أوائل الكتابة

أوائل الكتابة

كلما حاولت أن أتذكر متى عرفت أن أمسك بالقلم لأكتب أدبا، غامت الذكرى، ولم أجد سوى رجع أصداء مستهل طه حسين لكتابه «الأيام»، حين قال: «لا يذكر لهذا اليوم اسما، ولا يستطيع أن يضعه حيث وضعه الله من الشهر والسنة، بل لا يستطيع أن يذكر من هذا اليوم وقتًا بعينه، وإنما يقرَّب ذلك تقريباً، وأكبر ظنه أن هذا الوقت كان يقع من ذلك اليوم في فجره أو في عشائه، يرجّح ذلك لأنه يذكر أن وجهه تلقى في ذلك الوقت هواء فيه شيء من البرد الخفيف الذي لم تذهب به حرارة الشمس، ويرجح ذلك لأنه - على جهله حقيقة النور والظلمة - يكاد يذكر أنه تلقى حين خرج من البيت نورا هادئا، خفيفا لطيفا، كأن الظلمة تغشى بعض حواشيه، ثم يرجّح ذلك لأنه يكاد يذكر أنه حين تلقى هذا الهواء وهذا الضياء، لم يأنس من حوله حركة يقظة قوية، وإنما أنس حركة مستيقظة من نوم أو مقبلة عليه».

هذه الأسطر كانت، ربما، أول ما اهتززت وانفعلت به من كلمات، ويبدو أنها حركت في داخلي، على نحو غير واعٍ، الرغبة في أن أكتب مثلها، وأن أصوغ بالكلمات ما أود التعبير عنه من «مشاعر وانفعالات»، اللافت لانتباهي، الآن، أنني لم أكتب الشعر، بل خواطر ذاتية، في قالب من النثر المرسل، وأخذت أسجّل بالقلم أحوال الفرح والحزن، مشاعر ما حسبته الحب الأول، وما تخيلته من حبيبات وهميات كن من صنع خيالي، ومن وحي قصص الحب الرومانسية التي قرأتها في هذا الزمان، ولم أنس أحوال غضبي من أمي، حين تدفعني إلى الانزواء وحيدا، حريصا على ألا يرى أحد الدموع الصامتة التي كانت تنهمر من عينيّ وأضفت إلى ذلك خوفي على أبي، فقد رأيت آثار إهماله لإصابته بمرض «السكر» والأزمات الصحية التي كان يتعرض لها والتي ترعبني، وكنت في أحوال مرض أبي أبث خواطري على أي ورق أجده أمامي، وأبتهل إلى الله بالكلمات، كي يحفظ لي أبي، ويصونه من كل سوء، فقد كان نبع الطيبة الذي ألجأ إليه دائما، والصدر الأحن الذي كنت أدفن رأسي في أمانه، وأشم رائحة الشعيرات النابتة فيه، وأسلم نفسي ليديه اللتين كانتا تحوطانني دائما، وتربتان على رأسي، فأشعر بالأمان والاطمئنان وما أكثر ما كتبت عن الشعور بافتقاد الأمان، وهي خصلة نفسية، ظلت تنضج في داخلي، ربما دون أن أنتبه، وذلك بسبب صدمات الدهر التي لاحقتني، ابتداء من الخوف من انفجار مشاعر غضب أمي وثورتها على نحو غير متوقع، مرورا بالخوف من عدم النجاح والتفوق، وانتهاء بما أسماه أمل دنقل «الخسة الإنسانية»، وهو تعبير استخدمه عندما طردنا نظام السادات من الجامعة، بحجة أننا أسهمنا في إشعال نيران الفتنة الطائفية وجاء أمل حاملا الخبر الحزين الذي قابلته باستخفاف، ربما هربا من التعبير المباشر عن الصدمة التي شعرت بها، فقابل أمل دنقل استخفافي بصرامة لم أعهدها فيه، وقال لي جملة لم أنسها، قط «أخاف عليك من الخسة الإنسانية التي سرعان ما تراها في البشر من حولك» وقد رأيتها بالفعل.

المؤكد أن عوامل كثيرة ظلت تدفعني، إلى عدم الشعور بالأمان والاطمئنان الكامل لدوام حال، أو وفاء شخص، أو حتى امرأة ولا أدري لماذا لا أزال أتوقع الاحتمالات السلبية قبل الإيجابية، وأظل قلقا واجفا إزاء المستقبل والناس على السواء وأحسبني لم أعرف الحب العاصف الذي يأخذ بالألباب، ويتغلغل في الشرايين والأفئدة، على نحو ما قرأت وشهدت بين من عرفت وأحسبني، لهذا السبب، كنت أحافظ على وصية أوصتني بها أمي، عندما بدأت أعي حضور المرأة، وأعرف ما يبدو من مشاعر الحب لهذه الفتاة أو تلك ممن عرفت في حياتي، فقد قالت «أقبل على من تحبك، ولا تقبل على من تحبها» وقد تجاوزت هذه النصيحة التي أفسد الالتزام بها تجارب كان يمكن أن تصل إلى ذرى رائعة، لكنها سرعان ما انبترت، بسبب خوفي الدائم من أن أسلم كياني كله لأحد مهما كان، فضلا عن خجل لا أعرف من أين ورثته في التعامل مع الفتيات، خصوصا الجميلات.

حبيبة في خيالي

ولهذا لم أعرف الحب الأول إلا خيالا، واخترت أخت صديق لي، أصغر منا، وجعلتها حبيبتي في الخيال فحسب، وأطلقت عليها فيما كتبته عنها «أميرة الإلهام» لأنها كانت الوحيدة التي تدفعني، دون أن تدري أو تعرف، إلى الكتابة عن خيالاتي المجنحة الطائرة بها، في سماوات الخيال وقد قرأت، وشاهدت على شاشة السينما، رواية إحسان عبدالقدوس «الوسادة الخالية»، واتحدت بشخصية عبدالحليم حافظ الذي كان طالب ثانوي عندما وقع في الحب الأول، ولم ينجح الحب لصغر سن البطل الذي لا يستطيع أن يفتح بيتا، وتزوجت الحبيبة من طبيب ناجح، ونسيت الحب الأول، لكن الحبيب الأول لم ينس، وقرر أن يصنع من نفسه شيئا، كي ينجح في الحياة نجاحا باهرا، ليشعر الحبيبة الأولى بالندم على تركها له وينجح ويتفوق في الحياة، ويتزوج ابنة المدير الذي عرف قدره، لكن المصادفة، كالعادة في سينما ذلك الزمان، توقعه في علاقة صداقة مع غريمه القديم، الطبيب الناجح، ويأخذ في ممارسة علاقات الصداقة المنطوية على مشاعر متضاربة مع الغريم والحبيبة الأولى ولكن ولادة زوجته بما صحبها من مشكلات صحية، واستيقاظه على إمكان أن يفقدها، جعله ينسى الحب الأول، ويدرك أنه وهم. وقد كان حبي الخيالي لمن أسميتها أميرة الإلهام، وهمي الخاص الذي يوازي خوفي على أبي وما كنت أكتبه عن «حبيبتي المتوهمة» التي ظلت سرا خاصا بي وحدي، لم أفاتح به أحدا، ولم أتحدث لرفاق الصبا الباكر ومطالع المراهقة بهذا السر وبالطبع، بدد كر الأيام وتعاقب الأحداث هذا الوهم، وأضاعت الشواغل التي استغرقتني الأوراق التي كنت أكتب فيها شجني وحبي الوهمي وأحزاني على السواء.

ولا أعرف متى انتقلت خواطر الحب والخوف على أبي إلى كتابة تفارق الرومانسية، وتتباعد عنها. أغلب الظن أن ذلك كان في مطلع المرحلة الثانوية، حين كان الجميع يتحدثون عن الواقعية، ويفرون من الرومانسية التي أصبحت أقرب إلى حبي الوهمي. هل كان نجيب محفوظ وبداية معرفتي لرواياته: خان الخليلي، زقاق المدق، بداية ونهاية، هي السبب في ذلك؟ الأمر ممكن، لكن ما أذكره على نحو واضح، الآن، أن رسم شخصيات واقعية جذب انتباهي، وأخذت أتمثل شخصيات محفوظية لا أنساها إلى اليوم المعلم كرشة، زيطة صانع العاهات، نونو الخطاط، أحمد أفندي عاكف.. إلخ، فأخذت أتطلع إلى البشر حولي في ضوء جديد، وأحدّق فيهم، كأني أراهم للمرة الأولى، وكان دكان والدي يقع في منطقة السوق الذي يمتد بامتداد شارع سعد زغلول في المحلة وكنت أجلس إلى جوار الدكان أرقب الشخصيات التي تمر حولي من التجار والمعلمين والسائقين والتباعين والحمالين.. إلخ.

وبدأت أكتب صورا أدبية أقرب إلى الوصف منها إلى السرد عن الشخصيات التي تجذب انتباهي، وأوضح ما أتذكره، الآن، شخصية «عبده الملك» وكان حمالا، خشن الملامح، بارز الكرش، ربعة، يرتدي جلبابا متسخا دائما، وفوقه جاكت من قماش سميك بلا أزرار ولم أره يبتسم مرة واحدة، وكان قوي البنية، يحمل الأجولة أو الأقفاص من عربات النقل لينزلها في وكالات معلمي الفاكهة أو الخضراوات، ولم يكن يشكو التعب قط، يمسح عرق جبينه، إذا زاد بكم الاكت الذي حال لونه، فإذا فرغ من عمله، مشى مشية مترفعه، ناظرا إلى كل ما حوله، ومن حوله، كما لو كان ملكا يشرف على رعاياه الذين يتفقدهم، ولذلك أطلقوا عليه اسم «عبده الملك» وقد فتنتني شخصيته فكتبت عنه صورة قلمية، وفعلت الأمر نفسه مع عبده الجزار الذي كان قريبا من سني، لا يكبرني كثيرا، وبالرغم من ذلك اشترى له أبوه محل جزارة ليستقل به، وكان أقرب إلى الصديق، وكتبت عن العم دسوقي القهوجي، وكان طويل القامة، سريع الحركة، تتحرك يده بالصينية التي يضع عليها الشاي أو القهوة برشاقة، وكان حريصا على أن يبدي علمه ويفتي في ما يعرف وما لا يعرف، فتناله ضحكات الزبائن وابتساماتهم الماكرة، لكنه كان خدوما، وفيا، أسرع الناس إلى نجدة من يطلب النجدة، شهما لا يتردد في تقديم العون. وهناك إبراهيم الذي كان يحل محل أبيه في محل القماش المواجه لمحل والدي على الناحية الأخرى من شارع سعد زغلول نفسه، ولم يدعه أبوه تاجر الأقمشة يكمل تعليمه، لكي يساعده في تجارته ولم يكن يفارق جريدة الأهرام التي لا يتركها إلا إذا دخل شارٍ محل الأقمشة الذي يتركه أبوه في رعايته، دائما، وكنت ألجأ إليه للعون المالي إذا ضاقت الأحوال، ولا تزال في زمتي بضعة جنيهات أدين بها له، ولا أعرف، إلى اليوم، لماذا لم أردها إليه، ولماذا لم يذكرني بها قط، فقد نساها كما نسيتها، عندما تخرجت واشتغلت وصار لي دخل ثابت شهريا، مؤكد أنه كان يراني بمنزلة أخيه الصغير الذي لا يسترد منه ما أخذ وقد ظل يفرح بنجاحي بما أكد لي مشاعره الأخوية، وجعلني أعامله، كما لو كان أخي الكبير.

هذه الشخصيات وغيرها هي ما كتبت عنها صورا أدبية، وصلت إلى حوالي عشرين نموذجا بشريا، كل نموذج تتراوح الكتابة عنه بين صفحتين أو خمس صفحات وقد كتبتها في كشكول خاص، وضعت له عنوان «في السوق» وتفلسفت بما يجعل «السوق» يؤدي معنى الحياة بخيرها وشرها، وتعدد وتنوع وتعقد الشخصيات التي نقابلها فيه، وقد ظللت حريصا على هذا الكشكول الذي لم أفكر، يوما، في نشر شيء منه، فقد كان حسي النقدي عاليا، ربما لأن ميولي الفكرية ظهرت مبكرا، ولذلك لم أفكر في نشر شيء من هذه الصور القلمية التي ظللت أعتز بها كلها، وإن كنت أخص بإعجابي اللوحة القلمية التي كتبتها عن عبده الملك. وقد ظل هذا الكشكول أحد ممتلكاتي الأثيرة، القريبة إلى القلب، زمنا طويلا، لكن ذهابي إلى الجامعة، وتركه في المحلة، أديا به إلى الضياع ضمن ما ضاع من الكتابات الأدبية؟ الأولى التي كتبتها طوال المرحلة الثانوية.

كُنت شاعرًا

ولم يأت الشعر إلا في سنوات الجامعة، وإذا كان إيقاع أسلوب طه حسين، في «الأيام»، دافعا بارزا من دوافع البداية، كان شعر صلاح عبد الصبور دافع الكتابة الشعرية، خصوصا بعد أن عرفت أنه تخرج قبلي في قسم اللغة العربية، مع رجاء النقاش وفاروق خورشيد وأحمد كمال زكي وعز الدين إسماعيل، وأغلبهم جمع بين الدرس الأدبي والإبداع. وكان صلاح عبد الصبور قد نشر ديوانه الأول «الناس في بلادي» في يناير ، وألحق به ديوانه الثاني «أقول لكم»، والثالث «أحلام الفارس القديم» وهو آخر ما صدر له من دواوين قبل تخرجي في الجامعة. ومن الطريف أن أستاذتي سهير القلماوي، -رحمها الله- قرأت معنا في السنة النهائية بعض قصائد أحمد عبد المعطي حجازي الذي تعاطفت مع كل ما كتبه عن غربة القروي في مدينة القاهرة وكان تعاطفي شعوريا، لا يصل إلى مرحلة الاقتناع العقلي، فقد أحببت القاهرة منذ لقائي الأول بها، وربما كان ذلك لأني ابن مدينة صناعية وكبيرة نسبيا، ولست ابن قرية.

وقد حاولت كتابة الشعر، أولا، على طريقة النظم القديم، وما كان أسهلها، فيكفي بيتا من الأبيات على وزن البحر الطويل أو الكامل أو المتقارب أو المتدارك.. إلخ، وأنظم المعاني في إطاره، لكن دون مشاعر حقيقية في الغالب، ولذلك تخلصت من كل ما كتبته في الوزن العمودي، وتركت نفسي للتفعيلة، تحملني إلى الآفاق التي توافق هواي، خصوصا أنني تعلمت التأمل الشعري في الحياة والأحياء من صلاح عبد الصبور، لكني كنت أقاوم رغبتي في الكتابة خوفا من أن يلهيني الشعر عن المذاكرة، ولأن ما أكتب منه لم يكن يرضي الناقد في داخلي، فقد أدركت أنني مهما كتبت لن أكون «الأول» في كتابة الشعر، خصوصا بعد أن تعودت على التفوق، وأن أكون أول زملائي ولكني لا أنسى قصيدة انفجرت، رغما عني، في لحظة إحباط متعددة الأبعاد، فوجدت نفسي أكتب:

أرض عفنة
شقّ جوانبها الجدبُ
والدود الملعون
من بين جوانبها يبدو
بشما بعد شبع
كانت أرضا مزدهرة
كانت جنة
حصباها مرجان
وثراها مسك أزفر
نبتت في تربتها أزهار الحكمة
هبطت فيها كلمات الرب
وهبت عيسى ومحمد أزهارا لسلام
وبداية نور في الدنيا
لكن الأمطار انقطعت عنها
لم يأت الغيث
صمدت أرضي أعواما تنتظر الغيث
ماتت فيها التمرات
وانتشرت فيها الديدان
وانقلب العطر عفن
ولذا أسأل
لم كفّت أمطارك عنها وانقطع الغيث
لم يا ربي إني لا أفهم
....
وهأنذا محموم عُذِّبتْ
لو قلت سؤالا للرب لَجدَّفتْ
هذا ما قال شيوخي
لكني منبوذ أخرست
ظمئت روحي من طول جفاف
وثغاء شيوخي لغو طائش
لا يشفي الغل
....
لو هطلت أمطارك
لانقشعت أفكاري المحمومة
ووجدت الريّ

لا أعرف لماذا أذكر هذا الذي أسميته قصيدة منذ أعوام؟ ولماذا هي دون غيرها؟ ليس عندي إجابات تقنعني تماما، ربما لأن ما فيها من رؤية لا يزال قريبا من نفسي، لكن طابع صلاح عبد الصبور غالب على القصيدة، وثغاء الشيوخ يذكرني بضيق أفق قضاه الحلاج، والنثرية كالخطابية عالية في القصيدة التي لا تعرف التدفق وانطلاق الصور ولا التدوير، فكل سطر أشبه بجملة مغلقة، المهم أن المثالب كثيرة، فيما انتهى إليه الناقد الذي كنته ولا أزاله وقد كتبت هذه القصيدة، فيما أذكر في أحد أيام 1964، وكانت آخر عهدي بالشعر والكتابة، وذلك بسبب غلبة الفكر النقدي على تكويني واتجاهي.

صحيح أنني لم أكن مقتنعا بذلك تماما، فقد كنت أعرف نموذج ت إس إليوت الشاعر الناقد وغيره. وأهم أساتذتي جمعوا بين البحث الأدبي والإبداع، سهير القلماوي لها قصائد منشورة في مجلة «أبوللو» ومجموعة قصصية، أظنها بعنوان «الشياطين تلهو» ويوسف خليف كان شاعرا عموديا لافتا، في روحه الرومانسية، ولا أزال أذكر بعض أبيات من ديوانه «نداء القمم» وشكري عياد كان دارسا للتفسير القرآني، وناقدا أدبيا نادر المثال، ولم يمنعه ذلك من كتابة رواية بعنوان «الطائر الفردوسي» نشرتها روايات الهلال، أهداني إياها سنة 1998 وهناك مجموعات قصصه القصيرة، وأولها «ميلاد جديد» ثم «طريق الجامعة» وبعدها «زوجتي الرقيقة الجميلة» و«رباعيات» و«كهف الأخيار» و«حكايات الأقدمين» وأخيرا، هناك سيرته الذاتية المؤثرة التي لم يتح لي الوقت للكتابة عن تميزها وكل هذا صحيح، ولا أزال موافقا عليه، ولكني لا أتحدث عن أفكاري الآن، وإنما عن أفكار الستينيات التي تفصل بيننا وبينها عقود عديدة. ومن المؤكد أن يقظة الإحساس النقدي في داخلي، منذ وقت مبكر، هو الذي عاق الكتابة، إذ يصعب أن يلتقي التفكير العقلاني النقدي، خصوصا إذا كان مهيمنا، مع التفكير التخيلي الذي يذيب النزعة العقلانية في موجات الوجدان، فلا يبقى منها ما يشير إليها.

شرارة النقد الأولى

وقد عرفت كتابة النقد في المرحلة الثانوية، وكان لي صديق اسمه محمود عبد الرازق يسبقني في قراءة الأدب، أعطاني ذات يوم مقالا صغيرا عن ثلاثية نجيب محفوظ التي، كنت قرأتها وأعجبني المقال إلى الدرجة التي دفعتني إلى الكتابة عن انطباعاتي النقدية على بقية روايات نجيب محفوظ، والتمييز بين رومانسية الروايات التاريخية، وواقعية المرحلة التي تبدأ من «فضيحة في القاهرة» إلى آخر الثلاثية وفعلت الأمر نفسه عن الشعر، فكتبت بحثا مطولا عن الشعر، جعلته على شاكلة كتاب، احتل «بلوك نوت» خطابات ونقله عني صديقي شوكت فضل، ليستدر إعجاب مدرس اللغة العربية في الثانوية الصناعية التي كان يدرس فيها، أما أنا فقد أعطيت البحث للأستاذ محمود الحداد الذي كان أمين المكتبة، في السنة الأولى لي، في مدرسة طلعت حرب الثانوية، ضمن نشاط جماعة أصدقاء المكتبة وقد قام زميلي سعد الدين السياجي بتعريفي بمجلة «المجلة» التي صرت من قرائها، ومن أشد المتابعين لمقالاتها النقدية التي كنت أقرؤها أكثر من مرة، لأعرف ما النقد الأدبي؟ وإلام يهدف الناقد؟ وعلام يركز في النقاط التي يعالجها؟ وكيف يبني دراسته فقرة بعد فقرة. وقد ظللت أتابع هذه الطريقة التي ظهرت آثارها في الجامعة، خصوصا في الأبحاث التي قمت بها طوال السنوات الأربع للدراسة، وأذكر بحثا كاد يصبح أطروحتي للماستير، وكان عن «الديارات النصرانية في الشعر العباسي» أعجب أستاذي يوسف خليف، وأقنعني أن أجعله مشروعا لدرجة الماستير، لكني عرفت سهير القلماوي وعبد المحسن بدر في السنة الرابعة، فأغواني الأدب الحديث وسرقني النقد الحديث من الأدب القديم، كما سرقتني الرواية من الشعر، وأعادت إليَّ كاتب اللوحات القلمية القديم, وكان البحث عن شعراء الديارات النصرانية في العصر العباسي والشعر الذي كتب فيها. وأذكر أنني توقفت بشكل خاص عند القصائد التي كانت تسعى إلى تصوير شعري للوحات والأيقونات الموجودة في الأديرة وكان ذلك بداية علاقتي بدرس قضية العلاقة بين الشعر الذي هو تصوير ناطق والرسم الذي هو شعر صامت وكانت محاولتي النقدية الجادة في السنة الرابعة، في نقد الرواية، تحت إشراف أستاذي عبد المحسن بدر، رحمه الله، وكان موضوع المحاولة قصة «قرية ظالمة» للطبيب المفكر محمد حسين, وكان من جيل العقاد وطه حسين. أما المحاولة الأكثر أهمية فكانت بحثا نقديا كتبته عن شخصية حسنين في رواية «بداية ونهاية» لنجيب محفوظ، وكان عنوانه «حسنين قمة المأساة في بداية ونهاية» وكنت، وقتها، متأثرا بطريقة محمد مندور في «نماذج بشرية» فضلا عن اهتمامي القديم الذي دفعني إلى الكتابة الباكرة عن النماذج البشرية التي عرفتها في سنوات الصبا في المحلة الكبرى, ومع الأسف ضاع هذا البحث الذي منحه عبد المحسن بدر الدرجة النهائية، مع أني ظللت محتفظا به لوقت طويل، وفكرت جديا في نشره ولكنه ضاع مني، في النهاية، هو وغيره من الأوراق العزيزة.

أما البحث النقدي الذي جرؤت على نشره للمرة الأولى فقد كان في السنة التمهيدية سنة 1966، وكان شكري عياد يدرس معنا «موسيقى الشعر» ويطلب منا بحثا في الموضوع فكتبت بحثا بعنوان «تطور الموسيقى والإيقاع في شعر صلاح عبد الصبور», وأعجب البحث أستاذي شكري عياد، رحمه الله، وقام بنشره في مجلة «المجلة» التي ما أكثر ما تعلمت منها، وكان أيامها يعمل نائبا لرئيس التحرير يحيى حقي، الذي كان آخر رؤساء تحرير «المجلة» وما أكثر سعادتي عندما قرأت البحث منشورا في «المجلة» أرفع المجلات الأدبية قاطبة في ذلك الزمان، وتزايدت سعادتي عندما أخذت أسمع عبارات الإعجاب بالمقال البحث، والتنبؤ لي بأني سأكون ناقدا بارزا وأرجو أن أكون قد حققت هذه النبوءة.

 

 

جابر عصفور