الثقافة العربية وعصر المعلومات

الثقافة العربية وعصر المعلومات
        

حقا.. نحن نواجه عالما زاخرا بالمتناقضات, يتوازى فيه تكتل دوله مع تفتت دويلاته, ولا يفوق نموه الاقتصادي إلا زيادة عدد فقرائه

          أولا: العرب وحوار الثقافة والتقانة
           1 : 1 نهايات وما بعد يأتي في البداية, ليكن حديث النهاية. وليس ثمة تناقض في ذلك مع عصرنا هذا الذي نسعى هنا إلى تمثله, عصر يلهث فيه قادمه يكاد يلحق بسابقه, وتتهاوى فيه النظم والأفكار على مرأى من بدايتها, وتتقادم فيه الأشياء وهي في أوج جدتها, عصر تتآلف فيه الأشياء مع أضدادها. فالمعرفة ـ على سبيل المثال ـ قوة والقوة أيضا معرفة, معرفة تفرزها هذه القوة لخدمة أغراضها وتبرير ممارساتها وتمرير قراراتها.

          يا له من مخاض عسير حقا, ذلك الذي تمر به البشرية وهي على أعتاب مجتمع المعلومات, ومع رهبة الولوج إلى هذا العالم المغاير المثير والمخيف, يحلو حديث النهايات وما البعديات (أمثلة لنهايات: نهاية التاريخ ـ نهاية الدولة ـ نهاية القومية ـ نهاية المدرسة, أمثلة لما بعديات: ما بعد الصناعة ـ ما بعد الحداثة ـ ما بعد الكتابة ـ ما بعد البترول).

          2 : 1 عن ظاهرة الإنترنت

          نظرا إلى التطور السريع لشبكة الإنترنت, فسبيلنا إلى استيعاب الظاهرة هو تعقب توجهاتها المحورية, من المنظور الثقافي ـ المعلوماتي, التي من أهمها من وجهة نظر الكاتب:

          ( أ ) من المنتدى العلمي إلى سوق التجارة الإلكترونية: كانت الإنترنت ـ في بداية نشأتها ـ بمنزلة المنتدى العلمي للربط بين المؤسسات الأكاديمية كالجامعات ومراكز البحوث, وسرعان ما أدركت القوى الاقتصادية التقليدية المزايا العديدة لهذه الشبكة, يكفينا منها هنا قدرتها الفائقة على ربط مصادر الإنتاج بمنابع الطلب, وكونها وسيلة فعالة لنقل بضائع صناعة الثقافة, عبر طرق معلوماتها الفائقة السرعة.

          لقد سيطرت التجارة الإلكترونية على الإنترنت, وأصبحت بنيتها الأساسية رهنا بما يقدمه تجارها من دعم في صورة إعلانات مباشرة وغير مباشرة. وعلينا نحن العرب ألا نذعن إلى استقطاب الشبكة نحو أمور التجارة الإلكترونية, أو اعتبارها مجرد مقهى للدردشة وساع للبريد الإلكتروني, وأن نتمسك بمهمتها الأصلية في توفير موارد المعلومات اللازمة للإسراع من عملية التنمية الشاملة والمستدامة في وطننا العربي.

          (ب) من تبادل البحوث إلى تسليع الثقافة: تسعى المؤسسات الاقتصادية إلى إكساب المنتج الثقافي والإبداعي طابع السلعة التجارية, وبالتالي إلى إعادة تشكيل المؤسسات الثقافية في القالب النمطي للتصنيع والتنظيم الاقتصادي. كما هو معروف تقوم صناعة الثقافة على ثلاثة مقومات رئيسية هي: المحتوى content الذي يمثل مواد التصنيع المعلوماتي ومعالجة المعلومات التي تمثل أدوات الإنتاج, وشبكات الاتصالات التي تمثل قنوات التوزيع. وفي هذا الإطار, علينا أن نضع نصب أعيننا أن أهم مقوم في تلك الثلاثية هو ذلك الخاص بالمحتوى, والذي يعني في حالتنا موارد تراثنا الرمزي, من نصوص وموسيقى وأفلام وقواعد بيانات, وكذلك الطاقات الإبداعية الخلاقة القادرة على إبداع المحتوى الجديد.

          (ج) من النصوص إلى التناص, ومن الخطية إلى التشعب: أتاحت تكنولوجيا معالجة النصوص آليا أدوات فعالة للحرث طولا وعرضا في متن النصوص, وتحليل مضمونها, وهكذا تم تحرير النصوص من قبضة تلك الخطية linearity الصارمة التي فرضها عليها جمود الورق وثبوت الطباعة; فليست النصوص كما تبدو ـ في ظاهرها ـ تلك السلاسل المتعاقبة من الحروف والكلمات والجمل والفقرات, بل هي ـ في جوهرها ـ شبكة كثيفة من العلاقات المنطقية والتركيبية والموضوعية. وهي العلاقات التي تتجلى في صور مختلفة من القرائن اللغوية, معجمية وصرفية وتركيبية ونحوية ودلالية ومقامية. حتى يمكننا تتبع مسارات هذه الشبكة من العلاقات, استحدثت تكنولوجيا معالجة النصوص ما يعرف بتكنيك (حلقات التشعب النصي hypertext). لقد قضى هذا التكنيك على خطية السرد النصي; حيث يمكن من خلاله الربط بين أي موضع وآخر داخل النص أو الوثيقة, ويمكن كذلك الربط بين الوثائق الإلكترونية لاقتفاء مسارات تناضها inter textually.

          ( د ) من الباحث البشري إلى الوكيل الآلي الذكي: لقد فتحت الإنترنت بوابات الفيضان المعلوماتي على مصاريعها; لتصبح مشكلة الإفراط المعلوماتي, أو حمل المعلومات الزائد information overload, من أخطر المشاكل التي نواجهها حاليا. وأصبح في حكم المؤكد استحالة التعويل على الوسائل البشرية وحدها لمسح الشبكة دوريا بحثا عن المعلومات المطلوبة, وكان لا بد من أتمتة هذه العملية; وذلك باللجوء إلى ما يسمى بالروبوت المعرفي knowbot, أو البرمجي softbot, بصفته (وكيلا آليا) يحال إليه القيام بهذه المهام الروتينية الشاقة, وعلى ما يبدو, فنحن لن نواجه, في معركتنا الثقافية الضارية على ساحة الإنترنت, أفرادا ومؤسسات فقط, بل جيوشا جرارة من روبوتات المعرفة تقتحم علينا مواقعنا عبر الشبكة, وعلينا أن نفكر من الآن: كيف نحصن مواقعنا من هذا (التطفل الإلكتروني), ونحرس تراثنا بحيث لا ينهب في غيبة منا من قبل (زوار الليل الجدد).

          ثانيا: ثقافة اللغة: منظور عربي - معلوماتي
          1 : 2 اللغة: ذلك الشائع المجهول

          يزخر العالم بآلاف اللغات, وكل لغة تحمل العالم في جوفها. واللغة هي الهواء الذي نتنفسه, وهي حولنا تحيطنا من كل حدب وصوب, فهي وسيلتنا لإدراك العالم, وواسطتنا التي تحدد المسافة بيننا وبين واقعنا. وأداة تعاملنا مع هذا الواقع, ونظرا إلى شيوعها وشموليتها, فهي مسئولية الجميع: مسئولية المجمع والجامع, ومؤسسات التربية وأجهزة الإعلام والمنظمات الثقافية. يقول أهل النسبية اللغوية: (لغتي هي عالمي, وحدود لغتي هي حدود عالمي), وهو نفسه ذاك العالم الذي انتزعه محمود درويش ممن أرادوا أن يسلبوه إياه, فارضين عليه أن يفارقه, حاملا معه (لغته) تحمل معها (عالمه). لقد قرر شاعر الأرض السليبة أن يكون (وطنه هو حقيبة سفره), وليس هناك خير من اللغة زادا لسفره هذا, فاللغة هي الذات وهي الهوية, وهي أداتنا لكي نصنع من المجتمع واقعا. اللغة العربية ـ بلا شك ـ هي أبرز ملامح ثقافتنا العربية, وهي أكثر اللغات الإنسانية ارتباطا بالهوية.

