قصص على الهواء

قصص على الهواء

قصص لأصوات شابة تنشر بالتعاون مع إذاعة بي. بي. سي العربية
لماذا اخترت هذه القصص الأربع؟

----------------------------------------------

في قصة «ثلاثتهم دهاقنة حرباوات لدنة خضراء برائحة تعبق». يرسم عثمان شنقر بمكنة وثقة وألوان مؤثرة ثلاث شخصيات، لا فكاك بينها، فكما وحّدتها الطبيعة، فالمدينة، وحّدها السرد. ومثلها جاء رسم الغول، أي الفضاء الصحراوي الرملي، حيث كل شيء تحول إلى لاشيء, وكذلك جاء رسم الغول الآخر: الفضاء المديني، سوى أن الأول واضح، أما الثاني فأمرّ وأدهى. تذخر القصة بالصور الطازجة والبديعة، كتلك التي تجلو العنوان، وقد اقتحم السارد القصة مرتين، فضاعف من نشاط السرد حين نصّ على أن هناك ما يفعله الشبان «خلافاً لمشيئة السرد»، وكذلك حين سرّب سخريته في قوله «المساء يختلف قليلاً مضفياً عناصر ذات طابع فولكلوري مطلوب بشدة في الأدب الحديث، خصوصاً الروائي». ولم يكن هذا الاقتحام المؤطر بين قوسين كل مرة، أقلّ مكراً من الانتقال من لسان السارد إلى ألسنة الشبان معاً، وهم يستعيدون الموسيقى الكونية، موسيقى الطبيعة، حمى الرقص والصخب على إيقاع النقّارة، من الماضي إلى الحاضر، فإذا بهم ثلاثتهم في خاتمة فجائعية للقصة، «صرعى حمى غريبة تحوّل فيها الجسد إلى مشتعل». تلك هي القصة التي اخترتها للمرتبة الأولى.

***

أما القصة التي اخترتها للمرتبة الثانية، فهي قصة (الأطفال الأشقياء) للسوري موفق مسعود. وقد جاءت في أربعة مقاطع صغيرة، كل منها بمنزلة مشهد، وكما يليق بتكثيف العبارة وبالعبارة المشحونة، مما عرفته من قبل في قصص منشورة عديدة لهذا الكاتب.

في ليل الثلج ترسم القصة رجل الثلج الذي صنعه (الأطفال الأشقياء)، كما ترسم الطفلة التي تقبله «قبلة لن يقطف مثلها في حياته المقبلة برمتها». وفي المقطع الثاني ينبض قلب رجل الثلج: إنه الحب الذي سيدفعه في المقطع الأخير إلى نافذة حبيبته. لكن الأطفال الأشقياء نسوا أن يصنعوا له قدمين. وقبل ذلك، في المقطع الثالث يصنع الرجال فزاعة، بلا قلب ولا مخيلة، وتريد رجل الثلج زوجاً، وتطلب منه أن ينزع قلبه النابض المسكون بحرارة الشوق التي ستذيبه. تتلاحق وتتفاعل الصور في القصة بسلاسة. فالطفلة تضع لرجل الثلج حبتي كستناء كعينين، والحبتان تتوهجان، والعينان كأجنحة الفراشات. ولن تجد الطفلة في الصباح، في خاتمة القصة، سوى الفزاعة الشامخة، وحبتي الكستناء، بعدما ذاب رجل الثلج وجداً «بصاحبة تلك الكفين الصغيرتين وتلك الشفاه الناعمة». وبالطبع، كان على الكاتب أن يكتب «بصاحبة تينك الكفين الصغيرتين وتينك الشفتين الناعمتين».

***

للمرتبة الثالثة اخترت قصة (بيت موصلّي) للعراقي فارس سعد الدين السردار. واللافت فيها هو تأثيث المشهد بحذاقة، ولعبة مخاطبة السارد للمنزل كشخصية، وكذلك هو توزيع اللحظات السردية بالتدرج، والكشف رويداً عن كل لحظة، مما وفّر التشويق قبل أن ينجلي سقوط الدار بفعل الزمن، فيشتبك التلاميذ والأهلون والتاريخ في مشهد الانهيار.

