هل نعلن نعي الكتاب؟ أحرقوا الكتب شاكر مصطفى

هل نعلن نعي الكتاب؟ أحرقوا الكتب

قصة "الحكم بالإعدام" على الكتب قديمة في التاريخ. فالفكر هو الإنسان ولكن الانتقام من الفكر كان دوما أشبه بشرب السيوف من الدماء. تراق ولكن الحياة لا تموت. وكذلك الكتب تحرق ولكن الفكر لا يموت.

كنا فتياناً لا نزال في السراويل القصيرة، أواخر الثلاثينيات. وكنا - ولا فخر - مأخوذين بالمقاومة ضد الفرنسيين المحتلين، نتظاهر هاتفين ضدهم في الشوارع والأزقة، نرمي جندهم بالحجارة والمفرقعات ونهرب. نلصق المناشير في الليل وأعوانهم يقتلعونها في النهار، وبالرغم من خوف بعضنا من الوجوه السوداء للجند السنغاليين ( المسلمين المستعمرين مثلنا أرضاً وبشراً ) الذين يسلطهم المستعمر مع الخيالة (السباهي) المغاربة ضدنا فقد كنا نتصور على الأقل أن كل حجر نضربه يقتل فرنسيا أو يؤذيه أو على الأقل يعكر نومه الهادئ على أرضنا. إنه جهاد ضد الكفار! وذات يوم قال زعيم عن زعمائنا الطلبة في المدرسة:

غداً سنحرق في نهاية المظاهرة الكتب الفرنسية!

وصفق الجميع للفكرة "العبقرية". كانت تلك الأحرف في كتب ( فرانس 1 ) و( فرانس 2 ) والكرامير وغيرها بغيضة إلينا. كان منظر القبعة الفرنسية في الأسواق يثيرنا. حتى الجدران العتيقة والعيون الناضبة، وحتى المياه المتدفقة في نهر بردى كانت لا تطيقهم. وكنا نهرب من تعلم الفرنسية. نضيع دروس أساتذتها ولا نحفظ المحفوظات المطلوبة. نعتبر ذلك مقاومة للمستعمر. كنا نرفض حتى الطربوش الأحمر على رأس الجندي السنغالي وتربصه بنا وراء الرشاش.. على مفارق الطرق.

وخرجنا في اليوم التالي وكل منا في حقيبته المنتفخة ما جمع من الكتب الفرنسية والأجنبية أيضاً، بل والروايات والجرائد والمجلات ودفاتر الوظائف والواجبات. وبين الصياح والضجيج ألقينا في ساحة المدينة أثقالنا منها. كانت كوماً ضخماً جداً، وأعترف أن الفتى الصغير الذي كنته شعر ببعض الأسى والخجل ورفاتة يرشون الكتب بالبنزين ويشعلون فيها النار!

وعلا اللهيب، ألسنة حمراء مصفرة لا أنساها. وكانت تؤجج بالكتب التي يتوالى ورودها. اقتنعنا أننا بذلك انتقمنا من الفرنسيين. أحرقنا قلوبهم بإحراق الثقافة الفرنسية، لم تكن ثم ردود فعل لدى الفرنسيين، تركونا نرقص حول النار رقصة الزنوج حول الأبيض الذي سوف يلتهمونه في الأفلام، ونصدح بالأناشيد... ردة الفعل كانت في بيوتنا حين عدنا... لقد اضطررنا لشراء الكتب المحروقة مرة أخرى نكمل بها الدراسة. وكان معظمنا مملقاً فقيرا فتلقى من أهله "علقة" ساخنة. وكان أبي من هؤلاء؟ وتحملت الضرب لاعتقادي أننا قمنا بثورة ... ومرت السنون. وهذه الحادثة محفورة في جبيني، أتذكرها كلما تفكرت في الكتب. وقد قفزت فى خاطري وأنا أقرأ شيئاً عن الكاردينال خيمنز وقصته مع الكتاب العربي في الأندلس. وقد لا يعرف معظم القراء هذا الكاردينال. إذن فقد عاش هذا الرجل في طليطلة منذ خمسمائة سنة، وكان قصر الملكين؛ فرديناند وايزابلا اللذين أسقطا عرش غرناطة، وأخرجا منها آخر ملك عربي، مفتوح الأبواب له. إنه عند أذن الملكة وقلبها. فهو كاهن اعترافها. ولتزداد علماً به فهو الذي حرض على احتلال الشاطئ المغربي ونزل مع الجيش الاسباني في وهران فبقي الاسبان هناك بعد أن حولوا جامعها الكبير كنيسة عظمى مائتين وخمسين سنة. وهو هو صاحب فكرة مكاتب التحقيق التي نعرفها باسم محاكم التفتيش، التي لا يزال الخجل منها يواري وجوه الاسبان والكثلكة إلى اليوم. وهو مبتكر طرق التعذيب الجهنمية التي ظل المسلمون يصلون نارها قرابة قرنين ونصف القرن. ويتقبلون لجها في اسبانيا بالمقابل مباركة البابوية، وتهليل القسس والأديرة وأناشيد الرهبان!

محاولة لإلغاء الثقافة

الكاردينال خيمنز تمخضت عبقريته عن مثل ما تمخضت عنه عبقريتنا نحن الفتيان في المدرسة الثانوية، فقد جمع الكتب العربية في الأندلس، والله أعلم بمقدار ما جمع منها، فالأندلس كانت من أبرز مراكز الفكر العربي وأكثرها خصباً وإنتاجاً. جمعها في الساحات العامة في المدن الأندلسية. وأوقد فيها النيران. أراد أن يلغي وجود الثقافة العربية في اسبانيا. ويجعلها رماداً. لكنه مع ذلك احتفظ منها بثلاثمائة كتاب هي كتب "الطب". كان يهمه أن تبقى. وترك الباقي يصلى اللهيب!

هذه المذبحة الفكرية كانت محاولة لمحو الفكر العربي في اسبانيا ولكن هل محت هذا الفكر إلا بمقدار ما محونا نحن الفتيان من الفكر الفرنسي يوم أحرقنا الكتب؟ بقي الفكر العربي بعدها موجوداً وبقيت اياته وآلاؤه، وذهب خيمنز فليس يسمع به أحد حتى المختصون!

في القديم كانت مكتبة الإسكندرية مخزن علم الدنيا كلها. كانت - فيما يقولون - تجمع كل ما ادخر الإنسان وأبدع من علم ومعرفة وأحرقت في الصراع بين عظيمي الرومان يوليوس قيصر وأوكتافيوس. أحرق فيها من البردى والدروج والجلود المكتوبة والورق الحريري ولكن... لا أرخميدس اندثر ولا أفلاطون ولا زينون ولا سقراط ولاهيبوقراط. كلهم نبتوا بعد الحريق كطائر الفينيق.

مثل هذين الرومانيين القديمين فعل الصليبيون يوم دخلوا طرابلس في الشام بعد اربع سنوات من الحصار، وبعد بناء قلعة ( هي قلعة صنجيل ) أمام المدينة، وبعد حصارها في البر والبحر، ومنع المؤن عنها حتى الخبز دخلوها. لم تكفهم الدماء التي أراقوها، ولا الأشلاء الملتصقة بالجدران، وبقايا الأجساد في الطرق. حقدهم الأعمى وصل الحبر، هاجموا مكتبة آل عمار حكام المدينة وكانوا من القضاة، كان في المكتبة يومذاك 400 ألف مجلد، وكان فيها عشرون ناسخا يعملون السنين الطوال في نسخ الكتب ليل نهار، فلم تكن المطابع قد عرفت بعد، وراتبها من الحبر يوميا يزيد على خمسة أرطال. أوقد الصليبيون النار في المكتبة أياماً طويلة. كانت مذبحة. ولكن للفكر الإسلامي! ما سجلوا ذلك. اعتبروه أمراً عاديا وضاع بين الأحداث الفاجعة، فلم يعرف أحد ما أحرقوا وأبادوا ... برغم ذلك فهل ذبحوا الفكر الإسلامي؟

على أن الإنسان يتمتع - على ما يظهر - بكمية من الغباء تمنعه من أن يرى البديهيات أحياناً، فعلى الرغم من أنه يرى بعيني رأسه أن إحراق الكتاب، أو منعه إغلاق الحدود عليه، لا يمنعه من الانتشار ولعله يزيد من الرغبة فيه ولو كان سخيف المحتوى. فقد كان كثيراً يمارس - ولا يزال يمارس - هذه العادة، السيئة. وليس إحراق النازيين للكتب عنا بالبعيد. وبعض المستبدين يحرقون ما لا يتفق مع مزاجهم ومصلحتهم منها.

يذكرون عن المنصور ابن أبي عامر، ( الحاجب الأندلسي، من القرن الرابع الهجري ) أنه كان شغوفا بالفلسفة ومع ذلك فإنه حين رأى موجة المتزمتين من الشيوخ ضدها. وأنها قد تفض من حوله تأييدهم، وهو ما يخشاه، اقتضته السياسة أن يخرج ما في خزانة الحكم المستنصر، الخليفة المولع كل الولع بالكتب، وكان بها بدورها ما يزيد على 400 ألف مجلد. فيعزل منها ما كان يحوي علوم الأوائل - عدا الطلب والحساب - ويلقي بها جميعاً في المحرقة كرمى للجموع الراضية من العلماء! ضحى بالفكر والفلسفة من أجل السياسة. وكانت مكتبة الحكم أشهر مكتبة في الأندلس والمغرب بما تحوي منها، وكان لا يرى في قصره الكبير في قرطبة الا الكتبة الناسخون والمجلدون وحملة الورق والمزخوفون. وكان له في القاهرة وبغداد والإسكندرية عملاء مكلفون جمع الكتب القيمة شراء أو نسخاً. سواء كانت قديمة أو حديثة.

ولا يتقرب أحد إليه إلا كان الكتاب وسيلة القرب .. ولا يكلف عالماً أمراً إلا أن يؤلف كتاباً في ما يعرف من العلم.

التعصب الأعمي

ولقد وقعت بعض كتب الفكر الإسلامي في أزمات انتهت بها إلى الحريق أيضاً وكانت النزعات السياسية التى تلبس لباس الدين وراء إيقاد النيران فيها. فابن رشد أحرقت كتبه في قرطبة بعد أن أوغر العلماء صدر السلطان ضده في موجة التعصب الأعمى التي اكتسحت الفقهاء في عصره وهم يعلنون أن الرجل كفر في بعض كتبه. بل أحرق أيضاً كتاب إحياء علوم الدين لأبي حامد الغزالي في ساحات فاس. وهو من أجل كتب الدين لأن الفقهاء اتهموا كاتبه بالإلحاد. وأحرقت بعض كتب ابن المارستانية في بغداد للتهمة نفسها....

ولكنها كانت غضبات عابرة ما لبثت أن تقشعت كغيوم الصيف ومثلها غضبات بعض الملوك على بعض أتباعهم كالذي ذكروا من أن الملك المنتصر الحفصي، في تونس، ملأه الغيظ من كاتبه الأندلسي ابن الآبار لا سيما حين وجد المفتشون في بيته مقطوعة جاء فيها:

من بعده جاء خلف

سموه ظلماً خليفة

وأدرك المنتصر بذلك أنه المقصود، فأمر أن يقتل قصعاً بالرماح، وأن تحرق عظامه بعد ذلك، وتحرق كتبه التى ألفها. وكانت 43 كتاباً، فاندثرت معه إلا بضعة كتب سبق أن نسخها الناس عنه.