          يقر الجميع أننا نعيش أزمة لغوية طاحنة, تفشت حتى كادت تصبح عاهة ثقافية مستديمة.

          ويعكس جهد الإصلاح اللغوي في القرن الماضي, وخطابنا اللغوي الراهن, قصور معرفتنا بلغتنا, ويرجع ذلك إلى أسباب عديدة, من أهمها في رأي الكاتب:

  • عدم إلمام الكثيرين لدينا بالجوانب العديدة لإشكالية اللغة, حيث يقتصر تناولنا لهذه الإشكالية ـ في أغلب الأحوال ـ على الجوانب التعليمية والمصطلحية.
  • قصور العتاد المعرفي لمعظم منظرينا اللغويين, بعد أن أصبحت مسألة اللغة ساحة ساخنة للتداخل الفلسفي والعلمي والتربوي والإعلامي, بل التكنولوجي أيضا.
  • خطأ التشخيص لدائنا اللغوي, فتارة يوجه الاتهام إلى مدارسنا, وتارة إلى مجامعنا, وتارة أخرى إلى إعلامنا, بل وصل الأمر بالبعض إلى إدانة اللغة العربية نفسها; تحت زعم أنها تحمل بداخلها كوامن التخلف الفكري والعجز عن تلبية مطالب العصر. ويا له من اتهام جائر لهذه اللغة الإنسانية العظيمة.

          2 : 2 تعاظم دور اللغة في عصر المعلومات

          تلعب اللغة في مجتمع المعلومات دورا أكثر خطورة عن ذي قبل, ويمكن إرجاع ذلك إلى عدة أسباب رئيسية هي:

          ( أ ) محورية الثقافة في منظومة المجتمع, ومحورية اللغة في منظومة الثقافة: أكدت اللغة, بفضل المتغير المعلوماتي كونها, محور منظومة الثقافة بلا منازع في الوقت نفسه, ونتيجة لذلك, فقد أصبحت معالجة اللغة آليا بواسطة الكمبيوتر هي محور تكنولوجيا المعلومات, خاصة أن اللغة هي المنهل الطبيعي الذي تستقي منه هذه التكنولوجيا أسس ذكائها الاصطناعي, والأفكار المحورية للارتقاء بلغات البرمجة.

          (ب) الأبعاد اللغوية لظاهرة العولمة: سواء كانت العولمة وفاقا أم صراعا, فللغة ـ في كلتا الحالتين ـ شأن خطير. فإن كانت (وفاقا), فاللغة ذات شأن جليل في حوار الثقافات. أما إن كانت العولمة (صراعا). فقد جاءت الإنترنت لتفتح بوابات الفيضان أمام تدفق معلوماتي هادر تطغى عليه اللغة الإنجليزية; وهو الأمر الذي أثار الفزع لدى جميع الأمم غير الناطقة بالإنجليزية.

          ( ج ) تواصل لغوي أوسع نطاقا وأكثر تنوعا: تشير جميع الدلائل إلى أن التواصل عن بعد, عبر الوسيط الإلكتروني, سيقلب, مفهوم التواصل اللغوي الذي اعتدنا عليه رأسا على عقب.

          ثالثا: ثقافة التربية: منظور عربي - معلوماتي
          1 : 3 عن التربية وأهميتها

          يشهد التاريخ, قديمه وحديثه, على محورية التربية في صنع الإنسان وبناء المجتمع. وقيمة الإنسان هي حصاد معارفه, وحضارة المجتمع ـ بدورها ـ هي المحصلة الجامعة لمعارف أبنائه التي وهبتها إياهم التربية, ولم يكن هذا الحديث عن أهمية التربية أخطر مما هو عليه الآن, والبشرية تغامر بمصيرها, مندفعة صوب مجتمع المعلومات. وإزاء هذا الوضع الإنساني الفريد, تعالت الأصوات تنادي بثورة اجتماعية شاملة على جميع الأصعدة, وثورة التربية ـ كما قيل ـ هي شرط لكل ثورة. وكما نه لا خلاف على الأهمية الاجتماعية للتربية, فليس هناك ـ في المقابل ـ وفاق على طبيعة علاقة التربية بالمجتمع; فتارة هي المحرك الدافع لمجتمعها, وتارة أخرى هي ذلك الخاضع المستكين لأهواء من يقبض على زمام الأمور في المجتمع.

          وأزمة مجتمعنا العربي المتفاقمة هي ـ في جوهرها ـ أزمة تربوية كما خلص إلى ذلك عبد الله عبد الدايم, وليس لنا سوى التربية مخرج لانتشال أمتنا العربية من أزمتها الراهنة.

          2 : 3 الغايات الأساسية لتربية عصر المعلومات

          تسعى كل فلسفة تربوية إلى تحديد غايات التربية, وعليها أن تجيب, في شأن ذلك, على سؤالين محوريين:

          السؤال الأول: لماذا نعلم وتتعلم?

          السؤال الثاني: ما مواصفات الإنسان نتاج التربية المنشودة?

          وقد أورد تقرير اليونسكو (التعليم ذلك الكنز المكنون) الغايات الأربع لتربية عصر المعلومات والتي صاغها على الوجه التالي:

          تعلم لتعرف: تختلف عملية اكتساب المعرفة في عصر المعلومات عن سابق سيرتها قبله وذلك في أمور عدة أساسية هي: كيف تعرف? لا: ماذا تعرف? ـ تكامل المعرفة واتساع نطاقها ـ مداومة اكتساب المعرفة من خلال التعلم مدى الحياة ـ الصمود إزاء تعقد معظم ظواهر الواقع في مجتمع المعرفة.

          تعلم لتعمل: وهي غاية تتطلب التعامل مع عالم الواقع وعوالم الفضاء المعلوماتي cyberspace علاوة على سرعة التجاوب والقدرة على التحاور مع فصائل الكائنات الذكية من أصحاب (العقول السيلكونية) ذات الذكاء الاصطناعي, علاوة على التكيف مع أطوار العمل المختلفة: العمل عن بعد ـ العمل الجامعي والعمل أثناء التنقل أو الحركة.

          تعلم لتكون: يقصد بشعار (تعلم لتكون) تنمية الفرد بدنيا وذهنيا ووجدانيا وروحانيا, والتي تتطلب إضفاء العامل الشخصي على عملية التربية وتنمية ملكة الحكم على الأمور وتنمية الشعور بالمسئولية الفردية.

          رابعا: ثقافة الإعلام: منظور عربي - معلوماتي
          1 : 4 عن ثورة الإعلام والاتصال

          الإنسان - كما قيل - حيوان اتصالي, ولا تقوم للمجتمع الإنساني قائمة دون نظام للاتصال, الذي اعتبره البعض شرطا من شروط بقاء الكائن البشري. وتاريخ البشرية, من عصور نقوش الأحجار إلى بث الأقمار, يمكن رصده متوازيا مع تطور وسائل الاتصال التي تربط بين الأفراد والجماعات.

          لقد ظن البعض خطأ أن إعلام عصر المعلومات ما هو إلا مجرد طغيان الوسيط الإلكتروني على باقي وسائط الاتصال الأخرى, لكنه ـ في حقيقة الأمر ـ أخطر من ذلك بكثير; فالأهم هو طبيعة الرسائل التي تتدفق من خلال هذا الوسيط الاتصالي الجديد, وسرعة تدفقها وطرق توزيعها واستقبالها. لقد ساد الإعلام ووسائله الإلكترونية الحديثة ساحة الثقافة, حتى جاز للبعض أن يطلق عليها: ثقافة الميديا, وثقافة التكنولوجيا, وثقافة الوسائط المتعددة.

          يعيش إعلامنا العربي صدمة إعلامية على مختلف المستويات: السياسية والتنظيمية والفنية, فليس بالأقمار الصناعية والقنوات الفضائية وأحدث المطابع الصحفية وحدها يحيا الاتصال في عصر المعلومات. وعلينا أن نقر بأننا لم نرصد بعد مسارات الخريطة الجيو ـ إعلامية الحديثة. لقد فقد إعلامنا العربي محوره, وأضحى مكبلا بقيود ارتباطه الوثيق بالسلطة, تائها بين التبعية الفنية والتنافس السلبي على سوق إعلامية وإعلانية محدودة.

          نستعرض في هذه الفقرة التوجهات الرئيسية لتكنولوجيا الاتصال من منظور ثقافي, والتي تشمل:

          من الإعلام إلى الاتصال: إنه التواصل بمعناه الواسع, الذي لا يقتصر على إبلاغ الرسائل, بل يتجاوز ذلك إلى مهام التعليم والتعلم والترفيه واسترجاع المعلومات, ويشمل ـ أيضا ـ التراسل عبر البريد الإلكتروني, والتحاور والتسامر من خلال حلقات النقاش وعقد المؤتمرات عن بعد.

          نحو مزيد من أجهزة المعلومات النقالة: فرضت الحياة العصرية على الإنسان أن يظل على اتصال دائم ومباشر بمصادر معلوماته, وأماكن عمله ومعيشته; وهو الأمر الذي أدى إلى التوسع في أجهزة المعلومات النقالة, ومن المتوقع أن تنتشر هذه الأجهزة في كثير من البلدان العربية تماما كما انتشر الهاتف المحمول. وسيظل التساؤل هنا: ما جدوى اقتناء هذه البدع من الأجهزة الإلكترونية النقالة إذا ما ظل استخدامنا لها محصورا في تلك الأمور الثانوية دون الاستفادة الحقيقية من إمكاناتها العديدة?. خاصة في ظل الاندماج المرتقب بين التليفزيون والإنترنت والجيل الثالث من الهواتف النقالة.

          خامسا: منظومة القيم والمعتقدات: منظور عربي معلوماتي
          1 : 5 عن هذا الفردوس المفقود

          ما أشد ثقة العلم بنفسه, وقد ازداد غرورا وصلفا بعد ما سجله من انتصارات, وتسرع التكنولوجيا خطاها تلهث. نراها تضيف كل يوم جديدا إلى رصيد إنجازاتها.

          لقد بدا لنا الكون وكأنه خاضع لفكرنا, تقوده إرادتنا لغايات محددة, واسترخينا تحت وهم يصور لنا العلم والتكنولوجيا قوة طوع أيدينا وتحت سيطرتنا, ويا له من وهم ساذج; فليس لنا اليوم حياة مستقلة بمنأى عن سيطرة هذه التكنولوجيا الآسرة. لقد قامت حياتنا المادية على تكنولوجيا غاية في النجاح, في حين تئن حياتنا الروحية تحت وطأة الخواء; فقد ألهتنا هذه التكنولوجيا بقدرتها الفائقة على إحداث التغيير, فنسينا ما بقى ـ وسيبقى دوما ـ ثابتا بداخلنا دون تغيير.

          لا بد وأن يختلف موقفنا من علاقة الدين بالعلم والتكنولوجيا عن موقف الغرب منها; لعدة أسباب من أهمها:

  • عدم حسم كثير من الأسئلة المتعلقة بعلاقة الدين الإسلامي بالحداثة.
  • لا يمثل العلم والتكنولوجيا في العالم العربي, ـ حاليا ـ الثقل اللازم لكي يكون طرفا متكافئا في المعادلة الدينية ـ العلمية
  • بينما يبحث الغرب عن قيم جديدة يواجه بها عصر المعلومات, نجد أن شاغلنا الأساسي, هو كيفية الدفاع عن قيمنا ضد الخطر الوافد عليها من الغرب.

          2 : 5 عن أسلمة المعرفة

          يتردد كثيرا استخدام مصطلح (أسلمة العلوم), إلا أننا فضلنا عليه مصطلح (أسلمة المعرفة); حيث يتوسع البعض في نطاق الأسلمة ليشمل, بجانب العلوم الطبيعية والإنسانية, التكنولوجيا والفنون والفلسفة. يمكن القول بصفة عامة: إن هناك توجهين رئيسين للأسلمة:

          التوجه الأول: وهو لا يفرق بين علوم الدين والدنيا, (فلا معنى في ديار الإسلام لمثل هذه التفرقة). وفي تصورنا, يمكن تفريع هذا التوجه إلى توجهين فرعيين: أحدهما, يتبنى فكرة أسلمة جميع فروع المعرفة انطلاقا من الصفر, والثاني ينظر إلى أسلمة المعرفة نظرة انتقائية, تقوم على مبدأ العمل المزدوج; ترشيح المعرفة المستوردة مما يتناقض مع عقيدتنا وقيمنا من جهة, وتعزيزها بما تتطلبه هذه العقائد وتلك القيم, من جهة أخرى.

          التوجه الثاني: يفصل بين علوم الدين والدنيا, ونفرعه كسابقه إلى توجهين فرعيين, أحدهما يتبنى مبدأ: استيراد التكنولوجيا من دون الأيديولوجيا, والثاني يتبنى مبدأ حصر الأسلمة في نطاق العلوم الإنسانية دون العلوم الطبيعية.

          سنناقش فيما يلي كلا من هذه التوجهات الأربعة مسجلين ـ بداية ـ تحفظنا عليها جميعا:

          فيما يخص توجه الأسلمة الشاملة لجميع فروع المعرفة, فمن الواضح أنه أكثر توجهات الأسلمة طموحا. يقوم توجه الأسلمة الشاملة, على أساس صلاحية الإسلام لكل مكان وزمان, وعلى أن الأصول الإسلامية الثابتة وحدها كفيلة بإحداث الثورة العلمية, وينطلق من اعتبار النص القرآني, مصدرا علميا دقيقا وشاملا. ينطوي هذا التوجه على تناقضات عدة, مع نفسه ومع خارجه على حد سواء. يمكن تلخيصها على الوجه التالي:

  • تناقض تاريخي: مع ما أكدنا عليه من قدرة الإسلام? لغته ومعرفته وقيمه, على التعامل مع معرفة الآخرين واستيعابها, والتي تجلت بوضوح أثناء الفتح الإسلامي.

          تناقض معرفي: فعادة ما ينطلق العلم من نظريات فلسفية جامعة, وليس لدينا من هذه الصروح الفكرية ما يمكن أن نقيم عليه علوما خاصة بنا, ويخشى مع هذا إهدار الوقت والجهد في الاشتباك مع قضايا أولية سبق للفكر الإنساني أن حسمها بصورة قاطعة.

  • تناقض مع معرفة عصر المعلومات: حيث تغفل الأسلمة الشاملة توجه هذه المعرفة المتزايد, نحو اشتمال الخاص في إطار العام, خاصة بعد أن وفرت تكنولوجيا المعلومات الوسائل العملية لدعم التنظير العلمي العابر للثقافات والتخصصات.

          وعلى الجانب العملي: أين هي تلك الموارد البشرية والمعلوماتية القادرة على اختصار 25 قرنا من الفكر الفلسفي والعلمي في حقب قليلة? وهل تسمح لنا السرعة التي يتغير بها العلم الضخم لعصر المعلومات ذي الطابع المؤسسي بفسحة الوقت اللازم لإجراء تجاربنا المعرفية.

          أما توجه أسلمة المعرفة انتقائيا فبالرغم من تقديرنا لدوافعه العملية, فإنه ـ أيضا ـ توجه محفوف بالمخاطر; فالعلم بناء معرفي متكامل, يصعب أن نقتص منه دون أن نقوض بذلك بعض الأفكار الرئيسية التي قام عليها, خاصة مع إدراكنا أن الأمور الخاصة بالعقائد, عادة ما تقع في قلب النظرية, لا في أطرافها الهامشية (من الأمثلة على ذلك: نظرية الفلك, ونظرية التطور, ونظرية التاريخ, ونظرية اللغة, ونظرية علم النفس). فلو افترضنا ـ على سبيل المثال ـ أننا أخذنا علم البيولوجيا الجزيئية دون مفهوم نظرية التطور لتناقضها مع نظرة الإسلام إلى نشأة الإنسان كما يتصور البعض, فهذا الاقتصاص النظري يقوض الأسس التي قام عليها هذا العلم من أساسه.

          أما توجه اقتناء التكنولوجيا دون الأيديولوجيا, فيبدو براقا في مظهره, إلا أنه ينطوي على نظرة قاصرة للتكنولوجيا, حيث يقصرها على شقها الفني فقط, دون المعرفي والتنظيمي والأخلاقي, خاصة ـ وكما أشرنا سابقا ـ أن التكنولوجيا تكاد أن تصبح فرعا من فروع فلسفة الأخلاق. فكيف يمكن لنا ـ على سبيل المثال ـ أن نقتص من الهندسة الوراثية جانبها الأخلاقي?.

          أما توجه حصر أسلمة العلوم في مجال علوم الإنسانيات دون علوم الطبيعيات, فهو أكثر بدائل أسلمة المعرفة واقعية, وكذلك كيف أخذت الحضارة الغربية من حضارة الإسلام العلوم التجريبية وأسس المنهج التجريبي دون أن تأخذ توحد الإسلام وقيمه وشريعته وفلسفته ونظرته إلى الكون. أما اقتراح أسلمة العلوم الإنسانية فهو توجه يحتاج إلى نظرة متأنية متعمقة.

          سادسا: الإبداع الفني: منظور عربي معلوماتي
          1 : 6 عن علاقة الفن بالتكنولوجيا

          علاقة الفن بالتكنولوجيا علاقة ممتدة عبر العصور, من رسوم الكهوف ونقوش المعابد وكتابات ألواح الطين, إلى رسوم الكمبيوتر وفنونه الذهنية وعوالمه الخائلية. وهي علاقة غريبة الأطوار, تظهر العداء, وتبطن الوفاق.

          إن الفن ينفر من مادية التكنولوجيا وبراجماتياتها الصارمة, ويرى فيهما تناقضا جوهريا مع ما يتحلى هو به من رهافة وحساسية, وكيف يهدأ للفن بال إزاء تكنولوجيا انتابها الغرور, فراحت تطأ بأقدامها الثقيلة أراضيه اللينة, وتسعى إلى محاكاة إبداعه, وتهميش دوره, تسلبه جمهوره, وتعبث بتراثه ونتاج إبداعه.

          وعلى النقيض مما أسلفناه, كثيرا ما ألهبت التكنولوجيا خيال المبدعين, فما إن تظهر تكنولوجيا جديدة; حتى تندفع طلائع الفنانين إلى استخدامها في مجالات فنونهم المختلفة.

          لقد أسقطت تكنولوجيا المعلومات كثيرا من القيود التي تكبل الفنان, فحررت فنان التشكيل من قيود إطار اللوحة وثنائية أبعادها; حيث أصبح بإمكانه أن يرسم أشكاله في فراغ غير محدود ثلاثي الأبعاد, وحررت فنان الموسيقى من سطوة الآلات; حيث أصبح بإمكان المؤلف الموسيقي أن يصمم ألحانه بحيث تسجل مباشرة على الشرائط دون الحاجة إلى عازفين, بل بإمكانه أيضا أن يصمم آلات عزف جديدة, كما يؤلف ألحانه الجديدة,

كلمة ختام

          وفي النهاية, ليكن سؤال البداية: من أين نبدأ?

          قناعة الكاتب: أن البداية في التربية .. والمدخل إليها هو اللغة, وركيزة كلتيهما هي الثقافة, ثقافة المعرفة المتكاملة والإيمان الصادق, وكلاهما رهن بتوافر الحرية.

على قدرِ أهلِ العزم تأتي العزائمُ وتأتي على قدرِ الكرامِ المكارمُ
وتعظم في عينِ الصغيرِ صغارُها وتصغرُ في عينِ العظيمِ العظائمُ


(المتنبي)

 

نبيل علي   

 
  




د. نبيل علي