خليفة الوقيان شاعر الحلم والهم والحرية

خليفة الوقيان شاعر الحلم والهم والحرية

أستعير هذا العنوان أو بعضه من العنوان الذي اختارته الزميلة الدكتورة نجمة إدريس لكتابها القيّم الذي أفردته للحديث عن حياة وأدب الشاعر خليفة الوقيان وكان بعنوان: «خليفة الوقيان شاعر الحلم والهم».

ولا بأس نلتقي في العنوان وفي التناول، وقد قيل قديماً: «الشعر جادة يلتقي فيها الحافر على الحافر» والحافر هنا هو الرأي والمعنى والموقف، فقد تلتقي الآراء والمعاني والمواقف في الشعر وفي قراءته وقد تختلف، وكذلك في النقد، فقد تلتقي الآراء والمواقف. بل من البديهي أن تلتقي مادامت الغاية محاولة قراءة النص قراءة نقدية منصفة وجادة، ومن البديهي أيضاً أن تختلف مادام الشعر أوالفن أوسع من الجادة، بل هو فضاء قابل لتوليد الأفكار والمدلولات والإيحاءات والمعاني، وقابل لتعدد القراءات وتنوع الرؤى، ومادام كل منا لا يقرأ نص الشاعر فحسب، بل يقرأ به الآخرين، إذاً، فقد يلتقي نقاد الشعر وقد يختلفون في قراءة نص واحد، وقد يكون كل منهم مصيباً فيما ذهب إليه على الرغم من الاختلاف في وجهات النظر، وهكذا يختلف الشعر أو الفن عن العلم في المقابل لتعدد القراءات.

لو عدنا إلى ما بدأنا به وأردنا أن نوسع العنوان الذي اختارته الدكتورة إدريس لكتابها عن الشاعر الوقيان وعن تجربته الشعرية لأمكننا أن نضع عنواناً على النحو التالي: الوقيان شاعر القضايا الوطنية والقومية، أو شاعر الوجع الإنساني وشاعر البسطاء، أو العنوان التالي: الوقيان شاعر الحرية المصادرة، أو شاعر الحرية والحلم والهم.

ولأمكننا القول أيضاً: إنه الشاعر الحميم المتواضع الزاهد بالشهرة والأضواء.

الشعر لأجل الإنسانية

فالشاعر الوقيان من بين قلة من شعرائنا العرب المبدعين الذين كرسوا شعرهم لخدمة الحياة وخدمة قضايا الإنسان العربي وقضايا الحرية والعدالة ولم يلاقوا ما يستحقون من الدراسة والنقد. فالوقيان بقي في الساحة الخليجية فارساً لم يترجل، على الرغم من كل الضغوطات والتحديات التي تعرّض لها نتيجة تمسكه بنهجه التحرري، ولم يتخل في يوم عن حلمه في إمكان النهوض مما نحن فيه، بل بقي مرتبطاً بهموم أبناء شعبه وتطلعاته.

وعلى الرغم من أن الوقيان قامة عالية في شعرنا المعاصر يحظى بالإعجاب والتقدير لدى الكثير من الباحثين والدارسين العرب وأنه شاعر أصيل وبارز ومتأن في مسيرته الشعرية لا تستخفه أو تجرفه الأمواج الآنية والطارئة، أو الصرخات الغريبة فتفصله عن أصالته وتجذره، و تمنعه من التفاعل والتحاور مع الجديد الأصيل، وعلى الرغم من هذا، فإن الشاعر الوقيان لم يحظ بما يستحقه من اهتمام النقاد، ولم تنل تجربته الأصيلة الحميمة ما تستأهله من الانتشار، فجاءت دراسة الدكتورة نجمة إدريس عن شاعرنا الوقيان لتتلافى بعض هذا التقصير ولتسد ثغرة لايجوز أن تبقى.

إلا أن من الإنصاف القول إن دراسة الدكتورة إدريس لم يكن هدفها الوحيد الإنصاف وتلافي ما قصر عنه النقاد كما هو واضح في كتابها، بل إن تجربة الشاعر الوقيان الإبداعية وخصائصها الفنية والإنسانية إضافة إلى شخصية الشاعر نفسه، هي التي أغرتها في اقتحام عالمه الشعري وشجعتها على التغلغل في مسالك تجربته الإبداعية وصولاً إلى شخصية الإنسان في هذا الفنان المرهف،الحميم، الحالم، والمهموم أيضاً، والذي يبدو كثير المسالمة، لكنه في الحقيقة شديد التمسك بما يؤمن، وشديد الإصرار على بلوغ الأهداف التي آمن بها، شديد التواضع لكنه في آن شديد الترفع والتأبي، مهموم، لكنه ينقل بشعره ومحبته الفرح والأمل للآخرين، حالم، ولكنه قارئ صارم، واقعي، يقرأ واقعه بعمق وبصيرة ثاقبة، وهل أقدر من الشاعر على قراءة الحقائق والوصول إلى جوهرها والنفاذ إلى ما خلف مظهرها الخارجي؟

الشعر بين الواقع والحقيقة

يقول كولردج: الشعر هو الإدراك العاطفي للحقيقة، ووصفه مرة أخرى بأنه ترجمة الواقع إلى المثالي.

هذا القول ينطبق على الشاعر خليفة الوقيان، إذ يعبر الوقيان بالوجدان والعاطفة والحلم وبالهم أيضاً عن حقائق الواقع، ويعبر بالشعر عما يعبر عنه المفكر بالفكر، وإن من يقرأ شعر الوقيان بتأن وإمعان سيجد حالة من التنازع والتجاذب بين الشاعر الحالم وبين الشاعر المهموم، ويكتشف أن عنصر الحلم عند الوقيان الذي أنقذه من اليأس، لم ينقذه من الهم، وأن الهم المتصاعد من شعره لم يغلق عنده أبواب الحلم، ولم يحجب عنه رؤية الأمل المبثوث في حياة الشعب وإرادته وقدرته على الفعل والتغيير.

كذلك فإن الوقيان شاعر الحلم والهم لم يمنعه استغراقه في الحلم من أن يكون واقعياً وقارئاً عميق القراءة للحياة، بل إن هذا الشاعر الحالم الذي لم ينقذه الحلم من الهم، لم تمنعه الهموم من الأحلام، بقي مشدوداً في شعره إلى الحياة والإنسان وقضايا الحرية والعدالة، واستمر في ساحة التجاذبات الشديدة يغري بالقراءة والنقد، ولاشك أنه قد أغرى الدكتورة إدريس للدخول في عالمه الشعري للكشف عما تختزنه تجربته الفنية والحياتية والإنسانية من أبعاد وما تحتويه من معان وقيم، فجاءت القراءة ليست محاولة لقراءة شعر الشاعر كنصوص، بل محاولة لقراءة الشعر والشاعر معاً، قراءة مقارنة بين الكلمة وقائلها ستعينه على فهمها هذا بمعرفتها الشاعر نفسه معرفة عميقة يميزها التقدير والاحترام.

ولكن من حقنا أن نتساءل: إلى أي مدى حققت محاولة الناقدة الدكتورة إدريس هدفها وغايتها، وإلى أي حد أسعفتها معرفتها وقربها من الشاعر بفك رموز عالم الوقيان الشعري وقراءة أبجديته الإبداعية ولمحاته وإيحاءاته؟

لاشك أن الشاعر المبدع مثل شعره، قابل لتعدد القراءات، وإنه كالغابة أو البحر لا يكفي الدخول في الغابة أو العوم في البحر لاكتشاف أبعادهما وكل ما فيهما.

وأقول دون تحفظ: إن الشاعرة د.نجمة إدريس قد وقفت وقفات ذكية وواعية في قراءتها النقدية لتجربة الوقيان الشعرية، ليس باعتبارها ناقدة فحسب، بل باعتبارها شاعرة وشاهد معاينة يعرف الشاعر عن قرب، فمكنها حسها الشعري والنقدي من القراءة الذكية الواعية، ومن التركيز على محورين مهمين من شعر الوقيان هما «الحلم والهم» واستطاعت أن تكشف عن أهم خصائص شعر الوقيان ومزاياه، من تلاحم الشاعر وقضايا وطنه وأمته، وانشغاله بالقضايا العربية وهموم الإنسان العربي، ومعاناته وإخفاقاته وولعه بالحرية.

هواجس الحرية

يبقى العنصر الأخير وأعني به الحرية والذي وقفت عنده الدكتورة إدريس وقفة سريعة وتناولته لماماً على الرغم من أهميته البارزة في شعر الوقيان وفي حياتنا، وكان يستحق من الناقدة وقفة أطول واهتماما أكبر، ونحن نعتقد أن ذلك ربما يعود لاهتمام الناقدة وانشغالها بمحوري الحلم والهم في تجربة الشاعر، وهذا أمر بديهي حيال ما اختارته عنوانا لدراستها، وإن كنا نعتقد أن عنصر الحرية له الصدارة في شعر الوقيان، وإنه هاجس أساسي من هواجس الشاعر ومقوم جوهري من مقومات تجربته الشعرية والفكرية.

كنا نأمل من الدكتورة إدريس أن تقف عنده وقفة أطول وتوليه اهتماماً أكبر وتفرد له مساحة أوسع، ولكن من قال إن دراسة واحدة يمكنها أن تلتقط كل ما على شاطئ الشاعر من محار؟

أليس من حق من يتناول بالدراسة تجربة الشاعر أن يمسك بمحاور أخرى ويعطيها موقع الصدارة، أو يعتبرها ذات أهمية لا تقل عن محور الحلم والهم حتى محور الحرية؟

ولكن لماذا الحرية أولا - كما نرى - في شعر الوقيان؟

ولماذا للحرية الصدارة من وجهة نظرنا؟

ليس لحضورها الطاغي في شعر الشاعر فحسب، بل لأن الحرية مصادرة في حياتنا العربية، يصادرها التخلف والأمية، وتصادرها العادات والتقاليد والمفاهيم الخاطئة الجامدة، ويصادرها الإرث المديد من التسلط. ولأن الحرية توحد الشاعر الوقيان مع الآخر ولأنه كمبدع أكثر وعياً وإحساساً بدور الحرية وأهيمتها في مسيرة التقدم والتطور والإبداع، ولأنه كمصلح يدرك الخلاص الفردي ويدرك استحالة الحرية الفردية وسط مجتمع مشلول متخلف ملغى.. هذا التوحد مع الآخر، هو ما أعطى تجربة الوقيان الشعرية عمقها الإنساني ومنحها تميزها وجعل الذاتية شديدة الصلة بالغيرية والتجربة الفردية تجربة منفتحة على التجربة الإنسانية، وجعل الوقيان لا يتقمص الآخر بل يعيشه على طريقة الحلاج، إنه يعيش حالة حلول مع الآخر أو بالهو، أو حلول الآخر بالأنا.

ثم لأننا ندرك دور الحرية في إعادة بناء الإنسان العربي فكراً ووجداناً وسلوكاً وإرادة وإبداعاً.. وندرك دورها في تحريك حياتنا الراكدة وتحريك قوانا المعطلة وإرادتنا المصابة بالشلل، ثم لأن الشاعر أولىالحرية اهتماماً كبيراً بشكل مباشر أو تحت غلالة من الرمز والإيحاء.

ولأنني في تعقيبي هذا لا أنوي أن أتحدث بإسهاب عن تجربة الشاعر الوقيان أو حتى عن عنصر الحرية في شعره - وإن كنت آمل أن يجيء ذلك في دراسة لاحقة - أقف عند هذا الحل لأعتبر ما قلته مجرد قول على قول الدكتورة إدريس.

قول سريع عن الحرية والحلم في شعر الوقيان وعن الهم الذي يعيشه ونرى لونه ونتذوق طعمه فيشعره كله، هذا الهم المتحدر إليه ليس من الخارج أو من صورة الواقع الشاذ المشوه، بل النابع من الداخل، من التزام الشاعر نفسه بالآخر، بهموم الناس ومعاناتهم وأوجاعهم، وهذا ما جعل هم الشاعر هماً مضيئاً، هماً عذبا، إن صح القول.

لنستمع إلى الوقيان مجسداً هذا التوحد بالآخر:

ظمئتم
وتشققت قرب لكم
وتيبست أحشاؤكم
فأتيتكم بالماء من أقصى البقاع
بالنار بالظل الذي تتفيئون
وحملت أسفاراً
تناثر في ثنايا ليلكم دراً «فريداً» «شهباً» «أقماراً»
تضيء مفاوز الظلمات
تغرس للعفاة التائهين
منارة
درباً جديداً
أشقى
ومن سهد
ومن برد
ومن ظمأ وجوع
تطوى على حزن
ضلوعي
لم يخلق الرحمن لي عيناً
كعينكم
تطهر من خطاياها القديمة
بالدموع..

هذا هو هم الوقيان..

إنه هم يقدح زناده الالتزام والإرادة والتضحية.

هم محرك يضيء شمعة الأمل في الدرب الطويلة المعتمة.

وبهذا الالتزام بهموم الآخرين وبقضاياهم يعيش وينقل ضوء الحرية والفرح.

 

 

أحلام الزعيم