كل هذا الذي ذكرنا كان وجهاً واحداً للمشكلة، وجه العدوان على الكتاب من أعدائه. أما الوجه الأخر فهو إحراق الكتاب أو إتلافه من أهله ومحبيه، تدميره من مؤلفيه والجامعين له. فهل يمكن أن يحدث ذلك؟ هذه الصحف التي أودعنا فيها تراث الإنسانية من جيل إلى جيل، وعهدنا إليها بحمل العلم والفكر والفلسفة والدين وآفاق العقول وهزة الشعر وتهاويل الخيال، وكل حصادنا الفكري عن الكون والإنسان والبحار والحيوان والنبات والذر والثرى، هل تهون علينا لدرجة إتلافها أو رميها للنار؟ وأقول بلى! قد تهون ... لعلها ستهون برغمنا ذات يوم قريب - فالكتاب أضحى بحجمه وثقله مشكلة، ولا علاقة لذلك بعداوة أو غضب أو نقمة! ولكن بالواقع العملى. الكتاب الذي تجعله نصف البشرية على الارجح رفيق العمر لها ولأبنائها منذ الطفولة حتى ينتهي بهم العمر والانفاس، فلا المغترفون منه يكفون، ولا هو بالمنكمش عن العطاء، هذه الأوراق المضموم بعضها إلى بعض في حجم معين وتزويق خاص والتي مضى على ابتكارها بهذا الشكل المنسق ألف ومائتا سنة عل الأقل هل يأتي عليها يوم تندثر فيه فلا حاجة إليها؟ وأقول بلى! بوادر كثيرة تقتلعه من جذوره التي تربع فيها سعيداً هانئاً السنين الطوال .. إنه أضحى مشكلة لهواته. والكثيرون هم الذين يشكون ويقولون بحل هذه المشكلة على طريقة الشاعر عبدالسلام ديك الجن الحمصي الذي لم يجد خلاصاً من حبه لجاريته الأثيرة إلا بخنقها وإحراقها. وصنع كأس شراب من رمادها يشرب منه ويبكيها:

فوحق نعليها وماوطئ الثرى

شيء أعز عليَّ من نعليها

ما كان قتليها لأني لم أكن

أخشى إذا وقع الغبار عليها

لكن ضننت على العيون بحسنها

وأنفت من نظر العيون إليها

أعملت كفي في مجال خناقها

ومدامعي تجري على خديها!

أصحاب الكتاب وعشاقه هم الذين سيقومون بالثورة عليه، والخلاص منه. هم الذين سيحرقونه إن لم يلقوا به من الشبابيك. وقديما جرى أن غضب بعض جامعي الكتب وبعض المؤلفين على كتبهم فأحرقوها أو أتلفوها أو غسلوا عنها الحبر بالماء. أبوحيان التوحيدي الكاتب الذي نعرف أحرق كتبه في آخر عمره لقلة جدواها - في رأيه - وضناً بها على من لا يعرف قدرها، بعد موته. ولما لامه بعض أصحابه كتب في كتاب "المقابسات" دفاعا عن فعلته قال فيه: " لي في إحراق الكتب أسوة بأئمة يقتدى بهم ويؤخذ بهديهم ويعشى الى نارهم ومنهم: أبوعمرو بن العلاء وكان من كبار العلماء مع زهد ظاهر وورع معروف، دفن كتبه في باطن الأرض فلم يوجد لها أثر. وهذا داود الطائي وكان من خيار عباد الله زهداً وفقها وعبادة ويقال له تاج الأمة، طرح كتبه في البحر وقال يناجيها: نعم الدليل كنت.

والوقوف مع الدليل بعد الوصول عناء وذهول وبلاء وخمول. وهذا يوسف بن أسباط حمل كتبه الى غار في جبل وطرحها فيه وسد بابه. فلما عوتب على ذلك قال: دلنا العلم في الأول ثم كاد يضلنا في الثاني فهجرناه لوجه من وصلناه وكرهناه من أجل من أردناه. وهذا أبوسليمان الداراني جمع كتبه في تنور وسجرها بالنار ثم قال: والله ما أحرقتك حتى كدت أحترق بك. وهذا سفيان الثوري مزق ألف جزء وطيرها في الريح وقال: ليت يدي قطعت من هاهنا بل من هاهنا ولم اكتب حرفاً. وهذا شيخنا أبوسعيد السيرافي سيد العلماء قال لولده محمد: "تركت لك هذه الكتب تكتسب بها خير الأجل، فإن رأيتها تخونك فاجعلها طعمة للنار..." مثل هؤلاء العلماء. كانت الكتب قد أصبحت أشيه بالسجون لفكرهم المنطلق. تخلصهم منها كان تجاوزاً لما فيها إلى آفاق فكرية أخرى تباين ما كتبوا أو سجلوه واختزنوه فيها. كان الهرب منها وسيلتهم للانصراف عن دنيا الناس الى الله، هم حالات انعتاق قصوى!

على أن الكتاب على قلة أعداده في أيامهم، انتشر من بعدهم أي انتشار. وذابت ملايين العيون وراء حبره وورقه. وكان ثروة فكرية ومادية لصاحبه. والغواة كانوا يتصيدونه، ويبالغون في ملاحقته، وقد يستأجرون دكاكين الوراقين ليلاً لمطالعته، حتى ليذكرون أن الجاحظ مات حين انهار عليه حائط الكتب!

ثورة الكتب

ولقد عرف الكتاب ثورته الكبرى يوم خرج من مكبس أول مطبعة في نورمبرغ. يومذاك لم يعد لزحفه حدود، وكلما زادت المطابع عدداً زاد قوة وجرأة، دخل البيوت وتصدر فيها، ولم يعد ينزل عن الأيدي ولا يغادر عيون الساهر أو المسافر أو العجوز في الحديقة، صار الأنجيل الحقيقى للبشر، وصلة الوصل بين الناس، وبلغ أوج قوته بعد أواسط هذا القرن. فجميع البشر - إلا الأميين - هم من عباده!، وما ابتكر الإنسان ابتكاراً فرخ وتكاثر وتناسل كالكتاب، فعلى الأرض منه اليوم مئات أضعاف ما عليها من البشر! والمطابع تقذف منه دون انقطاع وكل لحظة بالمزيد.

على أن أحباء الكتاب وجامعيه المعاميد، ( ويعدون اليوم في العالم بعشرات الملايين ) يعانون أشد العناء من مشكلته الحالية، وهي ليست كمشاكل السلف. وليست أيضاً مشكلة ثلاثية فقط. فهو ثقيل في الحمل ثقيل في الرأس، وثقيل على الجيب. ولكن المشكلة الحقيقية هي في الاحتفاظ به بعد اقتنائه. إنه يريد مكاناً في البيت ومكاناً متزايد السعة باستمرار. حتى ما قبل قرنين تقريبا لم تكن هناك مشكلة فلا أعداد الكتب التي يقتنيه المرء كبيرة ولا البيوت كانت صغيرة. القضية اليوم أن أعداد الكتب التي تطبع ويحتاج اليها المختص. أو المثقف بلغتين أو ثلاث لغات تبلغ عشرات الألوف. والبيوت تصغر وتصغر وتقتصر على شقق لا تكاد تتسع للمرء وعياله. وتأتي المكتبة وهي من لوازم البيت. وضروراته الحالية لتحتل ركناً يكبر ويكبر، مع الهواية وهوس جمع الكتب أو التخصص فإذا المكتبة كالنبات المداد أو اللبلاب يزحف حتى يزيح كل ما فى الغرفة ويخرج منها الى الممرات والسلالم، ويكاد يطرد أهل البيت خارج البيت. أصحاب المكتبات أمثالي المبتلون بتضخم مكتباتهم - فهي تزيد على خمسة عشر الف كتاب بخمس لغات - يشعرون كأنهم يحملون هذه الألوف المؤلفة على أكتافهم هماً على هم، فلا هم يجرؤون على اقتناء المزيد، ولا هم بالمقابل يرضون عن أنفسهم لو تركوا اقتناءه. والمعادلة الصعبة بعد ذلك أن تجد له مكاناً في الزحام! وأهل البيت كلهم ضده!

وقبل سنوات يسيرة، في أواخر الثمانينيات، قرأت بحثاً وجدت فيه نعي الكتاب، وقلت بيني وبين نفسي جاء الفرج! سنتخلص من الكتاب. ولكني شعرت أن الخير أحزنني بقدر ما أفرحني. كان حول الشعار الذى أطلقته يومها شركات الكمبيوتر العالمية "المعلومات بين أطراف أصابعك" وشعرت برعدة من انتقل فجأة من صحراء الاسكيمو الثلجية الى رمال الربع الخالي المحرقة. وتحول مرة واحدة كل ما كنت قرأت عن المعلوماتية من معارف نظرية كنت أتصورها بعيدة، في واقع جدي قريب يرى بالعينين. وبدا كأنما شيء غالي يسحب من بين يدي هو متعة تقليب صفحات الكتاب والسمر مع أصحابه والحوار الأخرس معهم والليالي نيام...هل سيموت الكتاب فعلاً وتموت معه مطابعه وتزويقاته ومكتبات بيعه ويموت معه "علق" الناشرين والموزعين؟ السرعة الهائلة التي حققتها في هذه السنوات القليلة جداً بنوك المعلومات في تصيد "المعلومة" وتخزينها الكمبيوتري سرعة مذهلة مرعبة. إنها تجعل نهاية أمر الكتاب أسرع بكثير مما نتصور، فالكتاب محدود المدى والعلم. وبنوك المعلومات عالمية وشمولية والكتاب أصم حتى تستنطقه، والمعلوماتية تتكلم بكل لسان. والكتاب بطيء العطاء وقد يضيعك، والمعلوماتية تبذل ما تريد بالضبط في ثوان. وأهم من ذلك كله أنك لن تحتجز غرف بيتك للمكتبة فجهاز صغير في أحد الأركان يغنيك عن علم الدنيا وما فيها... ثم إن أحداً لا يستطيع إحراق كتابك أو منع تداوله بين الناس. لقد تحرر من نير الورق وأضحي رموزاً في طرف شريط أسطواني بأقصى الأرض، أو بضعة ألياف إلكترونية.

إن هذا الانقلاب، متى تم، (وسوف يتم قريباً وربما في مطالع القرن المقبل) سوف يستتبع انقلابات خطيرة في الحياة والناس، ربما كان أهونها ظهور صور جديدة للتعامل بين الأسرة الإنسانية، وفي مجال العمل ووقت الفراغ وإدارة الأعمال. لكن منها أيضاً تغير وجه التعليم البشري كله. الصورة الحالية للمدرسة والكتاب والمعلمين والإداريين سوف تنقرض، وبدلاً من خروج الطلاب من بيوتهم فى المدارس سوف تأتي هذه المدارس إلى غرف نومهم (وبالفرحة الطلاب الكسالى) داخل المنزل. بشائر ذلك ظاهرة فيما أصبحنا نستخدم اليوم من الفاكس والكمبيوتر الشخصي والتلفون النقال والتحريك عن بعد. إننا نمر دون أن نشعر بمرحلة الانتقال من عصر الآلة فى عصر الالكترون - انتقالاً أبدياً - الأجهزة الخبيرة التي صنعت وباعت حتى أوائل سنة 1994 ما يزيد على 32 مليون كمبيوتر شخصي ولاتزال تزيد في الإنتاج أضعافه وتبيعه، وما يزيد عن21 مليون فاكس. ومثلها من الهواتف النقالة.

