أغوال من صنع البشر: نهاية التاريخ شاكر مصطفى

أغوال من صنع البشر: نهاية التاريخ

لست أدرى - مع أن كل السنين عندي واحدة متشابهة - لماذا يثير مجيء سنة 2000 والقرن التالي لها، بعد ست سنوات، شهية الكثيرين للتنبؤ بالمستقبل

نحن بالكاد نعرف الماضي . نتقراه باللمس ومع ذلك فعيوننا ترقب "أو ترقب حاليا بخوف" ملامح الآتي، تحسبه دبيب الأهوال. ذكرت هذا لحلقة من أصدقائي في إحدى الجلسات التي اعتدنا أن نجلسها، منذ سبعة عشر عاما إلى اليوم في الثلاثاء الأول من كل شهر وهي جلسة للثقافة والجدل والفكر. مجموع تساجيلها صار يعدل مجلدات.

وقد مالت كثرة منها إلى النظر نحو المستقبل كأننا بعض المنجمين. وهذا تسجيل لواحدة منها، على حد ذاكرتي. كان المتحدث في هذه الجلسة قد أتى بكتاب جون لوكاس "نهاية القرن العشرين" يلخص ويناقش. وما كان الحديث للجد تماما. وإنما أخذ جديته حين أوغل صديق من الحلقة، متخصص في الحشرات الدنيا فتحدث في نطاق إطاره العلمى. وسكت الآخرون. وكنت أول الساكتين. لا لأني لا أفهم في هذا الحديث إلا القليل، ولا لأن كلمة حلوة عندي ترقص ألف رقصة وتعدل حشرات الدنيا.. وبشرها. ولكن لأن صاحبنا دخل بنا في أمر طريف غريب كأنما فتح به كوة على عالم آخر. أو قلب ملفا ما خطر يوما في بالي أنه موجود! .

قال صاحبنا: يوم أعلن داروين من وراء لحيته الطويلة أن الحياة صراع للبقاء وأن البقاء للأقوى، قامت الدنيا ولم تقعد. تصدى له العلماء والأخلاقيون والسياسيون والفلاسفة ورجال الدين حتى الفنانون. لقد صدم الناس بحقيقة يعيشونها ولكنهم لا يعترفون بها، مع أن التاريخ واد طويل من الدماء، لم ينقذ جمجمته فيه إلا الأقوى!

لكن الواقع أن سلسلة المخلوقات التي نعرف من الهلاميات إلى الإنسان لا تقر قول داروين على إطلاقه. لأنها تترك بجانبه هامشا حسنا للأكثر "حيلة" وللأشد انفلاتا من الانسحاق. وأيا ما سمينا هذه الحيلة: ذكاء أو ثعلبية أو تفاهة كيان أو دقة لا تراها العين المجردة فإنها تتمرد على قانون بقاء الأقوى. داروين كان ساذجا جدا وضعيف الخيال " وإن اتهموه خطأ بالقول إن القرد هو جد الإنسان ". إنه حصر الأنواع الحية في عدة آلاف . وحاول أن يوجد بينها تسلسلا منطقيا ذا قفزات وحلقة مفقودة.

والحقيقة أن علماء التعدد البيولوجي عاجزون حتى الآن عن تحديد رقم المخلوقات. إنهم في البكتريا وحدها يتصورن أنها تزيد في الأنواع على عشرة ملايين، هذا إذا لم ننزل إلى قاع البحار ونكتشف ما يماثلها أضعافا مضاعفة من الكائنات الشديدة الدقة في وحول القاع وصخوره. فما بالك بمجتمع الكائنات النباتية والدودية واللافقرية والثديية والقشرية والحشرية والحيوانية؟.. إن الأرقام تتحدى أكثر تخيلات العلماء جرأة. ولكن مالنا ولهذا كله؟

الإنسان هو الذي يعنينا. كل الكائنات الحية مجتمعة والتي تزيد في العدد المتخيل على مائتي بليون مخلوق لا تكون سوى قشرة رقيقة على سطح الأرض لا تعدل إلا واحدا على عشرة آلاف مليون من كتلة هذا الكوكب. فماذا يعني الإنسان ضمن هذا المهرجان الهائل من الكائنات من جهة، ومن كتلة الأرض من جهة أخرى؟

ومع هذا فإننا لا نعرف 99% منها لاشكلا ولا تطورا. وماذا يعني بالذات اندثار نصف أوثلاثة أرباع هذه الكائنات الحية؟ هل يعني أنه سيأتي يوم يجرف الاندثار معه الإنسان. ونحتاج إلى نوح آخر وإلى سفينة تحمل من كل جنس نختاره فيه زوجين اثنين؟

وانبرى صديق من الحلقة قال: قربوا الحديث قليلا مما نستطيع معرفته وقياسه عن ثقة دون الغوص في عماية الجب! قربوا المنظور أكثر، إن هذا الإنسان متهم بأنه قضى على 60% من الأنواع الحية على الأرض حتى الآن. والبقية تأتي. يقولون إن العدوان الإنساني على الغابة ا لأمازونية والغابات الاستوائية يقضي وحده سنويا على 17500 نوع حيواني ونباتي من على وجه الأرض. وهذا يعني عشرة الآف ضعف مما كان عليه الحال قبل ظهور الإنسان على كرة الطين هذه.. فهل هذا صحيح؟ على هذه الوتيرة فإن ربع الطبقة النباتية والحيوانية سيختفي خلال ما بين 30 إلى 50 سنة مقبلة. فالأرض كرأسي الأقرع صحراء بلقع! إن هذا يعني أن الجنس البشري يعطي نفسه الحق في إبادة جماعية لم يسبق لها مثيل في التاريخ تتناول وجوده نفسه، وقد قضت وتقضي على ملايين الأنواع الحية دون مسئولية وهو يدفع خطى "التعرية" بسرعة لتفترس عملا قضت الأرض مليارات الأعوام في تطويره. وإذا كان الإنسان بالذات لم ينقطع عن ذلك منذ فجر التاريخ دون كبير أثر فإنهم يزعمون لك أنه في نصف القرن الأخير، ومع الزيادة السكانية وتكامل وسائل السيطرة على الطبيعة قضى على عدة أضعاف ما قضى عليه منذ فجر الحضارة. فهل هذه حقيقة منسية ضمن هذه الضوضاء، مع أنها تتناول المصير؟ أم أنها من قبيل مبالغات "التخويف" التي نرهب بها الأطفال لتستعير عيونهم حلقات؟

ورد صاحبنا عالم الحشرات قائلا: إنها كارثة فعلية، إن علماء البيئة والتعدد البيولوجي والأخلاقيين بل وعلماء التطور يصرخون لهذه الكارثة المقبلة. ولكن من ذا الذي يسمع صراخهم؟ إنه يضيع وسط ضجيج الاقتصاديين والسياسيين وجموع اللامبالين، وجماهير "ليس بالإمكان أبدع مما كان"، وعصائب المنتفعين بآبار الزيت ومناجم النحاس والمفترسين لخشب الغابات وملايين الأطنان من الأسماك، بل وجوعى العاج الثمين وهواة الصيد وأجنحة الفراش!! وماذا يعني اندثار مليون بكتريا أو رخوية أو زوال جنس من الفيلة لمن يتوافر له شاي بعد الظهر؟

الإنسان وارث الدنيا

وقال صاحب آخر: لا أرى في الأمر كارثة ولا ما يكرثون. حتى الآن كان الإنسان هو وارث الدنيا. هو الكائن الوحيد الذي ورث الديناصورات والهلاميات على السواء وسيطر على ما ينبت ويطير ويسبح. الله هو الذي حباه جهازا في أعلى الجمجمة هو لا شيء في الوزن في هذا المخلوق الذي سواه الله فأحسن صورته. نحن إنما بدأنا مع وجود الإنسان العاقل home sapians تشغيل هذا الجهاز الذي هو الدماغ جعل هذا الإنسان هو الأقوى..

وقاطعه صوت يقول: كما جعله في الوقت نفسه هو الأضعف. ألست ترى أن جرثومة تفتك به؟

وأن زمرة من الفيروس تطيح بقوامه الممدود. فليس يبدي ولا يعيد؟ إنه كائن متناقض يصنع أجهزة الدمار يقتل بها الملايين دون حساب، وينقل "كلوة" بالطائرة من قارة إلى قارة ليزرعها في جسد مريض!

يخزن القنابل النووية التي تدمر الأرض بمن عليها ويعاقب شعبا كاملا لأنه يتهم فيه شخصين اثنين مجرد اتهام. يغضي عن مذبحة عشرات الألوف من البشر في البوسنة صقيعا وجوعا وبالقنابل والحرائق ويفتح مستشفيات لمداواة الكلاب المريضة!.

فتابع المتكلم السابق قوله: هذا صحيح. وقد يكون فيه المخرج. لكني أردت أن أقول إن الإنسان كما تعرفون ليس أكبر المخلوقات حجما فقد عرفت الأرض ما هو أضخم منه بكثير. وهل ننسى تلك الهياكل العظمية التي تحتفظ بها بعض متاحفنا والتي تمتد 35 و 40 مترا ؟ وهل ننسى الحيتان والماموث وكبار الفيلة؟ وليس أقوى المخلوقات عضلة أو ضربة مخلب. فثم عدد من الحيوانات قادر على أن يجعل منه عجينة لحم ودم! وليس أطول المخلوقات ولا أعرضها. ولكنه استطاع مع ذلك أن يقلص إن لم يمح هذه المخلوقات الأضخم والأقوى والأطول، لأنه مجهز بما نسميه العقل. وأنا أسميه "جهاز إفراز الحيل". هو عدته، به وحده يتحدى المخلوقات الأخرى وينتصر عليها، ويتحدى أيضا نفسه!

وإذا كانت الحيوانات، جميع الحيوانات تقتل لتأكل. وتصبح أشد فتكا حين تجوع، والجوع كافر كما يقولون، فإن الإنسان يقتل للقتل. ويصبح أشد فتكا حين يشبع. الشبع عنده هو الكافر!!

هنا المشكلة، ومن ذا الذي يستطيع الركون إلى النوايا الحسنة وحدها؟. إن ربع سكان هذا الكوكب الأرضي ذوو رءوس ساخنة. يحملون الحراب، إنهم جنود على أكتافهم النجوم وفي رءوسهم أحلام السيطرة. هم أبناء غوبلز، لا تذكر أمامهم الثقافة أو لإنسانية إلا ويتحسس أحدهم مسدسه في خصره.

وثلاثة الأرباع الباقون خاضعون. يركعون ويسجدون لهذه الحراب في فالس خالد! بضعة ملايين ينتجون العلم والفكر والقصص والشعر والموسيقى والأدب يجرون المركبة صعدا عبر الألغام.

يبدعون الجمال يجعلون الحياة أرحب وأغنى وأرغد. وبضعة أضعاف منهم أيضا يطوفون بهم طواف الزارادشتي حول النار. والباقون أعداد. غثاء أحوى. خمسة مليارات هم مجرد أفواه تأكل وأنوف تستهلك الأوكسجين ومصانع.. روث!

وضحك ضاحك من الجمع قال: ألم تكن البشرية منذ وجدت على هذه الشاكلة؟

"رب ساع لقاعد"! "ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة"! ولو أراد أن يعمل جميع هذا البشر عقوله بطاقاتها... إذن فنحن صنف آخر مما فوق البشر. أو من العباقرة الذين قد تضج بهم الأملاك! اسألوا أهل التشريح يخبروكم أنهم يستطيعون حذف نصف الدماغ كله فلا ينقص من الإنسان ذرة عقل! لا يعنى ذلك ان نصف الدماغ فضول. ولكنه قد يعني ان نصفه مواهب. أو قدرات تنتظر! الإنسان ما كشف بعد عن طاقاته.. على كل ما كشف..

كان مدير الجلسة الوقور لايزال على الصمت حتى هذه اللحظات. قال:
موعدنا أن نبحث "نهاية القرن العشرين" وأراكم بحثتم كل شيء إلا هذه النهاية. بدأتم من آخر الطريق تريدون الوصول إلى أوله وأبعدتم المسافة حتى غرقتم في وحل القرون الأولى وعماهة الحفريات ومستحاثات البكتريا.. ورقصة العقل المسكين!

وكان أحد أفراد الحلقة ممن يقرأ كتابا كل سنة ويظل يتحدث عنه كل السنة. تنحنح أولا كأنما يريد أن يعترض أو يسهم في الحديث. وقد وجد فرجا. ثم قال:
- بول كينيدي المؤرخ..

وصحنا جميعا: بول كينيدي أيضا! يا لهذا المؤرخ المظلوم معك! هات غيره!..

تجاهل صيحتنا وأعاد قوله: بول كينيدي صاحب الكتاب الذي تعرفون "نشوء وانهيار القوى العظمى" قد لا تعرفون أن كتابه صار كلاسيكيا، لقد ترجم إلى 16 لغة. ليس بينها العربية بالطبع، ومنذ صدر 1988 إلى اليوم وهو يثير الجدل بسوداويته المفرطة. وأرى أننا زدنا بحديثنا "الأسود" عليه طبقات فوق طبقات. بدأها صاحبنا البيولوجي بعالم البكتريا والمنقرضات. وأغلق الأبواب علينا فنحن ما ندري من نحن؟ جعلنا بعضا منها!

وقال "البيولوجي": سوف ترون أن لهذا الذي ذكرت مكانه الأساسي من "نهاية التاريخ " "فمهل الكافرين أمهلهم رويدا" وإن شئتم بدأنا الحديث من آخره. بدأنا من عصرنا الذي نعيش. إنه- وقد تستطيعون الإجماع على ذلك- عصر المتغيرات الهائلة. وعصر المتغيرات الخطيرة. ولكن هل تعتقدون أنها متغيرات نهائية؟ هل وصلت حدها؟ وثبتت؟ أنا لا أعتقد ذلك. هذا المخاض العنيف الذي يزلزلنا في أواخر هذا القرن هو مرحلة انتقالية. إننا نمر منه في عصر عابر في الطريق إلى مرحلة أخرى إلى مستقبل آخر نجهله ونتقراه باللمس والمنطق. ولعل هذا هو سر الأزمة التي نعاني. وسر هذه الفوضى في الأيديولوجيات المتعارضة والأقنعة المتصادمة، وفي هذا الاضطراب الروحي الذي يتفجر وديانا من الدماء بيننا. إن ما يسمى بالنظام الدولي الجديد ما هو إلا نوع من الإكسسوارات السيكولوجية التي كانت تتهيأ منذ زمن طويل. وإنها اليوم في حالة حركة وتثاؤب وتمط. الأخطار المشتركة التي نبتت كالأنياب للموت الجماعي منذ عدة سنوات هي التي أوجدت هذا "الأمل" الذي سماه الناس سياسيا بالنظام العالمي الجديد. إنه عالمي. بلى. ولكنه ليس بالجديد. إنها تحديات انتصبت كالأغوال للإنسان بوصفه إنسانا، وأوجدت هذا الهلع العميق الذي يصيب المحكوم بالإعدام وهو ينتظر لحظته! كلنا على هذا الانتظار القلق. فهل تحدث الكارثة فجأة وينتهي التاريخ؟.

ولم أبعد بكم حين تحدثت عن بلايين الأنواع البكتيرية المنقرضة. فأنا ممن يعتقدون أن الأنواع الحية من أدقها إلى أضخمها إنما تذهب بها فجأة كارثة من الكوارث. تمحوها: هبوط أو صعود في حرارة الأرض. وباء عتي. وافد لا قبل للكائن بالتأقلم معه! ومن ذا الذي ينكر أن هذا قد يأتي على الإنسان كما أتى على الأنواع الحية التي سبقته على الأرض؟.

وقال صديق من الصامتين: قبل ربع قرن كان 70% من النوع البشري يعيش خارج العصر اجتماعيا وفكريا، وخارج دائرة الكفاف الاقتصادي. وقد ارتفع الرقم الان إلى 82%. فهل ينفجر الرقص المأسوي ويأتي اليوم الذي يأكل فيه الجياع العالم؟ ليس السؤال مجرد تمرين أيديولوجي كتمارين الحساب في الهواء! ولكنه واقع استراتيجي يدرج على الأرض. إن السؤال الآن هل يعمل الإنسان حقا على أن ينقرض جنسه؟

تماما كما كان الكلى الرحمات جحا يجلس على غصن الشجرة ويعمل به قطعا؟ هل ننتظر حفلة انتحار جماعي فالأجساد تتقصف بعضها فوق بعض. وتهوي ولا قطرة دم؟ وهل هذه في تصورك نهاية التاريخ والبشر؟ إن المسافة التراجيدية بين البقاء والانقراض ضيق حتى لتصبح أحيانا كالصراط الذي يصفون: أرفع من الشعرة وأحد من السيف. والإنسان لا يجتازها على هون ولكن في مثل رقص البهلوان. وقد لا يكون الإنسان المتخلف وحده هو الضحية، ولكن الإنسان الذي وصل إلى قمة التقدم سيكون معه أيضا على الوهم! ولكن لماذا أصبحنا مزروعين فى القلق.. مسكونين بما لا ندري من أبالسة الجحيم؟

المعرفة سلاح ذو حدين

واستأثر بالحديث حتى النهاية، جليس طرأ على حلقتنا لأول مرة فقال:

السبب هو توسع المعرفة. إنها سلاح ذو حدين فإذا كانت تزيد الإنسان علما فإنها تزيده رعبا.

ذو العقل يشقى في النعيم بعقله... وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم إن الإنسان مسحوق بالأخطار التي يتوقع أكثر من الأخطار التي وقعت. وكلما اكتشف الإنسان خطرا ضخّمه وهوله حتى لتحسب أنه سيفترس الدنيا. المبالغة لعبة نفسية وقائية معروفة والذين يمارسونها هم أول الكافرين بها. إن الإنسان- لسوء الحظ أو لحسنه لست أدري- أضحى باعتماده على التكنولوجيا لا على القوة الذاتية أكثر حذرا على الحياة، وبالتالي أكثر جبنا أمام "الأغوال" التي تطلق كل يوم حوله. القتل عن الذي ابتكره البشر مع ظهور البارود والذي بلغت به التكنولوجيا اليوم حده النووي جعل الناس يخافون الموت لا بالتكنولوجيا وحدها- فقد أرعبتهم القنبلة الذرية بما فيه الكفاية فيما أعتقد- ولكن بالأغوال الأخرى التي خلقتها زيادة المعرفة والتي تساعد الطبول الإعلامية، من قبيل الإثارة، على توزيعها حتى في لفائف الأدمغة والصدور، وحول الموكب الإنساني كأنها قدره الأخير.

صحيح أنها حقائق ولكنها صغيرة ينفح فيه الوهم فإذا هي أغوال تريد أن تنقض عينا حمراء ومخلبا ذابحا، أو كوارث عملاقة تضع حدا لآخر نفس في الحياة.. ولكن هل هي بمستوى خنق البشر. كل البشر؟ هل هي من الجبروت والسعة بحيث تمحو الجنس الإنساني وتضع نهاية للتاريخ؟ هذا هو السؤال الذي يجب أن نواجهه.

أما أنا فلا أعتقد أن كوارث ماحقة قريبة. إلا أن يشاء الله. ويوم القيامة أبعد بكثير من مدى أعمارنا وأعمار أحفادنا وأحفادهم. لننس الذين يتحدثون عن تبرد هذا الكوكب السيار او عن تسخنه لدرجة لا تعود الفيزيولوجيا الإنسانية قادرة على الصمود لبرده الشديد أو حره المتزايد- والإنسان إنما يعيش ضمن حدين أقصيين من الحر والبرد لا يمكنه ولا يستطيع الحياة إن تجاوزهما- كل من التبرد أو التسخن المتزايد يحتاج إلى عشرات الملايين من السنين.

وما نحن وهذه الملايين؟ ولا خطر قريبا من أن يتحول كوكبنا الأرضي في مدى قرنين أو ثلاثة إلى كوكب ساخن جدا كالزهرة و بارد جدا كالمريخ.

ولننس أيضا إمكان اصطدام كوكب أو نيزك شديد الضخامة بالأرض فليس من دلائل على ذلك ولكنهم يذكرونك بأهوال فتحة الأوزون وتوسعها. فإذا كانت منذ اكتشفت قبل أربعين سنة إلى اليوم لم يشعر البشر إلا بأثرها الإعلامي فكم يجب أن ننتظر لتكون كارثة تمحق البشر؟

ويتحدثون عن الانفجار السكاني وكأنه اسم آخر لمجموعة القنابل الهيدروجينية.

يقولون إن سكان المعمورة سيبلغون عشرة آلاف مليون بعد خمسين سنة. ويحملون منذ الآن هم إطعام هذه الأفواه والمعد. ويضحك مالتوس سعيدا بهذه الأخبار. ألم يقل يتم ذلك قبل قرنين؟

ألم ينذركم بعصر الجياع؟ على أن الكارثة هنا وحيدة الطرف. إنها كارثة قسم من العالم هو ما يسمى بالعالم الثالث والرابع معه. والتكنولوجيا الحيوية سوف تعمل على إنتاج كميات لا حدود لها من الأطعمة ولكن لمن يملكونها في العالم المتقدم: وسوف تتكامل هندسة الوراثة والجينات وعلم الأعصاب وتطول الحياة وتزداد نسبة الذكاء الإنساني.. ولكن كل ذلك في العالم المتقدم وحده. آلاء التقدم، عند اللحظات الحاسمة، لن تكون للبشرية كلها. ولن يعطيها المتقدمون هدية بالمجان للمتخلفين. الخيار الوحيد أمام هؤلاء هو أن يتحولوا إلى مسطح من العبيد "أو في أحسن الأحوال من الشحاذين" أو هو.. الموت على الأرصفة!

التدمير البيئي

ويتحدثون حتى الرعب عن التدمير البيئي وعن التلوث.. صحيح أن أنوف المعامل الدخانية وسمومها في الأجواء وعلى شواطىء البحار والنفايات النووية دمرت بقاعا من البيئة الإنسانية بسرعة أكبر مما كانت تدمر في السابق. ولكن لننظر في امتداد الوجود الإنساني على الأرض. ألم يكن مجموع هذا الوجود أكثر عددا بكثير. وبالتالي أكثر تدميرا في جملته بكثير مما يتم اليوم؟

ومع ذلك فقد تجاوزته الأرض دون أثر كبير أو على الأقل دون أثر نحس به، بدليل وجودنا نحن الآن عليها. ففيم التهويل وحديث الثبور وعظائم الأمور؟ لا يعني هذا أبدا عدم مكافحة التلوث والملوثين. ولكن هل يمكن للإنسان أن يترك التلوث يتراكم لدرجة الاختناق به؟ أهو من الغباء بحيث يسلم روحه كالنعاج طائعا لما يذبحه؟ وكذلك شأن التصحر المتمادي. أنه بكل تأكيد لم يبدأ اليوم ولا في هذا القرن.

إنه نتيجة تحول مناخي طويل الأمد جدا. وبين ماضيه ومستقبله عشرات الألوف من السنين فما معنى إذن "وضع الحزن في الجرن" والإلحاح على نصبه أمام الأعين بوصفه كارثة تبتلع الخضرة وأزهار الربيع؟

ويحدثونك عن "الإيدز" وانتشاره الوبائي الرهيب وعن ضحاياه التي يمضون بها إلى 20 مليونا، فما هي الملايين العشرون والثلاثون في مسيرة إنسانية سوف تبلغ عن قريب جدا ستة مليارات؟ وإذا نسينا أن الطبيعة- كل يقول بعضهم- تدافع عن نفسها.

فهل نسينا أن البشرية عرفت من الطواعين والأوبئة الكاسحة ما ذهب بنصفها. حتى يوم طوفان نوح حمى الله فيه البشر والحيوان وحمل نوح في السفينة من كل زوجين اثنين وأنقذت الحياة من الغرق الأعظم!

لقد تحدثتم عن نكبات الإنسان للكائنات الصغرى. وهذا حق. واحسب أنكم كنتم تريدون الوصول إلى القول بأنه يحوم على نكبة "أو نكبات" يمحو بها وجوده. ولكني أظل أعتقد أنه أعقل أو أمكر بكثير من أن يفعل. ولو أنه عاصر أسر الديناصورات الأولى ذات الكروش البالغة الضخامة والطول الذي يمتد 35 مترا لحاربها ومحاها، على الأغلب رءوسها البالغة الصغر لا تقوم لعقله. ولقد تكون تلك الحيوانات انقرضت بكارثة جيولوجية كبرى، أو بقتال بعضها لبعض، أوبتفشى وباء محاها.

ولكنها انقرضت فجأة في سنين. وقد ذهبت وبقي على الأرض من عهودها الحوت و الماموث والأفيال والأفاعي الضخمة والإنسان صاحب العقل "جهاز إفراز الحيل" لا يعدم الحيلة التي يناور فيها الكوارث. وقبل أن ينتهي به التاريخ فلا بد أنه سوف يستنفد كل حيلة للبقاء وهل تنفد الحيل؟.

الديناصور الإنساني

كل ما أردت أن أقول أن نبوءات المتشائمين من حقها أن تقرأ على القبور لا بين الأحياء.

ولا أؤمن بأن القرن المقبل هو قرن النكبات المبيدة "للديناصور الإنساني". وإنه لديناصور في قواه العقلية وفي تمسكه بالحياة، إن البشر أعمق جذورا في الأرض من أن تقتلعهم العواصف الصغيرة حتى لو ظهرت أمثالها أضعافا من بعد. بلى! سوف يكون القرن المقبل معقد الحياة كقنطار من الحرير في جبل من الشوك. ألف صرخة نكباء قد تخترقه وألف نذير ينعق فيه. ولقد تشتبك فيه حياة بني البشر، مع تنامي الاتصالات، حتى لا تكاد تجد فيه مكانا حميما لنجوى صديقين، أو لشكاية عاشق..، لقد تبلغ التكنولوجيا حد السفر حتى حافة المجرة، ولقد تتفشى بكتريا وبائية أكثر هولا من كل ما عرف البشر، ولقد تصنع أسلحة نووية أكثر تدميرا مليون مرة، كل كشف علمي ممكن، كما أن كل قارعة ممكنة.

ولكن لن يكون ذلك نهاية التاريخ! فسوف يبقى على الأرض مكان لجماعة بشرية تتابع طريق الحياة. ولكن أطمئنكم فأنا أعتقد بعكس ما تعتقدون، أن القرن الآتي سيبدأ بفوضى كبيرة في القوى أو في تصارع القوى. سيبدأ وعلى جبين الولايات المتحدة تجعدات العجز، وقد اشتعل الرأس شيبا.. وبدأ الخور!

وصاح بعض حضور الجلسة: وكيف هذا التنبؤ؟ لكن المتحدث أكمل حديثه، وكأنه لم يسمع شيئا. قال:

لقد سبق في التاريخ ان فتح الإسكندر المقدوني العالم. وسبق أغسطس الروماني فكان إمبراطور العالم المتمدن. وكان اثيلا غضب الله على الأرض وانفرد أو كاد عبدالملك بن مروان أو ملك شاه السلجوقي بالقوة العالمية. وتسلط جنكيز خان على البشر فهو قائد الدنيا المعروفة، وملك شارلكان الإسباني نصف أوربا ونصف الأمريكيتين حتى الفلبين، ملكها ملك اليمين. وما من أحد من هؤلاء ترك بصمته على الأرض. وأنا موقن أن الولايات المتحدة أوليتها طارئة، مؤقتة. إنها تمارس قواها التكنولوجية الجبارة ضد القوى الصغرى في العالم الثالث. وتعجز في حين تأتيها التحديات الخطرة من أقصى الشرق الصيني الياباني ومن قلب أوربا الذي يمور. صحيح أنها تنفرد الآن بالقرار السياسي، تفعل ما تشاء وتسوق المنظمات الدولية حيث تريد كما تشرد بالموكب البشري، تقوده قيادة النخاس لقافلة العبيد- لكن يجب أن نعرف أن الخلل يضرب في عمودها الفقري. إنها الآن في فترة وصلت فيها أزمتها الاقتصادية الي مفترق حاد خطير.

فهي كالذي يعرف أنه مأكول بتصلب الشرايين ويصر على الرياضة العنيفة! إن أزمتها لا تسمح ولن تسمح لها بالوفاء بالتزاماتها "كبوليس للعالم" بعد أن أنفقت في الحرب الباردة على مدى أربعين سنة مئات الاف المليارات من الدولارات وآخرها محاولة حرب النجوم. وإذا اعتقد الأمريكيون أن تمزق الاتحاد السوفييتي سيعطيهم الفرصة لالتقاط الأنفاس بأقل كلفة ممكنة، فقد اكتشفوا بسرعة، وتحت وطأة الأزمات المتفجرة من هاييتي إلى الصومال ومن الأفغان إلى البوسنة إلى كشمير وجورجيا، وأمام تنامي القوى الشرقية الحرون وتحرك أوربا، أن تخفيض النفقات العسكرية لمعالجة النقص في ميزان المدفوعات- على مذهب الرئيس كلينتون- سيؤدي حتما إلى تقليص دورهم العالمي.

وإذا احتفظوا بهذه النفقات حتى بمستواها الحالي فمعنى ذلك إفلاس الاقتصاد الأمريكي، إنه لن يتوقف نموه فقط، ولكنه سيتحول إلى اقتصاد سلبي وفي الحالين هو الأفول، لا على الطريقة السوفييتية بالتمزق ولكن بالانفجار الذاتي.

إن قوى الإنتاج التي يصعب تدجينها أو إلجامها، ومكننة المصانع والآلات وإدخال الكمبيوتر عليها سيؤدي لا إلى تراكم الإنتاج فقط ولكن إلى الكساد فلا سوق له. وعند ذلك تأتي الطامة الكبرى، ويأتي عالم الفوضى!..

وتطور الحديث إلى السياسة وانفرط عقد الحلقة بعد قليل وخرجنا وفي رأس كل منا آلاف من البكتريا الحية والميتة مع قبضة من الأسئلة والمشاكل وقال أحدنا متعبا:

- كأننا كنا نقرر مصير العالم! لماذا لا تدعون ما لقيصر لقيصر وما لله لله؟

 

شاكر مصطفى

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات