الغموض لم يعد معاصراً خالد القشطيني
سئل أبو تمام : لم لا تقول ما يفهم ؟ وأجاب الشاعر في اعتداد : ولم لا تفهم ما يقال؟!! منذ قيلت هذه الإجابة التي تحدد دور المتلقي في العملية الإبداعية.. وهذه القضية تشغل مساحات ومساحات في أدبنا العربي.
كثيرا ما وردتني اعتراضات على كتاباتي الساخرة التي اضطر فيها أحيانا إلى الرمز والإشارة غير المباشرة. وانطبق ذلك بصورة خاصة بالنسبة للسلسلة التي كتبتها بعنوان " قطة من لبنان ". قال المعترضون إنهم وجدوا الرمزيات والسخريات تتطلب الكثير من التفكير والتأمل لحل ألغازها والوصول إلى أغراضها ، مما يتطلب وقتا، والوقت غير متسع لديهم. وفي قولهم هذا درس جدير بالفهم والاستيعاب. واعترض آخرون من هذا المنطلق أيضا على استعمال اللهجات المحلية، قالوا كذلك ليس لديهم الوقت لفهم مفردات لهجة لا يعرفونها.
الدرس الجدير بالفهم هنا هو معضلة الوقت. الإنسان المعاصر معرض لضغوط هائلة على وقته.
هناك عشرات القنوات التلفزيونية التي تبث شتى البرامج الشائقة، هناك مئات المحطات الإذاعية للراديو تذيع أيضا كل ما لذ وطاب. هناك عشرات الصحف والمجلات والدوريات والنشرات التي يحملها البريد إلى بيوت المواطنين كل يوم . هناك دور السينما والمسرح والموسيقى والرقص والمعارض الفنية والمحاضرات... إلى آخره. وتقلص العالم في أيامنا هذه ، وأصبحت السفرات والسياحات والأجازات تتطلب حقها من وقتنا أيضا. ألوف الكتب والروايات تواجهنا في المكتبات وتبعث في نفوسنا الحسرات والألم، متى سنستطيع قراءتها؟. الجريدة اليومية فقط تتكون من ثلاثين أو أربعين صفحة، وتتطلب منا أياما عديدة إذا حاولنا قراءة كل شيء فيها.
وأخذت كل هذه الوسائل تتنافس في الحصول على اهتمامنا، والفائز هو من يستطيع تقديم أطرف وأنفع وأسهل شيء أمامنا. أصبحت أنا شخصيا أتوقف عن قراءة المقالة أو أنتقل إلى قناة تلفزيونية أخرى حالما أجد صعوبات في متابعة الموضوع. والواقع أن هذا ما فعله وقاله الكاتب الروائي الإنجليزي اتش. جي. ويلز بعد قراءته لرواية جيمس جويس ، " بولسيس ". كتب إليه فخاطبه قائلا : لقد تمتعت أنت بكتابة الرواية أكثر مما تمتعت أنا بقراءتها. ليس لدي الوقت لحل كل هذه الألغاز، أو أن أخصص لها ساعات من الساعات الباقية من حياتي.
المحدثون والغموض
هذا جزء من أسباب تهجمي على الفنانين المحدثين والكتاب المعقدين. ليس لدينا الوقت لحل طلاسم أعمالهم. والمفارقة في الموضوع هي أن هذا النوع من الأسلوب ظهر في عصرنا هذا بالذات، والواقع أن كثيرا من روائع الأعمال الفنية أصبحت لا تنسجم مع عصرنا هذا، كل هذه الأوبرات والسمفونيات والكونسرتات والقصائد الطوال والروايات.. التي لا نهاية لها، ألفت لنخبة من الموسرين الذين لا عمل لهم في الحياة غير التمتع بها، وفي عصور كانت وسائل المتعة فيها محدودة . لا بأس عندئذ أن يجلس الأرستقراطيون فيستمعوا لمدة أربع ساعات لأوبرا بوريس غودنوف . أو يواظبوا على الحضور لعدة أيام ليستمعوا إلى سلسلة الخاتم لفاغنر.
الفرصة الوحيدة للكثيرين منا - وأنا منهم - لسماع الأغاني أو الموسيقى تقع في أثناء الحلاقة أو قيادة السيارة وهلم جرا.. ولهذا الضرب من الحياة ظهرت الآن " المختصرات "، مختصر رواية " الحرب والسلام "، ومختصر سمفونية بتهوفن التاسعة وهكذا. وظهرت أيضا " المتنوعات "، وهي التي تضم نتفا أو مقتطفات مفضلة من الأعمال الكبرى الطويلة. في هذه المتنوعات، يستطيع الإنسان أن يدخل ويخرج بسهولة وبدون التزام في سماع كامل القطعة أو قراءة جميع الكتاب. لم يعد لدينا ذلك الوقت الذي كنا نكرسه لحفلة من مطولات أم كلثوم، كما كنا نفعل قبل مجيء التلفزيون والفيديو والبث الفضائي.
المفارقة الثانية في غموض الحداثة وتعقيدها هي أنها جاءت ضد فكرة الالتزام بخدمة المجتمع، التي سادت وتمسك بها الكثيرون من الأدباء والفنانين في عصرنا هذا، ومارس هذا الغموض في كثير من الأحيان كتاب يعتبرون أنفسهم ملتزمين.
ويتجسم هذا التناقض أكثر فأكثر عندما نتذكر أن الغموض كان حتى العصر الحديث يعتبر رذيلة ونقيصة في الفن . كان سقراط يعتبر المعرفة الواضحة أساسا للفضيلة ، وبها يعيش الإنسان فاضلا وسعيدا . واعتبر أرسطو إصلاح العيوب غرض الفن والأدب . وعرف العرب البلاغة بأنها بلوغ المعنى بأقل الكلمات. وتناول الجاحظ هذا الموضوع فقال في البيان والتبيين:
" وهذه الخصال هي التي تقربها من الفهم وتجليها للعقل وتجعل الخفي منها ظاهرا والغائب شاهدا والبعيد قريبا. وهي التي تلخص الملتبس وتحل المنعقد وتجعل المهمل مفيدا والمقيد مطلقا والمجهول معروفا والوحشي مألوفا وكلما كانت الدلالة أوضح وأفصح كانت الإشارة أنفع وأنجح والدلالة الظاهرة على المعنى الخفي هو البيان الذي سمعت الله عز وجل يمدحه ويدعو إليه ويحث عليه. وبذلك نطق القرآن ، وبذلك تفاخرت العرب وتفاضلت أصناف العجم ".
لقد عبر الجاحظ في ذلك عن الاتجاه الفكري السائد حتى العصر الحديث والذي وصل أوجه في عقلانية القرن الثامن عشر. كل شيء يخضع للعقل، ويمكن تفسيره وإدراكه بالعقل. ووصلت هذه المدرسة أوجها في فرنسا ، وكنقيض لها وتحد للهيمنة الفرنسية، ظهرت الثورة الرومانطيقية في ألمانيا فهاجم ملر، رائد الحركة الرومانطيقية، العلم والعقل والقانون. لا يوجد شيء ثابت وكل القيم تنمو وتتطور. ودعا الرومانطيقيون إلى التأكيد على الأساطير والرموز والطبيعة والوحشية، وفي بريطانيا هاجم وليم بليك العلماء الذين حاولوا تقييد العالم بمعادلات رياضية، ووصف عصر العقلانية بالقفص، والعلم بشجرة الموت أمام الفن الذي هو شجرة الحياة.
والمعروف أن وليم بليك كان مصابا بمس من الجنون، وكذلك كان سترنر في ألمانيا الذي انتهى فعلا في مستشفى المجانين. وكان يرى أنه يجب تغيير كل المؤسسات والنظريات باستمرار، لأنه لا يوجد شيء ثابت. وقد أدى هذا الرفض للعقل والعلم والثبات وهذا التأكيد على الأسطورة والرمز والصيرورة المستمرة، إلى الغموض والتعقيد المقصود وانغلاق المعنى في عالم الفن والأدب والفكر عموما.الاستنتاج في نظر الشاعر وردزورث نوع من القتل. الكلمات لا تفي بالغم لأنها تحدد الأشياء في رأي هرمان.
الغموض في مدارس الفن
ولعبت الحركة الرومانطيقية دورا كبيرا في إحاطة المدرسة الحديثة بالغموض والشذوذ الذي يقرب في كثير من الأحيان إلى الغرابة في أفضل صوره والجنون في أسوئها . هذه المشكلة التي يلمسها الغربيون تتحول إلى داء عضال عندنا لعدة أسباب منها حروفنا العربية غير المشكلة والتي تجعل القارئ غير واثق من الفعل أو الفاعل والمفعول. منها أيضا شيوع الأخطاء المطبعية في مطبوعاتنا إلى الحد الذي جعلنا نعتبرها جزءا من مثالب تراثنا الفكري. وفي إطار اللغة أيضا نعاني من مشكلة عدم توحيد الاصطلاحات والمفاهيم أنا أقول " رومانطيقية "، وغيري يقول " رومانتيكية" ، وآخرون يقولون " رومانسية ". هناك من يقولون المدرسة " الكلاسيكية " وسواهم يقول المدرسة " الكلاسية "، ويقول فريق ثالث بل المدرسة " القديمة ". وليس في الحروف العربية ما عند الغربيين من الحروف الكبيرة ( Capital letters ). وأخيرا هناك مشكلة انعدام الخلفية ،. فنحن لم ننشأ ونتعلم في مدارسنا وبيوتنا على هذه الاتجاهات والاصطلاحات . قراءة الفكر الحديث باللغة العربية يشكل معركة طاحنة ، على ما هو عليه من تبسيط ووضوح. فما بالك عندما يتعمد الكاتب الغموض والرمز ؟ وعندئذ يتحير القارئ، هل ما يقرؤه هو تغرب مقصود من الكاتب، أم هناك غلطة مطبعية، فأين هي؟.
الفنان المعاصر يواجه هذا المفترق حيال هذا التنافس الحاد على اهتمام الجمهور، إما أن يتعامل مع عنصر الوقت فيقدم بضاعته مطبوخة ومعلبة جاهزة للاستهلاك الفوري، وإما أن يرتضي لنفسه بالأقلية من النخبة المتفرغة لموضوعه أو فنه.
أجهزة الإعلام تحاصر الغموض
لم يعد الفنان أو الأديب يعيش. في القرن التاسع عشر عندما كانت قراءة النصوص أو تقديمها مسرحيا المتعة الأدبية الوحيدة المتوافرة للجمهور، وكان بإمكان الأديب أن يفرض إرادته وشروطه. إنه يواجه الآن المنافسة من القنوات الأخرى ابتداء من السينما إلى التلفزيون والراديو. وقبل كل شيء هناك قناة السياسة والشئون العامة. كانت الديمقراطية في العصر الرومانطيقي ( أوائل القرن التاسع عشر ) وقفا على عدد محصور من الناخبين. أما الآن وبعد إعطاء حق التصويت للجميع وانتشار التعليم، فقد ظهرت ظاهرة الاهتمام الشعبي بشئون السياسة التي راحت تفرض نفسها على المواطن عبر مختلف القنوات والوسائل الوطنية والأجنبية. الاستماع إلى نشرات الأخبار وحده أصبح في صدارة الاهتمام الجماهيري بالشئون الفكرية. ورغم بساطة هذا الاهتمام السياسي وسذاجته أحيانا، فإنه أصبح منافسا قويا للأدب والفن. وألقى ذلك على الأديب أو الفنان واجب تقديم بضاعته بالشكل الذي يمكن استهلاكه بسلاسة وشر قبل أن يدير المستهلك الراديو إلى نشرة الأخبار، أو يقلب الصفحة إلى صفحة الجرائم أو مباريات كرة القدم.
تفرض كل هذه الاعتبارات علينا واجب التبسيط والوضوح في أساليب تعاملنا مع اللغة والألوان والأصوات، أدبا أو رسما أو غناء وموسيقى.