والتهافت على الشراء كأنه التهافت على الخبز. ربطت الأجهزة عفويا ومباشرة مختلف الجماعات بعضها بعضا. وأعطت عملية "المعلوماتية" جانباً كبيراً من وسائلها لربط العالم واستقطاب معلوماته وللتحول من شبكات المعلومات الشخصية إلى شبكات المعلومات العامة للجميع Interent والمعجزة العلمية بابتكار الزقائق الالكترونية، (رقائق السيلكون) جعلت الكمبيوتر يدخل أماكن لم يكن يخطر في البال قبل عشر سنوات أن يدخلها، ويستخدم فيها. وإذا علمنا أن هذه الرقائق تتطور كل سنتين وتبتكر فيها رقائق جديدة تضاعف قدرتها وسرعتها عرفنا أي قوة سيتمتع بها عصر الالكترونيات والمعلوماتية خلال العقد المقبل في التمكين للبرمجيات، وفي تسهيل استخدام الكومبيوتر، وفي فاعليته في تخزين ونشر المعلومات، وفي تصغير حجم الأجهزة وتخفيض سعرها! وفي ارتفاع ثمن المعلومة أيضاً.

عندما نستغني عن الورق

وتبشرنا شركات الكمبيوتر أننا سنستغني حتى عن الورق؟ هذه الصفائح الرقيقة التي خدمت الفكر أكثر من ألف ومائتي سنة ( منذ نشرها العرب في العالم ). سوف يستبدل بها لوحة كهربائية بمفاتيح مضيئة كما يستبدل ببطاقات الائتمان ( الفيزا، وأمريكان اكسبرس وغيرهما ) وبطاقة البنك وباب البيت وإجازة القيادة بطاقة واحدة لكل هذه الأغراض وغيرها. ودخول التلفزيون على الخط سينقل المعلوماتية والبشر معها إلى عالم مسحور لا حد لقدراته الخارقة... والحبل على الجرار في هذه الانقلابات المصيرية!

مع ذلك كله وبرغم ذلك كله فقد يكون مبكراً جداً أن نقول لعشاق الكتاب احرقوا ما لديكم من الكتب! على الرغم من أن كثيرا ًمن القوى تهيئ لها المحارق وأوراق النعي! مشكلة اقتناء الكتب والمكتبات الواسعة هي التي حلت... بلى! فعشرات ألوف الكتب صار بالإمكان تقزيمها وحشرها في بعض الرقائق الالكترونية والألياف الضوئية، ونقلها بكف واحدة أو استردادها على أطراف الأصابع، أمرها أضحى أسهل من شربة ماء. ولكن المشكلة ليست فقط في اقتناء الكتب والحصول عليها وقراءتها ساعة نشاء ولكن القضية الأهم أيضاً، وقبل ذلك، هي في إيجاد الكتب، في تأليفها وخلقها قبل دفعها للبرمجة، فهل وصل الكمبيوتر درجة الحلول محل "كومبيوتر الدماغ البشري" (الذي يفوقه مائة مرة سرعة ودقة وترابطاً)، فيؤلف الجديد المبتكر أو يجنح الإلهام الشعري؟ أو يكتب دراسة اجتماعية لم تكتب؟ أو يبدع في الأدب؟ أو يجادل في الفلسفة أو يضع نظرية في الكون؟ أو يخلق فكرة لم يحظ بها من قبل عقل البشر؟ هنا المسألة! إذن فليطمئن العشاق المعاميد. فالكتاب باق لن يموت! "أبشر بطول سلامة يا مربع"! وكما أن الخطر القديم بالإحراق والإتلاف لم يلغ وجوده. فكذلك الخطر "الكمبيوتري" لن ينزله عن عرشه ولن يقضي عليه! أم لرجال التقنيات وأسرارها رأي آخر؟

 

شاكر مصطفى

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات