سقوط الموروثات محمد الأسعد

سقوط الموروثات

المؤلف: دانا زوهار

تؤكد الباحثة دانا زوهار. في كتابها "مجتمع الكوانتم" أن الإنسان المعاصر أصبح بحاجة إلى طريقة نظر جديدة إلى أهم مشاغله: السياسة والثقافة والمجتمع فالعلم المعاصر، بنظرياته مثل النسبية والكوانتم والتركيبة والهيولي، يقدم مفتاحا لمثل هذه النظرة الجديدة.

"نيلز بوهر" وهو أحد الآباء المؤسسين لفيزياء الكوانتم أو الفيزياء الكموية كما يطلق عليها بالعربية أحيانا، أحب أن يضرب مثلا يفسر الكيفية التي يستعصى فيها علمه الجديد على الفهم، فروى القصة التالية:

"استمع طالب شاب إلى ثلاث محاضرات لأستاذ شهير، ووصف فيما بعد هذه المحاضرات لأصدقائه، فقال إن المحاضرة الأولى كانت ممتازة جدا وقد فهمها تماما. وجاءت الثانية أفضل من الأولى وأعمق إلا أنه لم يفهمها ولكن الأستاذ المحاضر فهمها جيدا. أما الثالثة، فكانت أفضل من السابقتين عمقا وسموا إلى درجة أن الأستاذ نفسه لم يفهمها"!

وما أراد أن يقوله "بوهر" هو أنه مثل الأستاذ في قصته، لم يفهم أبدا العلم الذي ساهم في ابتكاره. وحتى الآن، ورغم مرور ما يقارب 70 عاما على تشكل صيغة هذا العلم، مازال عدد كبير من العلماء يعاني من مشكلة في توضيح وتوصيف الأفكار الأساسية لفيزياء الكم: اللاتحددية واللاسببية وثنائية الموجة/ الجزيء. وتلك المعادلة المسماة مفارقة "شرودنجر" الشهيرة التي تبرهن على أن قطعة ما قد تكون حية وميتة في نفس الوقت.

لهذا السبب ربما نجد معظم الناس العاديين غير واعين بأعماق الفكر الجديد الذي بدأ يرسمه علم القرن العشرين، ويفسر لنا هذا عجزهم عن تثمين إمكان التفكير العلمي الجديد وقدرته على تقديم نموذج يساهم في تحويل التفكير نحو حياة أوسع للإنسان، اجتماعيا ودينيا وسياسيا.

صحيح أن العلم يظل غالبا في طليعة الإنجازات الثقافية، وأكثرها تقدما، إلا أنه من جانب آخر يستمد وحيه من حركة التغيير الثقافي بكل ما فيها من غموض وهمهمة، ويحول هذه الحركة إلى استعارات وتصورات ولغات متماسكة. والأعمال العلمية الإبداعية في القرن العشرين تتخللها طرق تفكير جديدة جذرية: مفاهيم جديدة وتصنيفات جديدة ورؤى جديدة إلى الواقع الفيزيائي والبيولوجي، وكلها يشير إلى قطيعة حادة مع كل شيء تقريبا أكده وأعزه العلم في القرون الماضية. وجاء التحول إلى هذا التفكير الجديد مفاجئا وعميقا إلى درجة دفعت البعض إلى تسميته بثورة العلم الثانية.

أصل الثنائية الغربية

كان العلم القديم الذي خرج من ميكانيك أو فيزياء "نيوتن" في القرنين السادس عشر والسابع عشر يؤمن بالحتمية والاختزالية والذرية، فالأشياء وفق هذا العلم تحدث لأنها يجب أن تحدث، وقوانين المادة تبرهن على أن بالإمكان من واقعة ما أو التنبؤ بها (الحتمية)، وأفضل طريقة لفهم أي (كلية) هو اختزالها إلى أجزائها المكونة لها والنظر في تلك الأجزاء المعزولة (الاختزالية). ويتألف الواقع من جزئيات منفصلة تستعصي على النفاذ عبرها، وكل جزء معزول يقيم في مكان خاص به: في فضاء مطلق وزمان مطلق (الذرية).

هذا العلم لم يكن تطوريا ولم يكن له اتجاه. إنه يشدد على الأهمية الحاسمة للانقسام بين ذات وموضوع. ويقف المراقب أو الباحث المؤمن بفيزياء "نيوتن" في الخارج مفصولا عما يراقبه. ومن هنا التشديد في النظرة القديمة على "الموضوعية العلمية" والطلاق بين الموضوعية والذاتية، وبين الذهن والتجربة، وبين الوقائع والقيم. وساند هذا الانقسام الميول نحو الثنائية في عالم الغرب وأعطاه ثقافتين: العلم من جهة والفنون من جهة ثانية (ثقافة الشرق القديم لا تعرف هذه الثنائية).

العلم الجديد في القرن العشرين صنعته عدة نظريات: نظرية النسبية، وفيزياء الكم. ونظرية الهيولي، والنظرية التركيبية.

وهي نظريات مختلفة عن بعضها البعض إلا أنها تتشارك في نموذج عام. إنها تشدد على الأهمية الإبداعية للامتحدد وغير القابل للتنبؤ. إن انبثاقيتها ولا تأكدها المضاد للحتمية، كل هذا يساعد بشكل متواصل على ظهور المفاجيء وبروز أشكال جديدة منتظمة ذاتيا.

النظريات الحديثة هذه نظريات كلية: الكل أكبر من أي جزء من أجزائه. إنه ليس مجموع الأجزاء أيضا. وهنا تحل أنماط جديدة من العلاقات المتفاعلة محل التوتر القديم بين المعزول والمتصادم. وتشدد فيزياء الكم والنظرية التركيبية على الخاصية المتضاعفة للاحتمالات، وعلى ضرورة التفكير الكلي (الشيء هذا وغيره). فالضوء موجة وجزيء معا، ويمكن أن تكون الأشياء هنا وهناك أو في الآن وفيما بعد في وقت واحد. أما التطور فقد أعيد تعريفه مع المعرفة بأن الكون يتطور باتجاه محدد نحو تركيب أكبر تعقيدا بشكل متواصل.

وحل محل الانقسام إلى ذات وموضوع "المشارك" سواء كان باحثا أم مراقبا، فالباحث والمراقب في نظرية الكم يقف في قلب ما يراقبه الواقع الذي يبحثه أو يراقبه. وهذا يعني اطراح الموضوعية القديمة وحلول نوع جديد محلها يطلق عليه "الحقيقة ضمن الموقف" أو "الحقيقة، العلائقية". ويصبح التمييز بين الوقائع والقيم أقل وضوحا، فهذان الموقفان المعبران عن ثقافتين يجدان أنفسهما أكثر في الحوار المتبادل بينهما.

الثقافة والعلم معا

لم يحدث أن ظهر العلم بمعزل عن قضايا الإنسان أبدا. وكانت الثورة العلمية في القرنين السادس عشر والسابع عشر جزءا من ثورة ثقافية، وروحية أوسع تضمنت عصر النهضة والعقلانية، (ليبنتز وسبينوزا وديكارت)، وا ل! صلاح البروتستانتي. وقدمت العقلانية والإصلاح العقل، بوصفه العامل الحاسم في الخلاص ومقاربة الحقيقة. كما قدمت الفرد بوصفه العنصر الأولي في الفعل الديني والاجتماعي. وهكذا تم إعداد المسرح، فتأكيد "ديكارت" على الانقسام بين عقل وجسد مهد لانشغال "نيوتن" بالعالم المادي. وفرض ميل العقلانيين باتجاه مبدأ وجود الحقيقة الواحدة الإيمان بالموضوعية العلمية.

لقد كان عملا فذا، ذلك الذي قامت به الثورة العلمية حين ركزت ونظمت التيارات الثقافية الأوسع في مجموعة تصورات واستعارات جذابة وواضحة، ونجحت عمليا في مساندة هذه التيارات الثقافية والروحية. وأصبحت مفاهيم "نيوتن" حول الكتلة والقوة، وقوانينه الثلاثة للحركة، والمنهج التجريبي الجديد، رموزا مهيمنة ومعبرة عن نظرية عالم جديد. ويمكن القول إن كل المفكرين الاقتصاديين والاجتماعيين والسياسيين الكبار في القرن السابع عشر والقرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر قد اجتذبتهم هذه الرموز وأصبحت مصدر إلهامهم.

ففلسفة الميكانيك الجديدة تلهم المفكرين من "توماس هوبز" وحتى " جون ستيوارت مل" وتظهر جلية في كتاباتهم عن الدولة والمجتمع. وقد وصف الفيلسوف، جون لوك، نفسه ذات يوم بأنه "مجرد شخص يعمل بإمرة نيوتن الذي لا يماثله أحد" في إشارة واضحة إلى نظريته في الفردانية التي استمدها من النظرية الذرية. وسنجد آخرين يصدرون عن نفس المنبع: "آدم سمث" واقتصاده الحر، و"ماركس" وقوانينه في الحتمية التاريخية، و "داروين" و نظريته الاختزالية في تطور الأنواع، و"فرويد" وسيكولوجيته العلمية. وليس غريبا بعد كل هذا أن نجد "أوجست كونت "مبتكر مصطلح "علم الاجتماع" يصف علمه الجديد في البداية على أنه "فيزياء المجتمع" وفي الوقت الراهن ليس من الصعب أن يجد الباحث للكثير من الأفكار التقليدية الشائعة حول المجتمع جذورا في نظام تفكير وقيم الفيزياء الميكانيكية، مثل الميل نحو الاستمرارية والتأكدية والتراثية وضرورة وجهة النظر الواحدة (الانسجام الاجتماعي).

دخول النسبية

ومثلما كانت فيزياء نيوتن ابنة عصرها، كذلك الأمر مع فيزياء القرن العشرين الجديدة إلى حد كبير. فقبل ثلاثين عاما من ظهور أول فكرة قادت إلى إنشاء نظرية النسبية ونظرية الكوانتم، كان الفيلسوف الألماني "نيتشه" يدشن مرحلة "ما بعد الحداثة" بالهجوم على العقل والتقاليد ومبدأ وجود الحقيقة الموضوعية الواحدة والنظرة المتعالية التي تستطيع أن تمنحنا منظورا مطلقا إلى كل شيء، ووجد هذا الهجوم مساندة فيما بعد لدى المنظور التعددي للمدرسة التكعيبية في الفن التشكيلي، ولدى الفلاسفة الوجوديين الأوائل، وفي الجراح التي خلفتها الحرب العالمية الأولى. من جانب آخر، كانت منجزات ميكانيك نيوتن قد تغلغلت في الوعي الجماهيري وقوضت الكثير من الأفكار التقليدية ومعها السلطة الأخلاقية، للكنيسة الغربية.

في هذا المناخ الثقافي والروحي خرج "أينشتاين" بنظريته عن الإطار النسبي للمرجعية، ووضع نظريو الكوانتم مبادئ اللاحتمية والتغير المفاجئ وسياق المراقب في معادلاتهم. وخرجت من الباب مفاهيم التراتبية والتأكد المطلق ووجهة النظر الواحدة. ودخل نوع جديد من المنظور الديمقراطي، والقيمة الإيجابية للغموض، والتغير السريع غير القابل للتنبؤ، والتعددية.

وتكررت نفس القصة تقريبا، فمثلما ساهمت فيزياء نيوتن في طرد تخيلات جمهرة من المفكرين من حقول الثقافة والاجتماع والسياسة، بدأ هذا العلم الجديد بتقديم مخزون غني من التلميحات والاستعارات واللغة، ومجموعة متكاملة من التصورات جديدة تماما يمكن استخدامها لفهم التجربة المعاصرة، وتقديم مشهد عالم جديد أو نموذج جديد بدأ يبرز من رماد العالم القديم. ربما كانت هذه العملية أكثر وضوحا وتقدما في نطاق العلوم البحتة، عما هي عليه في العلوم الإنسانية، والسبب يمكن إدراكه بالطبع، وهو أن الاختبارات المعملية والنظريات الواضحة في العلوم البحتة تجعل التقدم هنا أسرع وتيرة. ولكن كيف يمكن أن يستنير الفكر الاجتماعي بهذا التقدم مثلا؟ سنأخذ هذا المثال الدال فحسب: قضية الماهية الإنسانية.. أو سؤال ما هو الإنسان؟.

هذه القضية أساسية بالنسبة، لأي نمط اجتماعي أو نفسي نود أن نقيمه. وفي هذا الصدد يواجهنا نمطان قديمان قائمان يناظر أحدهما الآخر، ويجري الاختيار بينهما عادة مع أن كليهما غير كاف، إنهما الأمواج والجزيئات في الفيزياء القديمة.

على الصعيد الاجتماعي تعتبر الفردانية الليبرالية من نمط "الجزيء"، إنها تنظر إلى البشر كوحدات منفصلة عن بعضها البعض مثل الذرات المنعزلة أو كرات البليارد. وتتفاعل هذه الوحدات بتأثير قوى خارجية. وفي هذا النمط يمتلك الأفراد حقوقا وعليهم واجبات، إلا أنهم أحرار من جانب آخر في السعي وراء مصالحهم وأهدافهم بشكل شخصي. وقد لاءم هذا النمط الحركية والطموح الاجتماعيين للقرنين الماضيين في الغرب مثل انهيار العائلة الكبيرة والتقاليد، إلا أن تكلفته كانت باهظة حين أنتج العزلة والاغتراب. وحتى حين بدأ الناس يهربون من هذا النمط إلى نمط أكثر دفئا وإلى هوية توفرها جماعة متقاربة أكثر من الناحية الدينية أو الإثنية أو الثقافية، كانت النتيجة في غالب الأحيان حدوث أزمات، على غرار ما يشاهد في البوسنة وشمال أيرلندا.

النموذج الاجتماعي المقابل أكثر جماعية في مقابل الفردانية، هذا النموذج ينتمي إلى نمط "الموجة".

ومثلما تتمازج حدود الأمواج الصوتية أو الأمواج المائية لتندمج في نموذج أكبر، كذلك ينظر الناس إلى أنفسهم أحيانا بوصفهم جزءا من عملية أوسع. إنهم بحاجة إلى هذا أحيانا. بحاجة إلى مثل إنسانية تمتد من الأخوية المشاعية مرورا بأنماط الحياة القبلية ووصولا إلى مثل المحبة. ومن المعتقد، في هذا النمط، أن الناس يصبحون ما هم عليه بوساطة شيء خارجي مثل التجربة الاجتماعية أكثر مما هو عبر سعي الأفراد للعثور على ذاتهم أو ماهيتهم داخليا.

النتيجة بالطبع ستكون نوعا من "السيولة"، حيث "الذات" هنا عبارة عن أسلوب أو نموذج قابل للتغيير تدريجيا. إنها ليست ذرة ثابتة. وشانها شأن "الأمواج" فإن حظها أكبر في امتلاك "هويات متعددة". إلا أن هذا النموذج، من جانب آخر، يمكن أن يؤدي إلى طغيان أو اضطهاد جماعي للأفراد من وجهة نظر سياسة. ومن هنا يأتي رد الفعل المتمثل بالعودة إلى فردانية متطرفة.

في ضوء العلم الجديد لا نجد أنفسنا ملزمين بتبني، إما نموذج الجزيء المتطرف أو نموذج الموجة المتطرفة. هذا الخيار كان قديما، وهو خيار ينتمي إلى فيزياء "نيوتن" وثقافتها الماضية. الماهية الأساسية في فيزياء الكم تمتلك كلا الجانبين: ما يشبه الجزيء وما يشبه الموجة في وقت واحد. وليس لأي من الجانبين أولوية على الآخر، وأي منهما ليس أكثر واقعية من الآخر. إلا أن ما يحرض جانبا من جوانب هذه الثنائية على الظهور هو الظروف المحيطة. ويتطلب الأمر كياسة عقلية ليستطيع الإنسان التعامل مع الماهية بمفهوم تركيبي أو مفهوم أن الشيء هو هذا وغيره، في نفس الوقت، وتؤكد نظرية الكم أن هذا الأمر يمكن تحقيقه باستمرار.

إذا تقبل الإنسان هذا النموذج: نموذج الموجة/ الجزيء، يصبح بالإمكان طرح أسئلة أكثر سموا عن ماهية الإنسان. ولن تنحصر المسألة في طرح أسئلة من نوع: هل الناس أمواج أم جزيئات؟ بل يمكن أن نتقدم بالسؤال: أي الأوضاع أفضل، هل هي التي ينشئها السلوك الشبيه بالموجة (أوضاع التلاحم الاجتماعي أو العائلي) أم هي التي ينشئها السلوك الشبيه بالجزيء (أوضاع استقلالية أكثر).

وخير من هذا السؤال: أي أساليب حياة وأي مؤسسات اجتماعية يمكن أن تسمح للجانبين بالتعبير عن أنفسهما تعبيرا ملائما؟

حوار سقراطي

الأمر الحاسم أن يتضمن الحوار الإبداعي حالة متوسطة بين الموجات البحتة والجزيئات البحتة (يطلق الفيزيائيون على هذه الحالة اسم الحالة المتوسطة التي لا هي بالموجة ولا هي بالجزيء). وما نحن بحاجة إليه هو التوقف عن السلوك الثابت، ومعاملة كلا الأمرين: وجهة نظرنا ووجهة نظر الآخر باعتبار أن لهما قيمة متساوية.

إن الإنسان ليغدو، في حالة "الموجة" البحتة مجرد كائن مغسول الدماغ تطغى عليه وجهة نظر الآخر، أما في حالة "الجزيء" البحت فقصارى جهده أن يتغلب على الآخر. وما ينقذ من هاتين الحالتين هو سلوك شبيه بسلوك الحوار السقراطي. وهو أمر ممكن يشعر به الإنسان ويكتشفه في أفضل المحاورات. إلا أن مثل هذا الحوار نادر اليوم في المؤسسات وبين الجماعات الثقافية، واللاتينية أو حتى داخل العائلة الواحدة.

السؤال الحيوي هو: أي أوضاع يمكن أن تفرض مثل هذا الحوار، إنه سؤال تزداد أهميته إذا ما أريد للمجتمعات المعاصرة أن تستعيد تلاحما ذا معنى وإجماعا يعترف بالاختلاف.

 

محمد الأسعد

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات