسجادة ولوحات, وجرة رخامية.. ترمم في القاهرة؟ إن مجرد نقل هذه الآثار كفيل بإتلافها. وماذا عن ترميم السيوف؟! أما الأدهى والأمر, فهو انهيار مسجد الموافي الذي أسسه الملك الصالح "نجم الدين أيوب" عام 385 هجرية ـ 899 ميلادية أي قبل تسمية المدينة, ومنذ أكثر من ألف سنة إذا أرخنا لبدء البناء.

ومرة أخرى منعنا "الآثاريون" من تصوير الحُطام. ونتحرك في أسى فتخف إلى ذاكرتي ـ ساخرة ـ أبيات الشاعر المصري القديم جمال الدين بن مطروح الشهيرة التي خاطب بها الفرنسيس: "أي ملك فرنسا لويس التاسع" منشداً:

قل للفرنسيس إذا جئته مقال حق من قئول فصيح
أتيت مصر تبتغي ملكها تحسب أن الزمر ياطبل ريح
فساقك الحمق إلى أمرهم ضاق به عن ناظريك الفسيح
وقل لهم إن أضمروا عودة لأخذ ثأر أو لقصد قبيح
دار ابن لقمان على حالها والقيد باق والطواشي صبيح

لا, لم تعد دار ابن لقمان على حالها, وهي شكاية أليمة قررت أن أحملها إلى محافظ الدقهلية عندما ألتقيه, رغم براءة الرجل من ركام الآلام التي من بينها هذه الشكاية, وغيرها.

الخروج من الزحام

عندما سألني الأستاذ زكريا صابر مدير عام العلاقات العامة والإعلام بمحافظة الدقهلية عن الموعد المقترح للقاء المحافظ, وددت أن يكون ذلك بعد أن أقطع شوطاً أملأ فيه جعبتي بآلام وآمال المدينة, فأضعها جميعا بين يدي المسئول الأول في المحافظة. وقبل اللقاء رجعت إلى السيرة الذاتية للواء فخر الدين خالد عبده محافظ الدقهلية, فتوقعت أنه مسئول من نوع خاص فهو لواء شرطة ودارس للإعلام والقانون الدولي وحقوق الإنسان ومؤلف لكتابين مهمين في اختصاصه. وقبل أن يجيء محافظا للدقهلية كان محافظاً لبورسعيد. وهو أحد المحافظين القلائل الذين جُدد لهم في حركة تغيير المحافظين الأخيرة. ثم إن الرجل صاحب سيرة عطرة على ألسنة الناس سواء في بورسعيد التي غادرها أو في الدقهلية التي جاء إليها قريباً. وما إن مضت الدقائق الأولى من اللقاء حتى أيقنت أنني لا أواجه, بل أحاور رجلاً واضحاً, غني النفس, عالي الثقافة والذوق. بدأت الأسئلة, وتوالت الإجابات:

ـ سيادة المحافظ هناك جريمة في حق تاريخ هذه المدينة, بل في حق تاريخ الشرق كله, فثمة إهدار وإهمال واضح لما بقى من دار ابن لقمان, ولقد وقفنا اليوم على أطلال جامع الموافي الذي يرد تاريخ هذه المدينة إلى أكثر من ألف سنة.. ثم ماذا؟

في دار ابن لقمان يتم إجراء عملية صيانة وتطوير وإنشاء. ولقد خصصنا ثلاثة أفدنة لإقامة متحف قومي للدقهلية في الحديقة الدولية غرب المنصورة ينتظر أن يفتتح قريبا. أما مسجد الموافي فلم يبق منه إلا القبة والمئذنة ولقد تمسكت بأن يدخلا في تكوين المسجد الجديد الذي يقوم به رجال الأعمال متبرعين. وستحضر لجنة متخصصة لاتخاذ القرار.

ـ المنصورة الجميلة التي عرفناها.. هل يمكن تعود؟ ماذا عن خطة التجميل التي أعرف أنها صارت صعبة في مدينة مزدحمة كالمنصورة الآن؟

المنصورة عشت فيها الأربعينيات والخمسينيات.. كانت مدينة جميلة رشيقة لكن اليوم حدثت متغيرات كثيرة.. جامعة, وسكان جدد, وهناك مناطق سكنية أضيفت للمنصورة وهي متدنية الخدمات. فالمحاور التي نستطيع تجميلها نبدأ بها. هناك كورنيش النيل السفلي سنطوره ونقيم كورنيشاً جميلاً.

ـ هل سيكون هناك نصيب في هذا للمشاة والمكان أصلا "مشاية"؟

طبعا سيكون هناك مكان للمشاة. أما الاتجاه الشرقي ـ ترعة المنصورية فسيكون هناك كورنيش جديد يبدأ من كوبري سندوب حتى "فيلا ألفونس".

ـ المنصورة مدينة ذات عمق ثقافي معروف ومنجبة لأجيال من المشاهير والموهوبين في الثقافة والفنون والآداب. أين مسرح المنصورة العريق. ومسرح أم كلثوم الذي في حاجة إلى تطوير؟.

مسرح المنصورة القومي ذهبت إليه فوجدته في حالة يرثى لها ووجدت أن المسئولية عنه شائعة وغير محددة فاتفقت مع وزير الثقافة على نقل الإشراف على المسرح إلى البيت الفني على اعتبار أنه بيت متخصص للتطوير. ومسرح أم كلثوم هناك خطة تطوير كامل له. وأفكر في عمل لوحات جدارية راقية على حائط الكورنيش. أما عن الحدائق الجديدة فأفكر بأن يكون لها طابع خاص.. تذاع بها موسيقى ولو مسجلة. وأريد إعطاء حدائق لمستثمرين في إطار محدد وشروط محددة. الثقافة دعامة من دعامات التنمية البشرية ومعها لابد ألا ننسى تقاليدنا وأعرافنا.

ـ وأنا أراجع المعلومات لم أصدق أن مساحة الدقهلية كلها 0004 كم2 يعيش عليها قرابة 5 ملايين نسمة, هذه كثافة سكانية عالية جدا.. فماذا عن المستقبل وليس هناك إلا حدود المحافظات الأخرى والبحيرة والبحر؟ أين المخرج من هذا الزحام؟.

لابد أن نمضي في اتجاهين أولا: تنظيم الأسرة, لأن مصر كلها تعيش على ما لا يتجاوز 5% من مساحتها. وأعتقد أننا في تعداد 6891 كان ترتيبنا ثالث محافظة في عدد السكان, في تعداد 6991 صارت الدقهلية الرابعة. الاتجاه الثاني: الهجرة الداخلية نحو مناطق جديدة.. ترعة السلام وترعة الحمام ستخلق مناطق زراعية جديدة يمكن إعمارها, وفي شمال الدقهلية يوجد 56 ألف فدان جار إصلاحها وإنشاء البنية الأساسية الزراعية لها لتنتج خلال سنتين. وجنوب جمصة ستكون هناك مدينة للصناعات كثيفة العمالة غير الملوثة للبيئة. وفي المنطقة على الطريق الساحلي ـ الطريق الدولي ـ الذي يربط شرق مصر بغربها بل الشرق العربي بالمغرب العربي سنبدأ بطول 01 كم فيما بين الطريق الدولي وخط مياه البحر المتوسط, نخطط لها لتكون منطقة سياحية متكاملة "مارينا لليخوت". قُرى سياحية ذات إسكان فاخر ومتوسط, سياحة رياضية وملاعب للجولف وللخيول وجزء يستغل للسياحة العلاجية إضافة للبلاجات المفتوحة للمواطن العادي. إذن هذه منطقة تنمية زراعية وصناعية وسياحية ويبقى تطوير الخدمات على طريق هذه التنمية وأولها التنمية البشرية.

ـ هل أسمي ذلك شريط الأمل في مستقبل الدقهلية؟

ألقيت سؤالي الذي لا ينتظر الإجابة, فهو سؤال يحمل كل المتحاورين على جناح الترقب والرجاء. ولقد استمر الحديث مع محافظ الدقهلية عن دور الثقافة كأداة مواجهة للمظاهر السلبية, وكان الرجل مدركا بعمق للبعد الجمالي في ترقية الأداء الإنساني. ولأن مأزق الأرض والزحام كان ناشبا في تفكيري فقد استأذنت محافظ الدقهلية في معاينة شريط الأمل المستقبلي قبل أن نغادر.

هذا.. أو البحر

في الصباح الباكر كانت إحدى سيارات المحافظة في انتظارنا, وكان هناك الأستاذ كارم والأستاذ عبدالغني من العلاقات العامة, وانطلقنا.. درنا غربا وعبرنا جسر النيل الجديد عند ميت بدر خميس, وكانت المنصورة تبدو من قمة الجسر وكأنها عقد ناصع الحبات يرصع شاطئ النيل. وعلى امتداد الطريق كانت الحقول بخضرتها المنبسطة المضيئة, وكانت هناك مصانع جديدة للمنتجات الزراعية والحيوانية على الطريق, ومصنع لقطع غيار السيارات بتوكيل من إحدى الشركات العالمية, خطوة صناعية جيدة ومتقدمة, لكن.. ألم يكن لها مكان إلا على صدر الحقول. شأنها شأن مصنع السماد الضخم الجاثم على صدر النيل قبالة شاطئ المدينة؟ إنه سؤال بيئي سيظل معلقا, لكن إجابة خضراء لاحت لنا في الأفق على مشارف جمصة, فمنطقة "قلابشو" التي رأيتها منذ عشرين سنة تقريبا, تغيرت تماما, فلم تعد تلك المساحات من الرمال التي تسفعها رياح البحر ولا يوشيها غير النخيل المتباعد وزراعات "البطيخ" المتناثرة بين الكثبان ومراتع الذئاب والعقارب الصحراوية. صارت المنطقة بحراً أخضر على مقربة من البحر الابيض المتوسط.. حقول أرز غامر, وقطن مُزهر, وغابات نخيل, وبساتين فاكهة. تنفست هواء الحقول البكر بارتياح وأمل, ثم واصلنا انطلاقنا إلى جمصة التي تغير حالها تماما.. صارت مدينة زاهرة المدخل والشوارع والأبنية. ومع رئيس المدينة المهندس مصطفى حجازي انطلقنا خارجين إلى الطريق الدولي الجديد.. نبحث عن شريط الأمل, ولقد كان هناك..

هنا ستكون المدينة الصناعية الجديدة, وهنا ستكون محطة معالجة مياه الصرف, وها هي مصادر الكهرباء ذات الضغط العالي, ومن هنا تبدأ الـ 65 ألف فدان للاستصلاح الزراعي. وعلى المدى ستمتد القرى السياحية ومراسي اليخوت وشواطئ المواطنين العاديين.

شريط طوله سبعة عشر كيلومترا هو المتنفس الأخير ليخرج أبناء المنصورة والدقهلية من عنق زجاجة الزحام, فلا شيء هناك غير البحر وبحيرة المنزلة التي طال انتهاكها بمياه صرف القاهرة الكبرى على مدى أعوام طويلة مريرة.

أخذت واقفا على أسفلت الطريق الدولي الراسخ أجول بناظري في الآفاق من حولي رمال رمادية حريرية تنتظر الماء لتخضّر, بينما في البعيد تلوح غابة النخيل وأفق حقول "قلابشو" التي كانت صحراء موحشة منذ عشرين عاما, لهذا أغمض عيني على مشهد المستقبل وأنا مصدق تماما لإمكان تحقيقه. ولابد أن يتحقق.. وإلا.. لن يكون أمام الناس غير الرمل والبحر.

 

 

محمد المخزنجي

 
 




صورة الغلاف





موقع المنصورة





سيدة الغناء العربي أم كلثوم





الأجهزة الحديثة بكلية طب المنصورة





الرعاية الصحية المتميزة بكلية الطب





مبنى كلية الطب





جامعة المنصورة مستشفى الطوارئ





حفل تخرج لطلاب كلية الطب بالمنصورة





اللواء فخر الدين خالد عبده - محافظ الدقهلية وأحد أبنائها





في ركن ضائع من هذا الميدان تختفي دار ابن لقمان





مدخل دار ابن لقمان حيث أًسر لويس التاسع ملك فرنسا





داخل الدار، حيث قضى قائد الحملة الصليبية وأعوانه فترة الأسر





"سوق الخواجات" - هكذا اسمه الشائع، لكنه واقعيا مقصد أولاد البلد





عربات الحنطور المزركشة لا تزال تعمل في ميدان الشيخ حسن





رغم الزحام وصعوباته مازالو يعرفون فرح التواصل





فرقة الموسيقى العربية بقصر ثقافة المنصورة





داليا معجزة غنائية بازغة من بلد أم كلثوم





خيول المنصورة





حقول وحياة جديدة خضراء بعثها الماء في صحراء ساحل الدقهلية





جمصة.. متنفس أبناء المنصورة على البحر.. صارت مدينة ذات طموح





جمال الطرقات في جمصة





ميدان مسجد النصر.. إضافة جمالية لمدخل المنصورة





النيل يحيط المنصورة بذزاعين من حياة وجمال، ويخرج إليه أهلها