وتبقى القصة التي اخترت للمرتبة الرابعة، وهي (ثقوب غير منظمة) للمصرية حنان فاروق، حيث تتقد المخيلة وهي تقدم الساردة العائدة من إجازتها إلى العمل، حيث يلفت زميلتها ثقب فيما ترتدي. ومن حين إلى حين، من حركة إلى حركة، يصير الثقب ثقوباً، حتى إذا حان وقت الخروج من العمل، بدت المرأة عارية. وهكذا سرت الدلالة بلطف وأناة، لتعري ما في روح الفرد وجسد المجتمع من ثقوب. ولئن كانت هذه التعرية قد شغلت القصص الأخرى أيضاً، فمن اللافت في القصتين الأوليين أنسنة الطبيعة، لتليها أنسنة المنزل (الدار) في القصة الثالثة. أما الأهم فهو ما توفّر للقصتين الأوليين من مكنة ومن بهاء.

-----------------------------------------
ثَلاثَتُهُمْ دَهَاقِنَةٌ حِرْبَاوَاتٌ لَدِنَةٌ خَضْرَاءُ بِرَائِحَةٍ تَعْبَق
عثمان شنقر (السودان)

طيلةَ أسبوعٍ كامل، لم يكن هنالك ما يفعلونه، متَّكئين تحت أشجار النِّيم، سوى كَرْع كميّاتٍ كبيرة من المَرِيْسَة التي يبدو أن (بِتّ النُّور) لم تبذل أيَّ مجهود في أن تجعلها مُسْكِرَةً كما ينبغي. إضافةً إلى كونهم عاطلين عن العمل، كان هنالك وقتٌ مَهُول من الفراغ يقضونه في لعب السِّيجَة ومطاردة فَسَاتِين بنات معسكر النَّازحين العجفاوات، ذلك بالطبع قبل تَوَغُّلِهم الوئيد نحو المدينة التي اقتحموها فيما بعد مثل ثيران شَبِقَة.

يقضون نهارَهم في بيت (بِتّ النُّور) جوارهم جَرَادِل الزِّنْك الممتلئة ذات الزَّبد، حيث كان عليهم، لوقت قليل، الاستيقاظ باكراً، ذلك قبل توثُّق معرفتهم بصاحبة البيت، التي تبيَّن لهم أنَّها من قرية تجاور قراهم؛ غارقة في الرَّمل حتى كِيعَانِها. كانوا يستيقظون باكراً للّحاق بأول مَرِيسَة؛ قبل فَتْح زِير الفخَّار المغطَّى بجوَّال خيش رطب تنمو في حوافِّه أعشاب صغيرة، حيث رائحة الذُّرَة المتخمِّرة تعبق ملوِّنةً تلك الصَّباحات بفرحٍ أصيلٍ ورؤيةٍ مَغَبَّشَة تُحَوِّل البيوتَ الطينيَّةَ الواطئةَ في عَدَسَات عيونهم إلى هياكل معتمة.

يخرجون من ذلك البيت يتخبَّطون في خيوطٍ غير مرئيَّةٍ يَنْسِلُها كلامُهم الصباحيُّ المتعثِّرُ، بحيث يرونها كلَّ يومٍ خارجين من فناء الدَّار. يدور الحوار بينهم متعثِّراً أوَّل الأمر لا يكاد يستند إلى شيء متماسك؛ ممَّا يجعله ينهار دفعةً واحدةً ويركد. على هذه الوتيرة يتعثَّر حديثهم زمناً طويلاً، حتى يهيََّئ الله لأحدهم إخراج جملة ذات جَرْس ومعنى، فيتفجَّر الموقف، يتراكضون هنا وهناك، كُلٌّ يَقذِفُ بجُمْلَتِه في فَمِ الآخر مباشرةً، يُقْلِقُون تلك الصَّباحات الرَّخْوَة بحُمَّى الفوضى والتَّهريج.

لم يكن لهم في المساء سوى المقاهي المضاءة بالرَّتَايِن، تُقَدِّم أنواعَ المكيِّفات والمشروبات كافَّةً من قهوة وشاي وحليب وحِلْبَة.

جمعَتْهم، ذات ليلة ممطرة، طموحاتٌ وآمالٌ موءودة. وقفوا في وجه الريح طويلاً، لكن الرِّمال الناعمة اشتدَّ لسعها الحارق على الوجوه والسِّيقان والأذْرُع. لم يقولوا كفى للجَّفاف الذي ضرب الأرض، وما فتروا من ملاحقة اللَّون الأخضر؛ يُدَرِّجُونَ نحوَهُ بهائمَهم الضَّامرة. على امتداد الرِّمال الشَّاسعة، وقفوا متأملين الآيات والعلامات تنشأ على ملامح الأرض منبهرين من مقدرة الجَّفاف على مَحْو الأخضر. حاولوا فَهْم الحكمة من ذلك؛ كُلٌّ حسب خبرته. طويلاً وقفوا أمام الأرواح كافَّةً تَزْهَقُ وتصعد. الناس والبهائم والنَّبَات؛ كُلُّ شيء كان يموت. تنادوا، على أمل صنع شيء يوقف زحف الموت الشَّامل. أصابهم جنونٌ لحظيٌّ فرضخوا.

تجوَّلوا بين بائعات الشَّاي إذ يئسوا من ملل الحديث المتواصل والتذكارات المؤلمة، مُتَفَادِينَ شِرَاكاً خفيَّة، تفاحشوا بقسوة مع البائعات اللاتي تضاحكن منهم ومن حلاوة حديثهم المكسور بلُكْنَةٍ ليِّنَة، نظرْنَ إليهم بإعجاب، تَمَنَّيْنَهم في سِرِّهنّ.

تضاءلت صورة العالم، حين أجبرت الصحراء ثلاثَتَهم على السَّير سبع ليالٍ على الأقدام إلى صورة باهتة لا طعم لها. يسيرون ليلاً مهتدين بالنُّجوم المراوِغة؛ ونهاراً ينامون تحت ظلِّ رقراق الأشجار الشَّحيح تتقدَّمهم بهائمهم الضَّامرة، التي، كل يوم تنقص واحدة أو اثنتين، يتركونها لمصيرها.حين شارفوا تخوم المدينة من الجهة الغربية أغْرَتْهُم الأضواء المتلألئة فظنّوها نهاية العناء والرَّهَق. فيما بعد تكشَّف لهم سحر أضواء النيون عن غُول يفترس كل شيء.

بذاكرة الثأر اقتحموا المدينة مثل ثيران شبقة. تحيَّروا في دخولها. المداخل كثيرة، كل مدخل يفضي إلى اتجاه. المطلوب في النهاية هو المدخل الصحيح. تجوَّلوا داخل المدينة بعيون شرهه تلتهم كل شيء. التهموا في سِرِّهم الفَتَياتِ ذوات الفَسَاتِينِ القصيرة والجسد البَضّ، الدَّجاجَ المحمَّرَ في الشَّوَّايات، الملابسَ المستوردةَ داخل الفترينات، السياراتِ البيضاءَ والحمراءَ ، بائعاتِ التَّسَالي والفُول، عرباتِ التاكسي الصَّفراء، المكتباتِ والصُّحفَ اليومية، رجالَ البوليس والقضاء الشَّرعي، أروقةَ المحاكم والمطلَّقات، اللُّصوصَ ومُوْدِعي الأرصدة في البنوك، البهائمَ المعلوفةَ وأكوامَ البرسيم، الحَلَوِيَّاتِ وصَوَانِي البَاسْطَة والرَّغيفَ التُّوسْتَة والأفرانَ بعجينها المتخمِّر، ؛ كُلّ شَيْء. كُلّ شَيْء.

تَعِبُوا من الالتهام المتواصل. العين لا يملاها إلاَّ التُّرَاب؛ قالوا كثيراً. أصاب اللُّهاث صدورَهم، فأصبحوا يعالجون شُئونهم بتَرَوٍّ وصبر.

وسط النسوة البائعات، بَرَقَت الفكرةُ دفعةً واحدة. كانت لا تُقَاوَم. تجاذبوها مع النسوة اللائي تحفَّظْنَ قليلاً لكنها راقت لهنّ في السِّر. إحدى النسوة أطلقت زغرودة متعثرة، قاومت خجلها قليلاً ثم انطلق صوتها مهولاً ثم أخذت ترشُّ ثلاثتهم بالماء... بالمطر.

انطلق الثلاثة في رقصة صاخبة على إيقاع النُّقَّارة وصِفِّيق المتطوِّعين الذين طوَّقوهم من كل اتجاه، بينما انطلق صوت يحمحم بالغناء.

كل شيء بدا متعثراً؛ نقرات النُّقَّارة، صوت الزغرودة، رقصة ثلاثتهم، صوت المغنِّي تتالت ضربات الأرجل على الأرض، وانسجمت مع الإيقاع، فيما الأكف تغلي بالتصفيق الساخن، تعقبه أصوات دافئة تشيل الغناء وترجعه. تُوحِّد كل شيء في شيءٍ واحد: الفرح.

طالت الرقصة آماداً طويلة، ثلاثتهم كانوا يدفعون أجسادهم في أتونٍ يغلي بالفرح، وثمة رغبةٌ مبهمةٌ تتحرَّكُ في دواخلهم، تحفزهم على الثأر من كل لحظةٍ ضاعت، الثأر من أي شيء.

حاول بعض الذين يطوقون الحلقة الرقص؛ الوثوب نحو دائرةِ الفرح على الإيقاعات المحمولة، لكن أنس الثلاثة منعهم، لم تكن رقصةٌ، كما كان يبدو لهم، رأوها تحولت إلى معايير عجزوا عن معرفتها وسبر كنهها، لكنهم أحسوا بها، ثلاثتهم صرعى، وحمى غريبة تَحوَّل فيها الجسد إلى كبريت مشتعل.

الأطفال الأشقياء
قصة : موفق مسعود

اليدان الصغيرتان اللتان وضعتا حبتي كستناء في وجه رجل الثلج، كانتا دافئتين وناعمتين كأجنحة الفراشات، وبعد أن غرست الطفلة ذات السبعة أعوام عيني رجل الثلج، أصابتها قشعريرة مباغتة ولمعت عيناها ببرق مشاكس، حيث تلفتت يميناً وشمالاً كلصٍ محترف، وحين تيقنت من أن الجميع قد ذهب، وأنها وحيدة في ذلك العصر الشتائي مع رجل الثلج، أحاطت وجنتيه بكفيها الصغيرتين، ولفحت أنفاسها وجهه، لتطبع على فمه قبلة طويلة، وتهرب إلى البيت، حيث ستدخل تحت اللحاف الصوفي مسرعة، لتغمض عينيها وهي على أهبة الاستعداد لمتعة حلم تلك الليلة, لمتعة لن تقطف مثلها في حياتها القادمة برمتها.

تلك الليلة هطل مزيد من الثلج على القرية, وتدنت درجات الحرارة بشكل كبير.. لكن رجل الثلج المتروك وحيداً في عزلته البيضاء... أحس فجأة أن قلباً بدأ ينبض في صدره، واشتم رائحة أنفاس تلك الطفلة التي علقت على فمه المحفور على شكل موزة، وتوهجت حبتا الكستناء، فبدأ يرى العالم من حوله، كان يتنفس، ويرى، وصار ذا قلب ينبض! وكان أن صنع بعض الرجال على مقربة من رجل الثلج، فزاعة كبيرة،من الخشب والأقمشة المهترئة، لإخافة الطيور المنهكة والمريضة من رحيلها الطويل، والتي يمكن أن تنقل الأمراض إلى طيور الأهالي الداجنة، كانت الفزاعة بلا قلب أو مخيلة، تشبه كل الكائنات الجامدة التي يصنعها البشر، وكانت تشعر بسعادة باردة، لأنها تمارس دورها كفزاعة وفق منطق الأشياء الجامدة، لكنها ذلك الليل, همست لرجل الثلج بأنها تريده زوجاً، ولكن ما أثار فزعها، هو أن رجل الثلج كان يتنهد كالبشر من وطأة لهفة حارقة، اهتزت مع الريح قائلة له بأن عليه أن ينزع قلبه النابض، لأن القلوب النابضة مسكونة بالحرارة، وسوف تذيبه حرارة أشواقه إذا بقي هكذا،,,

كان رجل الثلج لا يسمع سوى وجيب قلبه، ولا يشم سوى رائحة أنفاس حبيبته الصغيرة, ولا يرى سوى تلك النافذة التي تخبئ خلفها حلمه الأول والوحيد في هذا العالم البارد.

ظل رجل الثلج طوال تلك الليلة يجاهد لاهثاً محاولاً الحركة، وكلما شعر بالإنهاك تضطرب أنفاسه من وطأة الحنين الشاهق لحلمه، كان يتنهد بحرقة ثم يعود إلى كفاح روحه لتحريك جسده الثلجي المتجمد، كل ما يطمح إليه في هذا العالم هو الوصول إلى حافة تلك النافذة، لمرة واحدة فقط، كي يغني حتى الصباح كما لم يفعل عاشق من قبل، لكن الأطفال الأشقياء نسوا أن يصنعوا له قدمين ؟!, وبالرغم من هبوط درجات الحرارة، والهطول الغزير للثلج، كان يشعر أنه يذوب وجداً بصاحبة تلك الكفين الصغيرتين، وتلك الشفاه الناعمة.

في صباح اليوم التالي... نهضت الطفلة من فراشها، كعاشقة, ركضت مسرعة إلى الخارج...

كانت الفزاعة تقف بشموخ من أراد الحياة، بحثت عن رجل الثلج فلم تجد منه سوى حبتي كستناء على بساط الثلج الأبيض.

بيتٌ مُوصليّ
فارس سعد الدين السردار

إنشطر الزير، وتدحرجت (الطاسة) النحاسية بنقوشها القرآنية لتضرب الأرض الرخامية. بينما جرفت موجة الماء دفعة واحدة شتلات الشبو والقرنفل التي انتهى من غرسها تواً. تذكر وهو يحاول أن يعتدل بقامته أنّ صوت صافرة الإنذار كان يطوف بالمكان، لكنّ غباراً كثيفاً وركاماً كانا قد أخذا ينهالان عليه. اندفعت يداه محاولتين أن تحجزا ذلك عنه، لكنهما عجزتا. فتهاوى.

طرق الباب يأتي من بعيد، يخفت تارة ويشتد. افتحوا الباب. لم يحن موعد الانصراف من المدرسة بعد. ربما درسهم الأخير كان شاغراً.

هل تهاوت السقوف أخيراً؟ كنت أعرف أنها لن تصمد، فالزمن ألقى بكاهله على الدار وأمعن بالضغط. دون أن يمنحنا الفرصة بإعادة تأهيله.

ليس عدلاً أن لا أرعاك، لتبقى تشد من أزرك وحدك، تبتكر طرقك لتبقى فترة أطول، فمرة تتكئ على قوس الإيوان، وأخرى على الركن الشمالي. كنت اسمع صوت أنينك في الليل عندما تسدل الجفون. أطوف لأمسد على جدرانك متحسساً ومؤاسياً. كانت بيننا وعود تأخرت كثيراً في إنجازها. أنت تعرف الأسباب، فأنت لم تكن منزلاً فقط بالنسبة لي، بل حياة استلمتها من أبي لأسفحها في جنباتك. ولم تكن جدرانك مجرد جدران أحاطتني حتى أصبح كهلاً، قد تقوى الأيام على النيل منك، فتغور كمعلم تحت طمى انجراف الأمنيات، وتصبح طللاً. ويصير المرور بالقرب منك فعلاً عابراً لا ينكأ جرحاً، أو يثير حسرة. لكن تحت سقوفك حيكت ألفة ونشيج وكركرات. عرّشت لتتدحرج من أرحام الحجرات أفواه وعيون زرق وسود وخضر تأخذ العقل استعارت بهاء السماء ونباتات الحديقة.

أقترب موعد خروج التلاميذ من المدرسة. والشارع اللعين مكتظ دائماً بالعجلات المندفعة على الغالب لغايات ساذجة.

الواجب يقضي أن أتلقاهم وهم يجتازونه، عن ماذا أحدثهم وأنا أهيء وجبة الغداء. عن (سواره توكة) أم اسطنبول، أظن أني اشتاق كثيراً للبحر. ما كانت اسطنبول إلا عروساً ترقص على إيقاع غجري مشحون بروح الحرية، وقلاعاً تخرج من حافات الموج، ستلهب مخيلتهم قناديل البحر التي تسرب طيفاً أزرق ممزوجاً برائحة الموج عبر أجسادها الشفافة، وسأجعل لعابهم يسيل عندما أعرج بحديثي على عرانيص الذرة المشوية، وأطباق السمك المقليّ. وسأزرع في خيالهم روح الاستكشاف وأنا أصف مراكب الصيد العائدة مع المغيب، وكذلك سفن السياح العائدة من جزيرة( بيوك أده) بعد أن طافت بهم حول أساطير الماضي سأتركهم يقيلون، حيث كل منهم قد أبحر لزاوية من زوايا الحلم. لن أتحدث عن الشعر الأسود المنفلت كشلال ضوء، والقامات الطويلة كقضيب البان. لن يدركوا بعد ما يعنيه سحر العيون السود.

أيها المتهالك كم ذدتُ عنك بحوارات مملة، لتصحيح ما اعترى وجهات نظر الآخرين من امتعاض تجاه رؤية البنّاء القديم من حرص على استيعاب أشعة الشمس، وانفتاح لفضائك المفرط على السماء التي اختزنتها ذاكرته كإرث موغل في قدم المهارة التي جاءته من سومر وبابل وأشور، فاسحاً المجال أمام عبث الريح المشحونة بالبرد والأمطار. إلا أن السنين لم تستطع أن تروض إرادة أم خالد التي أذابت سنيّ عمرها في ممراتك، لتفشل في النهاية في خلق علاقة انسجام بين شحنات الطبيعة وإيقاع الرتابة اليومية. فبات كل منا حريصاً على ما نما بينه وبين الفته من انسجام، مكبلين بمعاني مختلفة من الشد والحب والنفرة، خاصة وانتم تكبرون مخربشين على الجدران. لكم تاريخ أستطيع تتبع انهماره بسهولة، ابتداء من عامود قياس الطول، ودكة القفز، والأرجوحة وسط الإيوان. وأبعاد عوارض هدف كرة القدم المرسوم على الجدار، ومخطط لعبة(الجولة) على أرض (الحوش). كثيرا ما توقعنا أن يحدث شيء. تنهار السقوف والجدران بفعل التقادم الذي أفصح عن نفسه بالشروخ المتوزعة على السقوف المبنية بنظام العقد المعتمد شكلها على حجم الغرف فبعضها (عقجين) والأخرى(مهد) والأخريات (قباب) وكان السطح الكلسي يستجيب بشكل متواز لما يتوزع على السقوف من شقوق. فتشاركنا أمطار الشتاء دفء جلساتنا لذلك كان تسييح القار يكسب السطح لمعاناً أسود يحجب الخرير بعض الوقت.

سكت المؤذن. لم أصلِّ العصر بعد. تهاوت السقوف/ والتلفاز لا يزال يبثّ برامجه.

خالد: دع الأولاد يدخلون، لقد ملوا الطَّرق على الباب، ليساعدهم أحد ما.

تهاوى الدرج المفضي إلى (الحوش) ذي الأرضية الرخامية التي تلتقي بامتدادها مع ارض الإيوان قبل أن تشطره الحديقة إلى ممرين واسعين تتراصف على جنباتهما الأصص المزهرة، متوائمة مع نباتات الركن المبني بالرخام الموصلي المعتق بتعرقاته النباتية الزرق التي تدعو للتأمل فيما أبدعه البناء القديم.

لم يكن اختيار هذا الركن عبثاً، استقرت عنده التخوت. هنا تبدأ الشمس بالانحراف لتنحدر نحو الأفق مهيأة المكان لجلسة صيفية. تشاكسنا فيها الكرمة عبر لعبة الضوء والظل. وتحت هذا العبث الذي عمقه في النفس ضجيج العصافير، كان خالد يكبر.

وهنا باح لي بهواه. فأدركت أن المنزل سيبقى.

تزوج خالد. جلس هو وعروسه في هذا الركن. شذبت الأشجار ورششت الأرضية ووزعت الكراسي، وأتممت ما أنجزه أبناء العم والخال والأصدقاء وأقسمت أن أرقص على إيقاع الطبل البلدي. استدعى صوت الطبل كل الصبية والفتيان في البدن والمياسة وخزرج، ورجوت نساء المحلة وبناتها اللواتي تحلقن حول سياج السطح المطل على (الحوش) أن لا يبخلن بالزغاريد. فألتهب الأفق حماسة، ونزلت إلى فضائه الذي اتسع لحد لم أتصوره محتضناً ما اعترى جسدي من قدرة على الرقص. فتىً كنت رشيق الخطو، وكلما كانت عيناي تلتقيان بعيني أم خالد الجالسة بوقار. غطت وجهها بملفعها الأبيض كاتمة ضحكة كان قد استعصى خروجها من القلب زمناً. وجاءت زوجة خالد من بيت موغل في القدم والعراقة لتولع بالمكان مثلي، فألفتها وحرضتها على الإنجاب. أريد أولاداً.. أولاداً. إملأوا لي البيت أولاداً.

ثقوب غير منتظمة
د. حنان فاروق - مصر

انتهت الإجازة وعدت إلى مكتبي أجرجر قدمي.. لم يعد بي رغبة لمواصلة العمل.. كل يوم يزداد تثاقلي.. مع ذلك أوحشتنى غرفتي.. حين فتحت بابها هذا الصباح وجدتها متشوقة إليّ.. جلست بعض الوقت أنجز فيها بعض مهماتي اليومية ثم خرجت كعادتي لتناول الشاي مع زميلاتي.. فى الردهة صادفتنى إحداهن ووقفت تستشيرنى فى بعض أمورها.. لاحظت أنها تصوب نظراتها لجزء بعينه فى الثوب الذى أرتدي.. بتلقائية تحركت عيني تجاه نفس المكان فوجدت ثقباً غير منتظم قرب الذيل.. ارتبكت زميلتي ثم سألتنى مندهشة عن سبب هذا الثقب الذى لم يكن موجوداً وقت أن التقتنى أثناء توقيع الحضور فى الصباح.. لم أجد بالفعل ما أقوله.. كنت أفكر فى كيفية استكمال اليوم به ومداراة العيب.. طمأنتنى بأنه غير ظاهر ونصحتنى بعدم الالتفات إليه حتى أعود للمنزل.. شرودي سحبني لغرفتي مرة أخرى عازفة عن أى صحبة.. بعد هنيهة رن هاتف مكتبي.. المديرة تطلبنى.. بالكاد قمت ثانية.. ذهبت إليها.. بادرتنى بابتسامة مرحبة وهي تكلفنى ببعض المهام الجديدة فجأة صوبت نظرها فى الاتجاه الذى أعرف.. تظاهرت بعدم الانتباه لكنها لفتت نظرى للثقب.. مثلت دور المتفاجئة الباحثة عن الثقب.. وجدته بسهولة بالطبع لكن فمي اتسع اندهاشاً وأنا أرى الثقب قد كبر وتضخم.. أغرقتني حمرة الخجل.. هزت المديرة كتفها وعلى وجهها علامة استفهام لم أستطع انتزاعها.. عدت إلى غرفتى وأنا أسير ملتصقة بالحائط حتى لا ترانى إحداهن ثانية.. قررت عدم الخروج من غرفتى نهائياً إلا عند ختام الدوام.. انكببت على العمل لأشغل نفسي عن الضيق الذى هاجمنى.. أنهيت الكثير من المهام.. سمعت صوت زميلاتي فى الخارج يتعجلننى فقد حانت ساعة الخروج.. وضعت أشيائى المتناثرة على المكتب فى حقيبتى وأطفأت الأنوار.. صوتهن يرتفع.. أجبتهن بأني قادمة.. أصواتهن ترتفع أكثر.. أصوات أقدام كثيرة متسارعة متجهة للغرفة.. لا أدرى ما الذى أصابهن.. (قادمة أنا قادمة) صرخت فيهن... أطلت وجوههن من باب غرفتي وأنا أخرج المفاتيح استعداداً للخروج وغلق الباب.. انقلبت نداءاتهن إلى صمت تام.. احتضنتنى إحداهن وبللت وجهي وأنا أسائلها عما أصابها وأصابهن.. دون أن تنطق خلعت عباءتها.. غطتنى بها..

 


نبيل سليمان